تتمة لباب :
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : لذلك قال أبو ذر : عن النبي عن الله - تبارك وتعالى - ، قال ربنا - تبارك وتعالى - : يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ، يا عبادي إنكم الذين تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أُبالي فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلى من كسوته فاستكسوني أكسُكم ، يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب عبدٍ منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئًا ، ولو كانوا على أفجر قلب رجل لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا ، ولو اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ منهم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص البحرُ أن يغمص فيه المــــِخيط غمسة واحدة ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أجعلها عليكم ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومُ إلا نفسه .كان أبو إدريس -وهو أحد رواة هذا الحديث- إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه . انتهى الحديث : وجثي أبو إدريس راوي الحديث على ركبتيه إشعار بأهمية هذا الحديث القدسي ، شأن الإنسان لما يفاجأ بشيء يقف هكذا على ركبه كأنه مبهوت ومأخوذ ، فهذا الحديث في الواقع مع كونه مِن كلام الله - عز وجل - وكلام الله له تأثير كما تعلمون جميعًا ، لكن فيه - أيضًا - بيان أنه هو الغني عن العالمين ، وأنه المتفضل على عباده أجمعين ، فهو يفصل في هذا الحديث القدسي شيئًا من كبريائه - تبارك وتعالى - وعظمته : أول ذلك أنه يخاطب عباده فيقول : يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي : في هذه الفقرة الأولى بحثٌ واسعٌ جدًّا له علاقة بالتوحيد من جهة ، ومن جهة أخرى بما يسمونه بعلم الكلام ، لأن قول الله - تبارك وتعالى - : حرمت الظلم على نفسي فيه تصريح بشيئين اثنين ربما لا ينتبه لأحدهما كثير من الناس ، أما أن الظلم أن الله - عز وجل - مُنزه عنه فهذا أمر مجمع بين المسلمين جميعًا والآيات كثيرة وكثيرة جدًّا في هذا الصدد ، ولكن فلسفة التحريم هذا له علاقة بعلم الكلام ، فنحن نسمعُ ونقرأ في هذا الحديث هذا التعبير الذي لم يأتِ في القرآن الكريم ، ربنا يتنزه في القرآن أن يظلم الناس شيئًا وهذا لا شك فيه ، لكن الحديث يصرح بشيء آخر يقول : حرمت الظلم على نفسي : وهذا يعني أن في قدرة الله - تبارك وتعالى - لو شاء أن يظلم الناس ، من أين نأخذ هذا ؟من قوله : حرمت الظلم على نفسي ففيه إشارة قوية جدًّا إلى أن الظلم في مُتناول قدرة الله - تبارك وتعالى - وأنه قادر على كل شيء ومن ذلك أن يظلم الناس لو شاءَ ، ولكن الله - عز وجل - في هذا الحديث ينبهنا أنه من كماله أنه ترفَّع عن أن يظلم الناس شيئًا وهو يستطيع ذلك ، ولكنه حاشاه أن يظلم الناس شيئًا ، لذلك جاء بهذا التعبير العربي الصريح : إني حرمت الظلم على نفسي .أما ما يتعلق بعلم الكلام فهو أن يوضح ما هو المقصود من الظلم ، أو بعبارة أخرى ما معنى الظلم لغة : " إن الظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير محله المناسب له " ، الظلم في اللغة : هو وضع الشيء في غير مكانه المناسب له ، وعبارة رجل من كبار علماء اللغة بالنص الواحد قال الراغب الأصبهاني هو : " -أي الظلم لغة- وضع الشيء في غير موضعه المختص به بنقص أو زيادة أو عدول عن وقته أو مكانه " ، هذا تعريف الظلم ، فربنا - عز وجل - حينما يصرح في هذا الحديث بأنه حرم الظلم على نفسه معناه أنه لا يضع الشيء بغير موضعه اللائق به ، لا يضع الشيء في مكانه المناسب له ناقصًا أو زائدًا أو نحو ذلك مما ينافي صفة الكمال ، هذا هو الظلم ، وهذا هو مما تنزه ربنا - عز وجل - عنه .