الرواية صريحة في أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان إزاره عادةً ليس تحت الكعبين ، وإنما - كما سمعتم - من الانطلاق والسَّير والميل يمينًا ويسارًا إلى آخره يرتخي هذا الإزار ، فيجاوز السَّاقين ، فخشيَ - وهذا من تقاه وورعه رضي الله عنه - أن يشمله ذاك الوعيد الشديد ؛ "لا ينظر الله إليه يوم القيامة" ؛ فطمأنَه - عليه الصلاة والسلام - بقوله : "إنك لا تفعل ذلك خيلاء" ، أما الآخرون فشتَّان - كما أشرنا - بين فعلهم وبين ما كان يقع من أبي بكر ؛ ذلك لأنَّ إزارهم كان على السُّنَّة ، بينما إزار هؤلاء ابتداءً ليس على السنة ؛ فإن أحدهم يفصِّل عباءته أو جبَّته طويل الذَّيل من عند الخيَّاط ، ويقول له : اجعل طوله إلى ما تحت الكعبين ؛ بزعم أنه لا يفعل ذلك خيلاء ، لكن هناك - يجب أن نلاحظ الآن - شيئان ؛ هناك قصد وهناك فعل ، والقصد هو النِّيَّة التي مقرُّها القلب ، ولا يعلم النوايا التي في الصدور إلَّا الله - تبارك وتعالى - ، أما الفعل فظاهر للعيان ؛ فمن كان مخلصًا في اتباع نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو يحاول دائمًا وأبدًا أن يتشبَّه به - عليه السلام - أو بالرسل الكرام ، فإذا سُلِّم لهذا الذي يدَّعي أن ثوبه الطويل لا يقصد به الكبر والخيلاء ؛ حينئذ سنقول له : هَبْ أن الأمر كذلك ، وإن كان الفعل يدل على أنَّ الأمر ليس كذلك ، يعني إيش معنى قصد تفصيل الثوب من عباءة أو جبَّة أو نحو ذلك تفصيلًا يتنافى مع ما سنَّه الرسول - عليه السلام - للمسلمين بعامة من نظام اللباس ؟ حيث قال - عليه السلام - : "الإزار إلى نصف الساق ، فإن طال فإلى الكعبين ، فإن طال ففي النار" ، فهو إذًا لا يرعوي ولا يلاحظ أبدًا هذا المنهج في لباس المسلم ، وإنما يتمسَّك فقط في الحديث الأول الذي جاء فيه ذكر أبي بكر ؛ أنه لا يفعل ذلك خيلاء ، هَبْ أن الأمر لا تفعله خيلاء ؛ فأين أنت من السنة العملية التي جعلها الرسول - عليه السلام - مرتبتين ، عليا ودنيا ، العليا يُثاب عليه المسلم ويؤجر ؛ لأنه - عليه السلام - كان كذلك ، الدُّنيا لا يُثاب عليه ولا يُؤجر ولا يُؤزر ، وهي أن يكون ثوبه إلى ما فوق الكعبين ؟ أما المرتبة الثالثة فقال - عليه السلام - : "فصاحبها في النار" .
هنا يجب أن يُلاحظ ما هو خلاصة الحدثين ؛ ألا وهو أنَّ إطالة الثوب ما دون الكعبين لا يجوز بنصِّ هذا الحديث الأخير ، قد يفعل ذلك بعضهم بدون قصد الكبر ، وإنما ممكن يُتصوَّر هذا ، قد يفعل ذلك بعضهم دون أن يقصد الخيلاء والكبر ؛ لكن يفعله تقليدًا واتباعًا أو تساهلًا وإهمالًا للسنة ، هذا هو الذي يلحقه فهو في النار ؛ كما قال : "ففي النار" ، أما من فعل ذلك قاصدًا للخيلاء ففيه ذاك الوعيد الشديد : "لا ينظر الله إليه ، ولا يكلِّمه يوم القيامة ، ولا يزكِّيه وله عذاب أليم" .
لذلك نحن ننصح كلَّ محبٍّ للسُّنَّة أن يحاول اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بأوسع معنى يُمكنه هذا الفرد أو كل فرد ما لم يكن ذلك في سنن العادة ، لأننا قد ذكرنا أكثر من مرَّة أن أفعال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تنقسم إلى قسمين ؛ سنن العبادة ، وسنن عادة ، فسنن العبادة يُؤجر المسلم عليها من المندوب إلى السنة المُؤكَّدة فضلًا عمَّا فوق ذلك من الواجبات ، أما سنن العادة فهي كثيرة ، بعضها راجع إلى طبيعة الأرض التي كان الرسول يعيش عليها من حرٍّ أو قرٍّ ، أو إلى الجبلَّة والطبيعة التي خلقه الله عليها ، فهو كان يحبُّ شيئًا ويكره شيئًا ، يحبُّ العسل ويكره - مثلًا - لحم الضب ؛ فلا يقال لإنسان يحبُّ لحم الضَّبِّ هذا مخالف للسنة ، أو للذي يحبُّ العسل هذا موافق للسنة ، هذه أمور جبليَّة لا يُمدح فاعلها ، ولا يُقدح في تاركها ، هذا ما يمكن قوله الآن بمناسبة هذا السؤال .
تفضَّل .