تم نسخ النصتم نسخ العنوان
بيان قاعدة : " مَن حَفِظَ حجَّة على مَن لم يحف... - الالبانيالسائل : فهناك - مثلًا - مسألة خلافية قديمة - ومما يُؤسف له أن يظلَّ هذا الخلاف في هذه المسألة وأمثالها مع وضوح الحجة مع الذين أثبتوا لا مع الذين نفوا -...
العالم
طريقة البحث
بيان قاعدة : " مَن حَفِظَ حجَّة على مَن لم يحفَظْ " .
الشيخ محمد ناصر الالباني
السائل : فهناك - مثلًا - مسألة خلافية قديمة - ومما يُؤسف له أن يظلَّ هذا الخلاف في هذه المسألة وأمثالها مع وضوح الحجة مع الذين أثبتوا لا مع الذين نفوا - ؛ مثلًا الصلاة ، المسألة فرعية بسيطة كما يقولون ، لكنها لها ثمار مُرَّة مع الأسف الشديد ، الخلاف منذ ألف سنة وزيادة لا يزال بين الحنفية والشافعية وغيرهم في رفع اليدين في الصلاة ، مثلًا المذهب الحنفي يقول : يُكره رفع اليدين في الصلاة إلا عند تكبيرة الإحرام ، الجمهور يقول بسنِّيَّة ذلك ، ليس للحنفية حجَّة إلا حديث فيه نفي ؛ أي : ليس فيه علم ، هذا الحديث هو المرويُّ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال لأصحابه يومًا : ألا أصلي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! فصلى ، فرفع يديه وكبَّر ، ثم لم يعُدْ إلى الرفع . فأخذ الحنفية بهذا الحديث وقالوا : لا يُشرع الرفع . بينما الجمهور معهم أحاديث كثيرة جدًّا في " الصحيحين " والسنن والمسانيد وغيرها عن نحو من أكثر من عشرين صحابيًّا كلهم يُثبت هذا الرفع عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فنحن إذا طبَّقنا هذه القاعدة استرَحْنا من الخلاف الذي أثبَتَ الرفع معنى ذلك أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه ، فهو عنده علم ، ومعنى الذي نفى الرفع أنه لم يَرَ الرسول - عليه السلام - ، فنحن لا نلومه ولا نقول له : لِمَ لَمْ تر ؟ وكيف خفِيَ عليك هذا ؟ لا ، الإنسان يعني له حدود وطاقات محدودة ، لكننا نقول للذين يتشبَّثون بهذا الخبر النافي لرفع اليدين ؛ لماذا تأخذون بخلاف القاعدة التي أنتم أنفسكم تعترفون بها وتقرِّرونها في علم الأصول " من حَفِظَ حجَّة على مَن لم يحفظ " ؟!
فالجماعة من الصحابة مثل ابن عمر ، مثل مالك بن حويرث ، مثل أنس بن مالك ، وجماعة كثيرون منهم من سُمِّي ومنهم من لم يُسَمَّ ؛ كلهم يقولون : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه ، ابن مسعود لم ير ذلك ؛ ولذلك لم يَثبُتْ عنه أنه رفع ، وأصحابه الكوفيون سلكوا مسلكه ومشوا طريقه ، فلا عَتَبَ على ابن مسعود ؛ لأنُّو هذا الذي عَلِمَه أو بلغه ، لكن التعصُّب له والأخذ بحديثه النافي خلاف هذه القاعدة المتفق عليها : " مَن عَلِمَ حجة على مَن لم يعلم ، ومَن حَفِظَ حجَّة على مَن لم يحفظ " ؛ ولذلك حَجَّ - أي : أقام الحُجَّة - الإمام البخاري - رحمه الله - في جزئه الخاص الذي ألَّفَه في رفع اليدين على المُختلف فيه ، فأقام الحجة على النافين لشرعية الرفع عند الركوع - مثلًا - بهذه القاعدة ، وقال : إن هذه القاعدة مأخوذة من نصوص شرعية أكثر منها أنه ذكر قصَّة الخلاف بين صحابيين جليلين ؛ أحدهما ابن عمر عن بلال ، والآخر ابن عباس ، بلال يقول لابن عمر ، وعمر يروي عنه أنه دخلَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جوف الكعبة في وسط الكعبة وصلى ركعتين ، ويصف وصفًا دقيقًا أنه حين صلَّى الرَّكعتين كان بينه وبين جدار الكعبة نحو ذراعين ، وأنه كان عن يمينه عمود وعن يساره عمود ، فهو صلى بين العمودين ، وهذا الوصف يعني أنه على علم بأنه يصف صلاة الرسول - عليه السلام - في ذلك المكان الطاهر وصفًا دقيقًا ، ولما خرج الرسول - عليه السلام - مع أصحابه تلقَّاهم ابن عمر ، فسأل بلالًا ، فذكر له أن الرسول - عليه السلام - صلى ركعتين هكذا ، ابن عباس وكلا الحديثين في " الصحيح " في البخاري ، ابن عباس يقول : لم يدخل الكعبة ولم يصلِّ إلا في قُبُل الكعبة ؛ يعني خارجها مستقبلًا لها .
يقول البخاري - رحمه الله - بعد أن يروي الخبرين عن صحابيين جليلين كلٌّ منهما ثقة قال : بخبر مَن أخَذَ العلماء ؟ بخبر مَن أثبت ؛ لأنَّ الذي أثبت علم ، والذي نفى لم يعلم ؛ فلا نقول له كما قلنا آنفًا : لمَ لَمْ تعلم ؟ لكننا نستفيد من الذي عَلِمَ علمًا لا نستفيده من هذا الذي لم يعلم . من هذا الحديث وأمثاله وُضِعت هذه القاعدة : " مَن عَلِمَ حجة على مَن يعلَمْ ومن حفظ حجَّة على من لم يحفظ " ، وبهذه القاعدة تُحلُّ مشاكل كثيرة .
لا يفوتُني أن أقول بأن مسألة الخلاف في رفع اليدين صحيح أنها مسألة فرعية وبسيطة كما يقولون ، ولكن تَرتَّبَ وراءها أشياء خطيرة جدًّا ؛ منها أن الصلاة وراء الذي يرفع يديه مكروهة تحريمًا ، ومنها - أي : من أثر هذا القول - انفصال أئمة المسلمين المساجد منذ مئات السنين إلى أكثر من إمام واحد في المسجد الواحد ، هذا حنفي وهذا شافعي ، وهذا يختلف باختلاف البلاد ؛ فإذا كانت البلاد في الدولة والصَّولة والسطوة لمذهب فليس هناك إلا إمام واحد ، وإذا كانت الصَّولة والجولة لمذهبين فهناك لا بد من أن يوجد إمامان ، وإلا فأربعة ، وهذا نحن كنَّا نشاهده إلى عهد قريب في المسجد الكبير هنا في مسجد بني أمية أربعة محاريب ، في كل محراب إمام ، حنفي شافعي مالكي حنبلي !! فهذا التفرُّق من أين جاء ؟ من هذه الخلافات اللي يسمُّونها بأنها خلافات سهلة وبسيطة ، فرفع اليدين في الصلاة مكروه تحريمًا ؛ لأنُّو هكذا مذهبنا يقول - يعني مذهب الحنفية - ، والصلاة وراء من يرفع يديه - أيضًا - تفرَّع من وراء ذلك هذا القول مكروهة ، فللخلاص من الكراهة نتَّخذ إمام يصلي على مذهبنا وما بيرفع يديه ونحو ذلك من الخلافات .
فإذًا على المسلمين فقهائهم وطلاب العلم منهم أن يحاولوا القضاء على مثل هذه الخلافات بالرجوع إلى القواعد والأصول التي اتَّفقوا عليها ، ومنها : " من عَلِمَ حجَّة على مَن لم يعلَمْ " .

Webiste