نقرأ في الكتب أن هذا رأي الجمهور ؛ فهل يعني ذلك الجمهور في عصر واحد فقط ؟ أم الجمهور في جميع العصور لهم نفس الرأي ؟ وما هو معنى الجمهور ؟
الشيخ محمد ناصر الالباني
السائل : أحيانا نقرأ في الكتب أن هذا رأي الجمهور ؛ فهل يعني ذلك الجمهور في عصر واحد فقط ؟ أم الجمهور في جميع العصور لهم نفس الرأي ؟ وما هو معنى الجمهور ؟
الشيخ : هذا يختلف بخلاف القائل للفظة الجمهور ، فإذا كان - مثلًا - كالإمام النووي وابن حجر العسقلاني فيعني بالجمهور في كل هذه القرون التي تقدمت ، وإذا كان القائل مثلا الإمام الخطابي أو المنذري ؛ فهو يعني ما قبل الحافظ ابن حجر والنووي يعني من القرون الثلاثة مثلا فإذا القضية نسبية ينظر إلى الذي مرت هذه الكلمة على شفتيه ، ففي العصر الذي هو كان موجودًا فيعني بالجمهور الذين كانوا في زمانه ومن قبله ، لا يشمل بداهة الذين من بعدهم ، أما هؤلاء المتأخرون ؛ فهم يعنون القرون كلها التي تلت بين أيديهم ، فهؤلاء هم الجمهور . فالقضية إذًا نسبية ليس لها معنى جامع يمكن ألا يُتوسَّع فيه ولا أن يُضيَّق .
السائل : معنى الجمهور ؟
الشيخ : الجمهور يعني الأكثر أكثر العلماء ، أكثر ما في هذه الدقة ، المهم أن هذا الذي يطلق لفظة الجمهور كالذي يقول أكثر العلماء ، هذا في تقديره هو ، أما بهذه الدقة أكثر يعني واحد وخمسون أو اثنان وخمسون أو خمسة وخمسون ؛ هذا أمر لا يتحرَّونه ولا يمكن تحريه .
السائل : أنه قال واحد معاصر ... .
الشيخ : لا ليس ... .
السائل : مخالفة رأي الجمهور ؟
الشيخ : مخالفة رأي الجمهور للدّليل ؛ فأمر واجب ، أما بدون دليل ؛ فلا شك أن النفس تطمئن للأكثرية أكثر من الأقلية ، إذا كان هناك دليل فالواجب اتباعه ، سواء كان موافقًا لرأي الجمهور أو الأكثرية ، أو مخالفًا ، أما إذا لم يكن ثمَّة دليل ؛ فالإنسان كما يشعر كل واحد منا أن رأي الأكثرية تطمئن إليه النفس أكثر من الأقلية ، الأصل إذًا هو اتباع الدليل من الكتاب والسنة ، فإذا لم يوجد الدليل عند طالب العلم فالنفس تطمئن لاتباع رأي الجمهور ، لكن لو خالفنا رأي الجمهور إلى رأي الأقلية لأن النفس اطمأنت لرأي الأقلية ؛ فلا بأس من ذلك لقوله - عليه السلام - : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون . نعم .
السائل : إذا كان الخلاف في فهم النص ، نص موجود عند الجميع ، لكن الجمهور يفهمونه فهمًا ؛ هل يكون هناك - أيضًا - ؟
الشيخ : نفس الجواب ، ليس هناك إلا الاطمئنان النفسي ، فما اطمأنَّت إليه نفس الإنسان ذهب إليه سواء كان موافقًا لرأي الجمهور أو مخالفًا ، ذلك أنه لا يوجد في الشريعة الحضُّ على التمسك بقول الأكثرية ، بل نحن لو أردنا أن نستحضرَ بعض النصوص لَوجدنا النصوص تذمُّ الأكثرية ، أما من الكتاب فقوله - تبارك وتعالى - : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، وقليل من عبادي الشكور ، ونحو ذلك ، أما من السنة فكلكم يستحضر حديث الفرق الإسلامية التي تنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة كما قال - عليه السلام - : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ؛ كلها في النار إلا واحدة ، فلا يوجد في الكتاب والسنة المدح للأكثرية والحض على التمسك بالأكثرية ، وحديث : عليكم بالجماعة ، ومن شذَّ شذَّ في النار ، أولًا الشطر الأول من الحديث صحيح ، أما الشطر الآخر ؛ فضعيف : ومن شذ شذ في النار ، وثانيًا فالجماعة ليست هي الأكثرية ، والمقصود في مثل هذا الحديث هو جماعة السلف الصالح ، حيث جاء تفسير ذلك في بعض الروايات في " سنن الترمذي " وغيره لما قال - عليه السلام - : كلها في النار إلا واحدة . قالوا : " من هي يا رسول الله ؟ " . قال : هي الجماعة . وفي رواية أخرى : هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي ، الجماعة التي يحضُّ الحديث السابق عليكم بالجماعة إنما هي جماعة السلف الصالح ، وهذا له بحث طويل لعل مناسبة أخرى تأتي نتحدث عنها - إن شاء الله - .
سائل آخر : الأكثرية المقصود بها هي من عامة الناس ؟
الشيخ : العلماء ، العلماء .
السائل : ... .
الشيخ : نعم .
السائل : طبعًا والإجماع هل هو رأي الأكثرية ؟
الشيخ : الإجماع لا يساوي الأكثرية عند علماء الأصول ، والإجماع طبعًا له تعاريف كثيرة ، فمنهم من يقول إجماع الأمة ، ومنهم من يقول إجماع العلماء ، يعني فخرج بهذا القيد غير العلماء ، ومنهم من يقول إجماع الصحابة ، وهذا - أيضًا - فيه كلام كثير جدًّا تكلم الشوكاني في " إرشاد الفحول " والصديق حسن خان في " تحصيل المأمول من علم الأصول " وغيرهم ، وبخاصة الإمام ابن حزم في كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " فإن مثل هذه الإجماعات لا يمكن أن تقع فضلًا عن أنه لا يمكن أن تُنقل لو وقعت ، فإجماع العلماء في عصر واحد كيف يمكن أن يتحقق ؟ وإذا تحقّق فمن الذي ينقل ؟ من الذي يستطيع أن يتصل بأفراد الإجماع هذا ؟ هذا أمر يعني أشبه بالمستحيلات فهو أمر نظري ، ولا سيما أن هذا الإجماع الذي يتحدثون عنه يُرتبون عليه تكفير من يخالفه ! فتكفير من يخالف أمرًا لا يمكن أن يتحقق ولو تحقق لا يمكن نقله ، فكيف يُبنى عليه التكفير ، لكن الحقيقة التكفير الذي ينقلونه مقرونًا بمخالفة الإجماع ؛ فهو مخالفة الإجماع اليقيني الذي يعبِّر عنه بعض علماء الأصول : " بمخالفة ما ثبت من الدين بالضرورة " ، مخالفة ما ثبت من الدين بالضرورة هذا الذي يستلزم التكفير بعد إقامة الحجة كما هي القاعدة ، وعلى هذا النوع من الإجماع يُطبَّق قول ربنا - تبارك وتعالى - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا . وهذا الإجماع هو الذي استدل الإمام الشافعي عليه بهذه الآية ويتبع غير سبيل المؤمنين ، فسبيل المؤمنين جميعًا إذا كانوا على منهج فخُولف فذلك هو الضلال المبين ، أما أمر يُدَّعى فلا يمكن وقوعه ولا يمكن تصوره ؛ فهذا ليس بالإجماع الذي إذا خالفه الإنسان اعتُبر ضالًّا ، ولَحِقَه الوعيد المذكور في الآية السابقة .
السائل : ... في عهد الصحابة .
الشيخ : لا يمكن .
السائل : حتى في عهد الصحابة ؟
الشيخ : حتى في عهد الصحابة ، وهذا أمر سهل أن يتصوّره الإنسان أن الصحابة كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أقرب بعضهم إلى بعض من حيث أقاليمهم وبلادهم ، أما بعد الرسول - عليه السلام - حيث هناك يكون الناس بحاجة إلى ما قد يُسمى بالإجماع ، فقد تفرقوا في البلاد بسبب الفتوحات الإسلامية ؛ فكيف يمكن أن نتصور أن هؤلاء الصحابة جميعًا على بعد الدار بعضهم من بعض أنهم أجمعوا على مسألة ، ويأتي الكلام السابق : أين اجتمعوا ؟ ومن الذي لقيهم فنقل عنهم ذلك الإجماع ؟ هذا كله لا يمكن إثباته ، لكن هناك أمر أبسط من هذا الأمر المعقد ، وهو أنه يكفي المسلم أن يثبت لديه أن بعض الصحابة قالوا شيئًا أو فعلوا شيئًا أن يكون ذلك دليلًا صالحًا له وأن يتمسك به ، أما أن يدعى أن هذا هو الإجماع ؛ فهذا خلاف ما يدل عليه تعابيرهم ، ولفظة الإجماع نفسها من حيث اللغة العربية .
هناك إجماع من أنواع الإجماع يسمَّى بالإجماع السكوتي ، أيضًا بالمعنى الإجماع العام السابق إذا - مثلًا - تكلم أحد الصحابة في حضور جمع منهم بكلمة أو فعل فعلًا له علاقة بالشريعة ، وسكتوا على ذلك ؛ فلا شك أن النفس تطمئن لمثل هذا الإجماع السكوتي ، نقول : ليس هو الإجماع الذي عرفناه ، ويقولون إجماع الأمة ، أو إجماع علماء الأمة ، أو إجماع الصحابة ، إنما هذا إجماع نسبي ، فمثل - مثلًا - ما جاء في " صحيح البخاري " أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب يوم الجمعة الصحابة في خلافته فتَلَا عليهم آية فيها سجدة تلاوة ، فنزل من المنبر ، وسجد وسجدوا معه ، ثم في الجمعة التالية خطبهم - أيضًا - ومرت به آية سجدة فتهيَّأ الناس ليسجدوا كما فعلوا في الجمعة السابقة فقال لهم : " إن الله - تبارك وتعالى - لم يكتبها علينا إلا أن نشاء " ، أي : سجود التلاوة أو سجدة التلاوة ، " إن الله لم يكتبها " أي : يفرضها علينا إلا أن نشاء ، فالأمر موكول إلى اختيارنا ، وما وُكل إلى اختيارنا لا شك أنه لا يكون مما فرضه الله علينا ؛ لأن الفرائض المعروفة في كل العبادات ليس لنا الخيرة في أن نفعلَها أو نتركَها ، لكن الواجب علينا وجوبا عينيا أن نفعله ، فحينما قال عمر - رضي الله عنه - للحاضرين في المسجد : " إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء " ، وأكَّد ذلك بفعله حيث أنه لم ينزل ليسجد ولا - أيضًا - سجد الناس الذين هم في المسجد ، هذا النوع يُقال فيه : هذا إجماع سكوتي ؛ لأن كل من كان هناك من الصحابة والتابعين ما أحد أنكر عليه أو ... الحجة من كتاب الله أو حديث رسول الله - صلى الله عليه سلم - ، فلا شك أن النفس تطمئن لمثل هذا الحكم أكثر من أن يطمئن لقول من جاء من بعدهم ، كالحنفية - مثلًا - الذين يقولون بوجوب سجدة التلاوة وجوبًا يأثم تاركه ، فما فعله عمر بن الخطاب وأقرَّه عليه الصحابة الحاضرون ، وهذا - وإن لم يكن إجماع الصحابة - لكن هو هذا الإجماع من هذا العدد الذي كان موجودًا في المسجد ، فالنفس تطمئن لاتباعهم ، لا سيما وقد أُمرنا بالاقتداء بهديهم .
السائل : ... قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يجمع الله أمتي على ضلالة ... .
الشيخ : لا ، هذا وهم شائع بين الناس ، قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة لا يعني أن الإجماع الذي ذكرناه آنفًا إما بالتعريف الأول إجماع الأمة ، إلا بالتفسير الذي ذكرناه " وهو المعلوم من الدين بالضرورة " ، فهذا أمر صحيح ، وبالتفسير الثاني إجماع علماء الأمة ، التفسير الثالث إجماع الصحابة في عصرهم ، لا يعني الحديث شيئًا من هذا ، وإنما يعني أمرًا ممكن وقوعه بل هو واقع وممكن تصوره ، لو فرضنا أن عدد الصحابة في زمن ما وهم مجتمعون في مكان ما عددهم - مثلًا - مائة ، وطرحت مسألة على بساط البحث بين أيديهم فاختلفوا على قولين : نفترض أن تسعين منهم كانوا في جانب ، عشرة منهم كانوا في الجانب الآخر ، بل تسع وتسعون كانوا على رأي ، وواحد كان على رأي ، فهنا يمكن أن نتصور أن هذا الفرد الحق معه فضلًا عن عشرة أو عشرين ، والآخرين الخطأ معه هنا يصدق قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، لأن الحق كما تعلمون في ظني لا يتعدد لقوله - تبارك وتعالى - : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، فالحق إذًا يدور بين هاتين الجماعتين ، أو هذين الفريقين ، الكثير والقليل ، ولما كان من الثابت عندنا يقينًا أن الترجيح بالأكثرية ليس مرجحًا ، فإذًا يمكن أن يكون الحق مع الأقلية ، وأن يكون الخطأ مع الأكثرية ، فهنا يأتي قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة ؛ لأن الحق وُجد مع أحد الفريقين ، ولا يهمنا الآن أن الحق مع الأكثرية أو الأقلية ، لكن قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة فلو انفرد واحد منهم وكان الحق مع الأكثرية ، فما اجتمعت الأمة على ضلالة ، ولو كان الحق مع الفرد كما يقول ابن مسعود : " الجماعة من كان معه الحق ولو كان واحدًا " ، فعلى كل حال فقوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة هذا محله ، أما أن الأمة كلها ولا يشذُّ منها شخص فهذا ليس من الضروري أن يكون ... هو على ذلك ، لكن لعلكم تبيَّنتم من كلامي هذا أن الأمر الذي لا شك فيه هو أن المسلمين يمكن أن يُجمعوا على شيء ، لكن ليس على التعريف الأصولي أن يُنقل كلام كل عالم نقلًا ثم ينقله إنسان أو أكثر ، ليس هذا هو المقصود ، المقصود بالإجماع الذي يعبَّر عنه بـ " المعلوم من الدين بالضرورة " ، هو ما سار عليه المسلمون كما ذكرنا آنفًا ، استدلال الإمام الشافعي بقوله - تعالى - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا ، أما المسائل التي تدور على البحث العلمي والنظري ؛ فهذا لا يمكن أبدًا أن يُدَّعى أن المسلمين أجمعوا ؛ لأنه لا يُتصوَّر إجماعهم في مكان ، أو تفرقهم في مكان ، ونقل أقوالهم جميعًا بواسطة شخص أو أكثر ، فأظن وضح معنى قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
نعم .
الشيخ : هذا يختلف بخلاف القائل للفظة الجمهور ، فإذا كان - مثلًا - كالإمام النووي وابن حجر العسقلاني فيعني بالجمهور في كل هذه القرون التي تقدمت ، وإذا كان القائل مثلا الإمام الخطابي أو المنذري ؛ فهو يعني ما قبل الحافظ ابن حجر والنووي يعني من القرون الثلاثة مثلا فإذا القضية نسبية ينظر إلى الذي مرت هذه الكلمة على شفتيه ، ففي العصر الذي هو كان موجودًا فيعني بالجمهور الذين كانوا في زمانه ومن قبله ، لا يشمل بداهة الذين من بعدهم ، أما هؤلاء المتأخرون ؛ فهم يعنون القرون كلها التي تلت بين أيديهم ، فهؤلاء هم الجمهور . فالقضية إذًا نسبية ليس لها معنى جامع يمكن ألا يُتوسَّع فيه ولا أن يُضيَّق .
السائل : معنى الجمهور ؟
الشيخ : الجمهور يعني الأكثر أكثر العلماء ، أكثر ما في هذه الدقة ، المهم أن هذا الذي يطلق لفظة الجمهور كالذي يقول أكثر العلماء ، هذا في تقديره هو ، أما بهذه الدقة أكثر يعني واحد وخمسون أو اثنان وخمسون أو خمسة وخمسون ؛ هذا أمر لا يتحرَّونه ولا يمكن تحريه .
السائل : أنه قال واحد معاصر ... .
الشيخ : لا ليس ... .
السائل : مخالفة رأي الجمهور ؟
الشيخ : مخالفة رأي الجمهور للدّليل ؛ فأمر واجب ، أما بدون دليل ؛ فلا شك أن النفس تطمئن للأكثرية أكثر من الأقلية ، إذا كان هناك دليل فالواجب اتباعه ، سواء كان موافقًا لرأي الجمهور أو الأكثرية ، أو مخالفًا ، أما إذا لم يكن ثمَّة دليل ؛ فالإنسان كما يشعر كل واحد منا أن رأي الأكثرية تطمئن إليه النفس أكثر من الأقلية ، الأصل إذًا هو اتباع الدليل من الكتاب والسنة ، فإذا لم يوجد الدليل عند طالب العلم فالنفس تطمئن لاتباع رأي الجمهور ، لكن لو خالفنا رأي الجمهور إلى رأي الأقلية لأن النفس اطمأنت لرأي الأقلية ؛ فلا بأس من ذلك لقوله - عليه السلام - : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون . نعم .
السائل : إذا كان الخلاف في فهم النص ، نص موجود عند الجميع ، لكن الجمهور يفهمونه فهمًا ؛ هل يكون هناك - أيضًا - ؟
الشيخ : نفس الجواب ، ليس هناك إلا الاطمئنان النفسي ، فما اطمأنَّت إليه نفس الإنسان ذهب إليه سواء كان موافقًا لرأي الجمهور أو مخالفًا ، ذلك أنه لا يوجد في الشريعة الحضُّ على التمسك بقول الأكثرية ، بل نحن لو أردنا أن نستحضرَ بعض النصوص لَوجدنا النصوص تذمُّ الأكثرية ، أما من الكتاب فقوله - تبارك وتعالى - : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، وقليل من عبادي الشكور ، ونحو ذلك ، أما من السنة فكلكم يستحضر حديث الفرق الإسلامية التي تنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة كما قال - عليه السلام - : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ؛ كلها في النار إلا واحدة ، فلا يوجد في الكتاب والسنة المدح للأكثرية والحض على التمسك بالأكثرية ، وحديث : عليكم بالجماعة ، ومن شذَّ شذَّ في النار ، أولًا الشطر الأول من الحديث صحيح ، أما الشطر الآخر ؛ فضعيف : ومن شذ شذ في النار ، وثانيًا فالجماعة ليست هي الأكثرية ، والمقصود في مثل هذا الحديث هو جماعة السلف الصالح ، حيث جاء تفسير ذلك في بعض الروايات في " سنن الترمذي " وغيره لما قال - عليه السلام - : كلها في النار إلا واحدة . قالوا : " من هي يا رسول الله ؟ " . قال : هي الجماعة . وفي رواية أخرى : هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي ، الجماعة التي يحضُّ الحديث السابق عليكم بالجماعة إنما هي جماعة السلف الصالح ، وهذا له بحث طويل لعل مناسبة أخرى تأتي نتحدث عنها - إن شاء الله - .
سائل آخر : الأكثرية المقصود بها هي من عامة الناس ؟
الشيخ : العلماء ، العلماء .
السائل : ... .
الشيخ : نعم .
السائل : طبعًا والإجماع هل هو رأي الأكثرية ؟
الشيخ : الإجماع لا يساوي الأكثرية عند علماء الأصول ، والإجماع طبعًا له تعاريف كثيرة ، فمنهم من يقول إجماع الأمة ، ومنهم من يقول إجماع العلماء ، يعني فخرج بهذا القيد غير العلماء ، ومنهم من يقول إجماع الصحابة ، وهذا - أيضًا - فيه كلام كثير جدًّا تكلم الشوكاني في " إرشاد الفحول " والصديق حسن خان في " تحصيل المأمول من علم الأصول " وغيرهم ، وبخاصة الإمام ابن حزم في كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " فإن مثل هذه الإجماعات لا يمكن أن تقع فضلًا عن أنه لا يمكن أن تُنقل لو وقعت ، فإجماع العلماء في عصر واحد كيف يمكن أن يتحقق ؟ وإذا تحقّق فمن الذي ينقل ؟ من الذي يستطيع أن يتصل بأفراد الإجماع هذا ؟ هذا أمر يعني أشبه بالمستحيلات فهو أمر نظري ، ولا سيما أن هذا الإجماع الذي يتحدثون عنه يُرتبون عليه تكفير من يخالفه ! فتكفير من يخالف أمرًا لا يمكن أن يتحقق ولو تحقق لا يمكن نقله ، فكيف يُبنى عليه التكفير ، لكن الحقيقة التكفير الذي ينقلونه مقرونًا بمخالفة الإجماع ؛ فهو مخالفة الإجماع اليقيني الذي يعبِّر عنه بعض علماء الأصول : " بمخالفة ما ثبت من الدين بالضرورة " ، مخالفة ما ثبت من الدين بالضرورة هذا الذي يستلزم التكفير بعد إقامة الحجة كما هي القاعدة ، وعلى هذا النوع من الإجماع يُطبَّق قول ربنا - تبارك وتعالى - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا . وهذا الإجماع هو الذي استدل الإمام الشافعي عليه بهذه الآية ويتبع غير سبيل المؤمنين ، فسبيل المؤمنين جميعًا إذا كانوا على منهج فخُولف فذلك هو الضلال المبين ، أما أمر يُدَّعى فلا يمكن وقوعه ولا يمكن تصوره ؛ فهذا ليس بالإجماع الذي إذا خالفه الإنسان اعتُبر ضالًّا ، ولَحِقَه الوعيد المذكور في الآية السابقة .
السائل : ... في عهد الصحابة .
الشيخ : لا يمكن .
السائل : حتى في عهد الصحابة ؟
الشيخ : حتى في عهد الصحابة ، وهذا أمر سهل أن يتصوّره الإنسان أن الصحابة كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أقرب بعضهم إلى بعض من حيث أقاليمهم وبلادهم ، أما بعد الرسول - عليه السلام - حيث هناك يكون الناس بحاجة إلى ما قد يُسمى بالإجماع ، فقد تفرقوا في البلاد بسبب الفتوحات الإسلامية ؛ فكيف يمكن أن نتصور أن هؤلاء الصحابة جميعًا على بعد الدار بعضهم من بعض أنهم أجمعوا على مسألة ، ويأتي الكلام السابق : أين اجتمعوا ؟ ومن الذي لقيهم فنقل عنهم ذلك الإجماع ؟ هذا كله لا يمكن إثباته ، لكن هناك أمر أبسط من هذا الأمر المعقد ، وهو أنه يكفي المسلم أن يثبت لديه أن بعض الصحابة قالوا شيئًا أو فعلوا شيئًا أن يكون ذلك دليلًا صالحًا له وأن يتمسك به ، أما أن يدعى أن هذا هو الإجماع ؛ فهذا خلاف ما يدل عليه تعابيرهم ، ولفظة الإجماع نفسها من حيث اللغة العربية .
هناك إجماع من أنواع الإجماع يسمَّى بالإجماع السكوتي ، أيضًا بالمعنى الإجماع العام السابق إذا - مثلًا - تكلم أحد الصحابة في حضور جمع منهم بكلمة أو فعل فعلًا له علاقة بالشريعة ، وسكتوا على ذلك ؛ فلا شك أن النفس تطمئن لمثل هذا الإجماع السكوتي ، نقول : ليس هو الإجماع الذي عرفناه ، ويقولون إجماع الأمة ، أو إجماع علماء الأمة ، أو إجماع الصحابة ، إنما هذا إجماع نسبي ، فمثل - مثلًا - ما جاء في " صحيح البخاري " أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب يوم الجمعة الصحابة في خلافته فتَلَا عليهم آية فيها سجدة تلاوة ، فنزل من المنبر ، وسجد وسجدوا معه ، ثم في الجمعة التالية خطبهم - أيضًا - ومرت به آية سجدة فتهيَّأ الناس ليسجدوا كما فعلوا في الجمعة السابقة فقال لهم : " إن الله - تبارك وتعالى - لم يكتبها علينا إلا أن نشاء " ، أي : سجود التلاوة أو سجدة التلاوة ، " إن الله لم يكتبها " أي : يفرضها علينا إلا أن نشاء ، فالأمر موكول إلى اختيارنا ، وما وُكل إلى اختيارنا لا شك أنه لا يكون مما فرضه الله علينا ؛ لأن الفرائض المعروفة في كل العبادات ليس لنا الخيرة في أن نفعلَها أو نتركَها ، لكن الواجب علينا وجوبا عينيا أن نفعله ، فحينما قال عمر - رضي الله عنه - للحاضرين في المسجد : " إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء " ، وأكَّد ذلك بفعله حيث أنه لم ينزل ليسجد ولا - أيضًا - سجد الناس الذين هم في المسجد ، هذا النوع يُقال فيه : هذا إجماع سكوتي ؛ لأن كل من كان هناك من الصحابة والتابعين ما أحد أنكر عليه أو ... الحجة من كتاب الله أو حديث رسول الله - صلى الله عليه سلم - ، فلا شك أن النفس تطمئن لمثل هذا الحكم أكثر من أن يطمئن لقول من جاء من بعدهم ، كالحنفية - مثلًا - الذين يقولون بوجوب سجدة التلاوة وجوبًا يأثم تاركه ، فما فعله عمر بن الخطاب وأقرَّه عليه الصحابة الحاضرون ، وهذا - وإن لم يكن إجماع الصحابة - لكن هو هذا الإجماع من هذا العدد الذي كان موجودًا في المسجد ، فالنفس تطمئن لاتباعهم ، لا سيما وقد أُمرنا بالاقتداء بهديهم .
السائل : ... قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يجمع الله أمتي على ضلالة ... .
الشيخ : لا ، هذا وهم شائع بين الناس ، قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة لا يعني أن الإجماع الذي ذكرناه آنفًا إما بالتعريف الأول إجماع الأمة ، إلا بالتفسير الذي ذكرناه " وهو المعلوم من الدين بالضرورة " ، فهذا أمر صحيح ، وبالتفسير الثاني إجماع علماء الأمة ، التفسير الثالث إجماع الصحابة في عصرهم ، لا يعني الحديث شيئًا من هذا ، وإنما يعني أمرًا ممكن وقوعه بل هو واقع وممكن تصوره ، لو فرضنا أن عدد الصحابة في زمن ما وهم مجتمعون في مكان ما عددهم - مثلًا - مائة ، وطرحت مسألة على بساط البحث بين أيديهم فاختلفوا على قولين : نفترض أن تسعين منهم كانوا في جانب ، عشرة منهم كانوا في الجانب الآخر ، بل تسع وتسعون كانوا على رأي ، وواحد كان على رأي ، فهنا يمكن أن نتصور أن هذا الفرد الحق معه فضلًا عن عشرة أو عشرين ، والآخرين الخطأ معه هنا يصدق قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، لأن الحق كما تعلمون في ظني لا يتعدد لقوله - تبارك وتعالى - : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، فالحق إذًا يدور بين هاتين الجماعتين ، أو هذين الفريقين ، الكثير والقليل ، ولما كان من الثابت عندنا يقينًا أن الترجيح بالأكثرية ليس مرجحًا ، فإذًا يمكن أن يكون الحق مع الأقلية ، وأن يكون الخطأ مع الأكثرية ، فهنا يأتي قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة ؛ لأن الحق وُجد مع أحد الفريقين ، ولا يهمنا الآن أن الحق مع الأكثرية أو الأقلية ، لكن قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة فلو انفرد واحد منهم وكان الحق مع الأكثرية ، فما اجتمعت الأمة على ضلالة ، ولو كان الحق مع الفرد كما يقول ابن مسعود : " الجماعة من كان معه الحق ولو كان واحدًا " ، فعلى كل حال فقوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة هذا محله ، أما أن الأمة كلها ولا يشذُّ منها شخص فهذا ليس من الضروري أن يكون ... هو على ذلك ، لكن لعلكم تبيَّنتم من كلامي هذا أن الأمر الذي لا شك فيه هو أن المسلمين يمكن أن يُجمعوا على شيء ، لكن ليس على التعريف الأصولي أن يُنقل كلام كل عالم نقلًا ثم ينقله إنسان أو أكثر ، ليس هذا هو المقصود ، المقصود بالإجماع الذي يعبَّر عنه بـ " المعلوم من الدين بالضرورة " ، هو ما سار عليه المسلمون كما ذكرنا آنفًا ، استدلال الإمام الشافعي بقوله - تعالى - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا ، أما المسائل التي تدور على البحث العلمي والنظري ؛ فهذا لا يمكن أبدًا أن يُدَّعى أن المسلمين أجمعوا ؛ لأنه لا يُتصوَّر إجماعهم في مكان ، أو تفرقهم في مكان ، ونقل أقوالهم جميعًا بواسطة شخص أو أكثر ، فأظن وضح معنى قوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
نعم .
الفتاوى المشابهة
- ما حكم الإجماع؟ - الالباني
- معنى الإجماع وهل يمكن تحققه في عصر الصحابة ومن... - الالباني
- ما رأيكم في الإجماع من حيث الحجية والثبوت والن... - الالباني
- الرد على ادعاء أن كشف المرأة وجهها هو قول الجمهور - ابن باز
- بيان إجماع العلماء وإجماع الأمة والشذوذ و بيان... - الالباني
- هل حديث : ( لا تجتمع أمَّتي على ضلالة ) دليل ع... - الالباني
- ما معنى كلمة " جمهور النحويين " - ابن عثيمين
- هل حديث ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) دليل على ص... - الالباني
- فتوى الناس بغير قول الجمهور - اللجنة الدائمة
- أحيانا نقرأ في الكتب أن هذا رأي الجمهور فهل يع... - الالباني
- نقرأ في الكتب أن هذا رأي الجمهور ؛ فهل يعني ذل... - الالباني