النصارى خالفوا هذا النهج ، وأعطوا ما كان من خصوصيَّات الله من حقِّ التشريع نقلوه لبعض قسِّيسيهم ورهبانهم وعلمائهم ، فكانوا إذا حرَّموا لهم شيئاً حرَّموه خضعوا ، وإذا أحلَّوا لهم شيئاً أحلُّوه ، وقد أشكلت هذه الآية على بعض أصحاب الرسول عليه السلام حينما نزلت ، وكان هو من العرب الأقلَّاء الذين تنصَّروا في الجاهلية ، لأنَّكم تعلمون أن العرب أمة أمية كما جاء في الحديث الصحيح ، فما كانوا أهل كتاب لكن بعض الأفراد منهم ممن أوتوا نباهةً وفطنةً تبيَّنت لهم أن أحوال قومهم العرب وثنيَّة محضة ، ووجدوا أن في دين النصارى شيء من العلم والثقافة فتنصَّر بعضهم ، كان من هؤلاء عديُّ بن حاتم الطائي، - حاتم الطائي المشهور بكرمه في العرب - ، تنصَّر في الجاهلية ، فلما جاء الله عز وجل بالإسلام على يد محمَّد عليه الصلاة والسلام أسلم وآمن به في قصة مرويَّة في * مسند الإمام أحمد * وغيره ، لما أسلم كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم يتلقَّى العلم منه ، لأنه عرف أن ما كان عليه من دين النصارى كان فيه انحراف كبير وكثير ، لما نزلت هذه الآية ما فهم المقصد منها ، قال : "يا رسول الله ! ما اتَّخذناهم أربابًا من دون الله" لأنه فهم كما يفهم كثير من الناس حتى اليوم أن معنى ذلك أن يقولوا : أنّ فلان خالق مع الله وفلان خالق مع الله هذا الكفر الذي اصطلح على تسميته بعض المحقِّقين من أهل العلم بكفر الربوبيَّة ، يُقابله توحيد الربوبيَّة ، ليس هذا هو المقصود في الآية ، خلافًا لما تبادر إلى ذهن عديِّ بن حاتم الطائي ، ما اتَّخذناهم أربابًا من دون الله ! ، فبيَّن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق السُّؤال والجواب ، ومنه تعلمنا نحن بعض أساليبنا في مناقشتنا لبعض الناس ، نسأله لنأخذ الجواب منه ، قال عليه السلام : "ألستم كنتم إذا حرَّموا لكم حلالًا حرَّمتموه ؟" إذا حرَّموا لكم حلالًا معروف عندكم أنَّه حلال ، لكن القسِّيس والراهب حرَّمه لكم ألستم كنتم تتبعونه ؟ قال : لا والعكس بالعكس ، أي : إذا حلَّل لكم حرامًا ألستم كنتم تحلِّلونه ؟! قال : بلى . قال عليه السلام : "فذاك اتِّخاذكم إيَّاهم أربابًا من دون الله" ، فالمقلِّد اليوم الذي تقول له : قال الله قال رسول الله فيُجابهك بقوله : هذا خلاف مذهبي
أئمة آخرين قد يكونون أعلى منه علمًا ومقامًا ، وهم على الأقل مثله في ذلك ، لكن معهم كتاب الله وحديث رسول الله ، فلا يُعرِّجوا على كلِّ ذلك ، لماذا ؟ لأنه تديَّن بالتقليد ، هذا التديُّن بالتقليد هذا الذي نحن معشرَ أهل السنة ، معشرَ أهل الحديث ، معشرَ أنصار السنة ، معشرَ السلفيين هذا الذي نحن ننكره ، لا ننكر على عامة الناس أن يُقلِّدوا ، لكن من الذين يُقلِّدون ؟ من هم المُقلَّدون لديهم ؟ هم الذين يقولون : قال الله قال رسول الله ، لا يجب عليهم بل لا يجوز لهم أن يُقلِّدوا من قال لهم هذا حرام ، ليه ؟ شو بعرفك أنت ؟ هيك النَّص هيك الفقه هيك الإمام قال هيك شيخي، هذا هو تطبيق حديث للضَّلال القديم { اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله } فنحن نريد من عامة المسلمين من عموم المسلمين عامَّتهم وخاصَّتهم ، الخاصَّة يقومون بواجب العلم الصحيح المستنبط من الكتاب والسًّنَّة ، العامَّة أن يسألوا أهل الذِّكر كم قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
إذن نحن لا نقول بهذه الرواية التي جاء السؤال عنها ، ولا أدري لها أصلًا أيضًا ، لا نحرِّم التقليد ولا نُوجب التقليد ، إنما نُوجب أن نكون عند أمر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } { على بصيرة أنا ومن اتبعني } فنحن ندعو كل المسلمين خاصَّتهم وعامَّتهم أن يكونوا على بصيرة من دينهم، لكن الطريق يختلف، الخاصَّة يكونون على بصيرة من دينهم بدون واسطة السؤال لغيرهم ، وإنما بالرجوع إلى كتاب الله وحديث رسول الله حينما يكونون أهلًا لذلك ، العامة بواسطة سؤالهم لهؤلاء، وحينذاك تتحقَّق البصيرة للأمة كلها.
ويجب أن نعلم أن أثر هذا التوجيه وهذه البصيرة التي ندعو المسلمين- كما قلنا نكرِّر - عامَّتهم وخاصَّتهم أن يكونوا عليها أنَّنا بذلك نغلق باب التدجيل أن ينطلي على بعض المسلمين ، لأن هؤلاء قد تسلَّحوا بقال الله وقال رسول الله ، فإذا جاءهم أحد الدَّجَّالين ليقول لهم قولًا ما سبقه أحد من العلماء السابقين السالفين ، ولا له دليل من كتاب الله ولا من حديث رسول الله ، فهذه البصيرة تدفع أهل البصيرة أن يُجابهوا هؤلاء بقولهم : { هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } وسوف لا يستطيعون أن يُثبتوا أنهم من الصادقين، بل حين يعجزون عن الإتيان بالبرهان يثبتون لأنفسهم أنهم من الكاذبين، غيره .
السائل : السائل السابق يزعم أن هذا رواه أبو يعلى في ترجمة أحمد بن جعفر بن يعقوب الفارسي الصفدي عن الإمام أحمد ... زعم.
الشيخ : يراجع لأن ليس كل ما يذكر في ترجمة إمام من أئمة المسلمين معنى ذلك أن الرواية صحيحة، غيره .