تتمة شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله - تبارك وتعالى - : ( يا عبادي ، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه ؛ فاستهدوني أهدكم ) .
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : قال الله - تبارك وتعالى - : يا عبادي ، إني حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّمًا ؛ فلا تظالموا . يا عبادي ، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه ؛ فاستهدوني أهدكم .
هذا الحديث له علاقة بالقضاء والقدر الذي أساءَ فهمَه كثيرٌ من المسلمين ، فكان فيهم مَن يقول بالجبر ، وبأن الإنسان لا يملك أن يكون سعيدًا ولا يملك أن يكون شقيًّا ، وإنما هو القدر المحتوم ؛ فهذا الحديث يردُّ على هؤلاء ، فيقول : كلكم ضالٌّ إلا من هديته ؛ إذًا ما دام الله كما قال في القرآن الكريم : "" يهدي من يشاء ويضل من يشاء "" نستسلم نحن لهذا الأمر الحقيقي الواقع أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فإن كنا من المهتدين فسنهتدي ، وإن كنا من الضالِّين فلا سبيل للهداية ، فلنقل هكذا يأتي تتمة الجملة هذه في الرَّدِّ الصريح على مثل هذا الكلام المفضوح ، فيقول : فاستهدوني أهدِكم .
بعد أن يقرِّر كلكم ضالٌّ إلا من هديته يقول ربُّ العالمين : اطلبوا مني الهداية أجعَلْكم من المهتدين ، إذًا هذا الحديث يقرِّر حقيقتين اثنتين ، إحداهما تتعلق بربِّ العالمين ، والأخرى تتعلق بالمكلَّفين ، أما القضية الأولى التي تتعلق بربِّ العالمين هي أن الهداية هي من الله ، والضلال من الله ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بلا شك ، ولكن الناس واقع أمرهم - أو بعضهم على الأقل - يؤمنون في عقيدتهم ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، صحيح ربنا يقول : يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، ولكن يأتي سؤال : من الذي أو الذين يضلُّهم الله ومن الذين يهديهم الله ؟ يأتي الجواب في القرآن وفي السنة ، أما الذي يضلُّهم الله فقد قال الله - عز وجل - في حقِّ القرآن : "" يضل به من يشاء ، ويهدي به من يشاء "" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ؛ إذًا الله يضلُّ الفاسقين ؛ أي : الذين يتعمَّدون الخروج عن طاعة ربِّ العالمين ، فهؤلاء الذين يضلُّهم ، ومن الذين يهديهم الله ؟ تسمعون الجواب في هذا الحديث ؛ هم الذين يُقبلون على الله بقلوبهم يطلبون منه أن يهديهم ؛ فإذًا الحديث يجمع بين حقيقتين اثنتين ، إحداهما تتعلق بالله - عز وجل - وأنه فعَّال لما يريد ؛ يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، هذه حقيقة لا يجوز لأيِّ مسلم أن يشكَّ فيها أبدًا ، ولكن هذه الحقيقة تتعلق بالله - عز وجل - وباختصاصه ليس لنا نحن دخل في ذلك .
أما الحقيقة الأخرى فهي التي تتعلق بنا ؛ فهو - تبارك وتعالى - بعد أن يقول : كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه يأمرنا فيقول : فاستهدوني أهدِكُم ؛ إذًا هذا الحديث يُثبِّت لنا قاعدة ، يؤسِّس لنا قاعدة ؛ وهي قاعدة الأخذ بالأسباب ، قاعدة الأخذ بالأسباب حتى في الهداية وفي الضلال ، فالذي يطلب الهداية من الله فلا بد أن الله يهديه ، والذي يُعرِض عن الله - عز وجل - ولا يستهديه فسوف لا يهديه - تبارك وتعالى - ، وفي صدد بيان هذا جاء قوله - تبارك وتعالى - في سورة الليل : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . فهذه الآية أو هاتان الآيتان تفسِّران لنا مبدأ الأخذ بالأسباب كهذا الحديث : فاستهدوني أهدِكُم ، خذوا بسبب الهداية وهو أن تطلبوا الهداية من الله دعاءً وعملًا ، لا يكفي أن تدعوه أن يهديك وأنت تعرض عنه وقد هداك كما قال - تعالى - : وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ، دلَّنا على الطريقين طريق الخير وطريق الشر ، ومن تمام دلالته - تبارك وتعالى - لنا على الطريقين أن قال لنا : هذا طريق الخير فاسلكوه ، وهذا طريق الشَّرِّ فاجتنبوه .
فكما أنُّو هذا الحديث يضع لنا سبب الهداية ؛ وذلك بأن نطلب من الله - عز وجل - بألسنتنا وقلوبنا أن يهدينا لما أنزل علينا من الحقِّ من القرآن الكريم ، وأن نستجيب نحن بدعوته وأن نعمل بهدايته - تبارك وتعالى - ، فكما أن هذا الحديث يُثبِت هذا المبدأ مبدأ الأخذ بالأسباب ؛ كذلك الآيات السابقات : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ، فهؤلاء هم الذين يهديهم الله - عز وجل - لا العكس ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى .
إذا عرفنا هذه الحقيقة وهي تتلخَّص بأن الله يهدي مَن توجَّه إليه وطلب الهداية منه ويضلُّ المعرضين عنه ؛ إذا عرفنا هذه الحقيقة سهل علينا أن نفهمَ كثيرًا من الآيات وكثيرًا من الأحاديث النبوية التي أحسن ما يُقال بالنسبة لبعض الناس أنهم لم يُحسِنُوا فهمَها ، والواقع أنهم أساؤوا فهمَها أشدَّ الإساءة ، من ذلك - مثلًا - الحديث المشهور ... ذلك الحديث المشهور الذي يقول : إن الله - عز وجل - لما خَلَقَ الخلقَ في عالم الذَّرِّ قبض قبضةً بيمينه ، فقال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وقبض قبضةً بشماله - وكما في بعض الأحاديث : وكلتا يدي ربي يمين - وقبض قبضةً بشماله فقال : هؤلاء للنار ولا أبالي .
يقول بعض الناس من أولئك الجبرية : إذًا القضية منتهية ، فأنا إما من هذه القبضة قبضة اليمين ؛ أي : هو من أهل اليمين من الجنة ، وإما من هذه القبضة الأخرى ؛ فإن كنت من أهل القبضة الأخرى فما يُفيدني العمل الصالح شيئًا أبدًا ، وإن كنت من أهل القبضة الأولى فلا يضرُّني العمل الصالح أبدًا ؛ فلماذا نعمل ؟ جاء الجواب في الحديث : اعملوا فكلٌّ ميسَّر لِمَا خُلِقَ له ، فمَن كان من أهل الجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة ، ومَن كان من أهل النار فسيعمل بعمل أهل النار . إذًا أهل الجنة يدخلون الجنة بأعمالهم ، وأهل النار يدخلون النار بأعمالهم ، وقد صرَّح ربنا - عز وجل - بشيء من هذا فقال : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، والآية الأخرى : تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، ما قال : بما كُتِبَ عليكم ، أو بمَن كان من قبضة اليمين فهو من أهل الجنة ، ومن كان من قبضة الشمال فهو من أهل النار .
ومن باب التوضيح لهذا الحديث حديث القبضتين يُوجب علينا التَّذكير بأن الله - عز وجل - : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، فكثير من الناس بسبب غفلتهم أو جهلهم أو ضلالتهم يتوهَّم أن قبضة الله هي كقبضة عبدٍ من عباد الله ، فأيُّ إنسان اليوم - مثلًا - من العلَّافين أو بيَّاعين الحمّص ؛ فهؤلاء بيجعلوا - مثلًا - الحمّص قسمين ؛ الحمّص الفحل والحمّص الصغير ، فكيف يميِّزونه ؟ كما تعلمون يضعونه في المنخل ، وبيتموا رايحين جايين ؛ فهاللي بيسقط فيكون دليل على أنه صغير الحجم فيُباع بثمن ، واللي يبقى فايش على المنخل فهو فحل ؛ هذا من عجز الإنسان ، أما الإنسان لو كان أُعطِيَ صفة الله - عز وجل - ما في حاجة لهالغلبة كلها ، كان بيقبض قبضة من الكوم الذي فيه - مثلًا - الحمّص هذا فتخرج في قبضته هاللي بدو إياها ، شو بدو ؟ الفحلة ، تخرج بقبضته اليمنى ، شو بدو الصغيرة أو المسوسة ؟ بتطلع بيده اليسرى ، لكن الإنسان عاجر غير قادر ، أما ربُّ العالمين فليس كذلك ، فقبضته صاحَبَها صفات الله كلها ، مثلًا القدرة ، مثلًا الخبرة ، مثلًا الحكمة ، العدالة ؛ فالله - عز وجل - ذات متَّصف بكلِّ صفات الكمال لا تنفصل هذه الصفات عن ذاته - تبارك وتعالى - في أيِّ فعلٍ يصدر منه - عز وجل - ، من هذه الأفعال التي صدرت منه هاتان القبضتان ؛ فتُرى لما قبض من ذلك العالَم اللي بيعد الملايين البلايين الملايين إلى آخره البشر من يوم قدَّرَ آدم إلى قيام الساعة ، هذا العدد الضخم حينما قبض الله قبضةً بيمينه لا شك يجب أن نتصوَّر أن هذه القبضة مقرون بها القدرة والعلم والخبرة والعدل والحكمة وكل صفات الكمال .
إذًا لمَّا قبض الله القبضة الأولى إنما قبض مَن عَلِمَ الله أنه حينما يُبعث في الدنيا وحينما يكون بشرًا سويًّا وتأتيه النُّذر والأنبياء والرسل ، ويدعونه إلى طاعة الله يستجيب ؛ فهذه القبضة إنما أحاطت بهؤلاء الذين سبقَ في علم الله - عز وجل - أنهم سيستجيبون لطاعته ، فهذه القبضة بحكمة وبعلم وبعدالة ، والعكس بالعكس ؛ القبضة الأخرى إنما أحاطت بالذين سبقَ في علم الله - عز وجل - أنهم سيعصونه - تبارك وتعالى - ؛ فإذًا هذه القبضة ليست قضية فوضى ؛ يعني خبط عشواء كما يُقال ، صدفة ، حظ ، نصيب هاللي طلع باليمين فهو من أهل الجنة ، واللي طلع بالشمال فهو من أهل النار ؛ حاشا لله - عز وجل - أن يكون كذلك ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
إذًا كل حديث وكل آية يجب أن تُفسَّر على ضوء الأخذ بمبدأ الأسباب ، الله - عز وجل - جَعَلَ لكل شيء سببًا ، فلكل مسبَّب سبب ، فسبب دخول الجنة الإيمان ؛ ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - لما أرسل أبا بكر الصديق قبل حجَّة الوداع إلى الموسم ، وأمَرَه أن ينادي بكلمات كان من هذه الكلمات : وأنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة أو مؤمنة ؛ فإذًا الجنة بالسبب ، وهو الإيمان والعمل الصالح ، والنار بالسبب ، وهو الكفر والعمل الطالح ؛ فهنا يقول الله - عز وجل - منبِّهًا عباده بأننا فقراء وهو الغني ، بأننا ضعفاء وهو القوي ، بأننا ضالُّون فيجب علينا أن نطلب الهداية من الله فهو يهدينا ، يا عبادي ، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه ؛ فاستهدوني أهدِكُم .
أما أنُّو الإنسان يعيش الأبد الدهر كله ولا ينتصب إلى الله ، ولا يطلب منه هدايته ، ثم يقول : إن كان كتبني من أهل السعادة فأنا من أهل السعادة ، وإن كان كتبني الشقاوة فأنا من أهل الشقاوة ؛ فهذا ضلال ليس بعده ضلال ؛ فهو ينكر مبدأ الأخذ بالأسباب .
ومن عجائب الناس اليوم أنهم فيما يتعلَّق بأمور الإيمان والإسلام هم جبريُّون ، وفيما يتعلق بمسائل الحياة والمعيشة فهم معتزلة لا يؤمنون بالقدر ، فهم يسعون في الأرض سعيًا حثيثًا ؛ ليش ؟ لأنهم بيعرفوا بالتجربة أنُّو إذا ما خرج من بيته وركض وراء رزقه ما بيجيه الرزق ، لكن أهم من هذا الرزق وهو رزق الجنة هذا يأتيه بخبط عشواء كما يظن ؛ إن كان من القبضة اليمنى فهو من أهل الجنة ، وإلا فهو من أهل النار !!
هذه العقائد هي في الواقع من أعظم الأسباب التي أودَتْ بالمسلمين إلى هذا الحضيض الذي هووا فيه ؛ لأنهم عكسوا الأمور ؛ فيما يجب الأخذ فيه بالأسباب تركوا فيه العمل ، كأن يقول الإنسان اليوم - وهذا موجود أيضًا - : إذا كان الله بينصرنا على اليهود بينصرنا ، ما في حاجة نتخذ الوسائل التي أمر الله بها في عديد من الآيات كمثل الآية المشهورة : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إلى آخر الآية .
وهذا ما وقع فيه - أيضًا - كثيرٌ من المتأخِّرين ما في " خواص " ، الأمة الإسلامية كل ما لها في تأخر حتى ينزل عيسى - عليه السلام - من السماء ويلتقي مع المهدي - عليه السلام - ؛ فيقتل الدجال ، ويُخرجون اليهود من بيت المقدس ، فحكموا على نفسهم بالموت وأنهم لا يحيون إلا بنزول عيسى ، من أين جاءهم هذا ؟ مِن ترك الأخذ بوسائل الحياة بوسائل العزَّة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة ، أما السعادة التي لارتباط لها بالحياة الأخروية فهم - كما سمعتم - معتزلة ؛ يأخذون بكلِّ الأسباب ، أما الأسباب التي تعزُّهم بالدنيا قبل الآخرة فهم في ذلك موتى ؛ فعلينا أن نتَّعظ بهذا الحديث خاصَّةً في قوله - تبارك وتعالى - : يا عبادي ، كلكم ضالٌّ إلا مَن هديته فاستهدوني أهدِكُم .
إذًا فنصيحتي إياكم أن لا تنسوا هذه القاعدة ، قاعدة الأخذ بالأسباب أسباب الحياة ؛ سواء كانت دنيوية أو كانت أخروية ، ومن ذلك من هذه الأسباب أن نطلب من الله - تبارك وتعالى - خاشعين ضارعين أن يجعَلَنا من عباده المهتدين ، ومن تمام ذلك أن ندرس شرعَه كتابه وحديث نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه بذلك هدانا كما قال - عليه الصلاة والسلام - وبذلك أختم هذا الدرس في الحديث الصحيح المشهور : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنَّتي ، لن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين ، ولعلنا غدًا - إن شاء الله - نتمِّم هذا الحديث الشريف بيانًا وتوضيحًا .
هذا الحديث له علاقة بالقضاء والقدر الذي أساءَ فهمَه كثيرٌ من المسلمين ، فكان فيهم مَن يقول بالجبر ، وبأن الإنسان لا يملك أن يكون سعيدًا ولا يملك أن يكون شقيًّا ، وإنما هو القدر المحتوم ؛ فهذا الحديث يردُّ على هؤلاء ، فيقول : كلكم ضالٌّ إلا من هديته ؛ إذًا ما دام الله كما قال في القرآن الكريم : "" يهدي من يشاء ويضل من يشاء "" نستسلم نحن لهذا الأمر الحقيقي الواقع أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فإن كنا من المهتدين فسنهتدي ، وإن كنا من الضالِّين فلا سبيل للهداية ، فلنقل هكذا يأتي تتمة الجملة هذه في الرَّدِّ الصريح على مثل هذا الكلام المفضوح ، فيقول : فاستهدوني أهدِكم .
بعد أن يقرِّر كلكم ضالٌّ إلا من هديته يقول ربُّ العالمين : اطلبوا مني الهداية أجعَلْكم من المهتدين ، إذًا هذا الحديث يقرِّر حقيقتين اثنتين ، إحداهما تتعلق بربِّ العالمين ، والأخرى تتعلق بالمكلَّفين ، أما القضية الأولى التي تتعلق بربِّ العالمين هي أن الهداية هي من الله ، والضلال من الله ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بلا شك ، ولكن الناس واقع أمرهم - أو بعضهم على الأقل - يؤمنون في عقيدتهم ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، صحيح ربنا يقول : يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، ولكن يأتي سؤال : من الذي أو الذين يضلُّهم الله ومن الذين يهديهم الله ؟ يأتي الجواب في القرآن وفي السنة ، أما الذي يضلُّهم الله فقد قال الله - عز وجل - في حقِّ القرآن : "" يضل به من يشاء ، ويهدي به من يشاء "" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ؛ إذًا الله يضلُّ الفاسقين ؛ أي : الذين يتعمَّدون الخروج عن طاعة ربِّ العالمين ، فهؤلاء الذين يضلُّهم ، ومن الذين يهديهم الله ؟ تسمعون الجواب في هذا الحديث ؛ هم الذين يُقبلون على الله بقلوبهم يطلبون منه أن يهديهم ؛ فإذًا الحديث يجمع بين حقيقتين اثنتين ، إحداهما تتعلق بالله - عز وجل - وأنه فعَّال لما يريد ؛ يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، هذه حقيقة لا يجوز لأيِّ مسلم أن يشكَّ فيها أبدًا ، ولكن هذه الحقيقة تتعلق بالله - عز وجل - وباختصاصه ليس لنا نحن دخل في ذلك .
أما الحقيقة الأخرى فهي التي تتعلق بنا ؛ فهو - تبارك وتعالى - بعد أن يقول : كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه يأمرنا فيقول : فاستهدوني أهدِكُم ؛ إذًا هذا الحديث يُثبِّت لنا قاعدة ، يؤسِّس لنا قاعدة ؛ وهي قاعدة الأخذ بالأسباب ، قاعدة الأخذ بالأسباب حتى في الهداية وفي الضلال ، فالذي يطلب الهداية من الله فلا بد أن الله يهديه ، والذي يُعرِض عن الله - عز وجل - ولا يستهديه فسوف لا يهديه - تبارك وتعالى - ، وفي صدد بيان هذا جاء قوله - تبارك وتعالى - في سورة الليل : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . فهذه الآية أو هاتان الآيتان تفسِّران لنا مبدأ الأخذ بالأسباب كهذا الحديث : فاستهدوني أهدِكُم ، خذوا بسبب الهداية وهو أن تطلبوا الهداية من الله دعاءً وعملًا ، لا يكفي أن تدعوه أن يهديك وأنت تعرض عنه وقد هداك كما قال - تعالى - : وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ، دلَّنا على الطريقين طريق الخير وطريق الشر ، ومن تمام دلالته - تبارك وتعالى - لنا على الطريقين أن قال لنا : هذا طريق الخير فاسلكوه ، وهذا طريق الشَّرِّ فاجتنبوه .
فكما أنُّو هذا الحديث يضع لنا سبب الهداية ؛ وذلك بأن نطلب من الله - عز وجل - بألسنتنا وقلوبنا أن يهدينا لما أنزل علينا من الحقِّ من القرآن الكريم ، وأن نستجيب نحن بدعوته وأن نعمل بهدايته - تبارك وتعالى - ، فكما أن هذا الحديث يُثبِت هذا المبدأ مبدأ الأخذ بالأسباب ؛ كذلك الآيات السابقات : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ، فهؤلاء هم الذين يهديهم الله - عز وجل - لا العكس ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى .
إذا عرفنا هذه الحقيقة وهي تتلخَّص بأن الله يهدي مَن توجَّه إليه وطلب الهداية منه ويضلُّ المعرضين عنه ؛ إذا عرفنا هذه الحقيقة سهل علينا أن نفهمَ كثيرًا من الآيات وكثيرًا من الأحاديث النبوية التي أحسن ما يُقال بالنسبة لبعض الناس أنهم لم يُحسِنُوا فهمَها ، والواقع أنهم أساؤوا فهمَها أشدَّ الإساءة ، من ذلك - مثلًا - الحديث المشهور ... ذلك الحديث المشهور الذي يقول : إن الله - عز وجل - لما خَلَقَ الخلقَ في عالم الذَّرِّ قبض قبضةً بيمينه ، فقال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وقبض قبضةً بشماله - وكما في بعض الأحاديث : وكلتا يدي ربي يمين - وقبض قبضةً بشماله فقال : هؤلاء للنار ولا أبالي .
يقول بعض الناس من أولئك الجبرية : إذًا القضية منتهية ، فأنا إما من هذه القبضة قبضة اليمين ؛ أي : هو من أهل اليمين من الجنة ، وإما من هذه القبضة الأخرى ؛ فإن كنت من أهل القبضة الأخرى فما يُفيدني العمل الصالح شيئًا أبدًا ، وإن كنت من أهل القبضة الأولى فلا يضرُّني العمل الصالح أبدًا ؛ فلماذا نعمل ؟ جاء الجواب في الحديث : اعملوا فكلٌّ ميسَّر لِمَا خُلِقَ له ، فمَن كان من أهل الجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة ، ومَن كان من أهل النار فسيعمل بعمل أهل النار . إذًا أهل الجنة يدخلون الجنة بأعمالهم ، وأهل النار يدخلون النار بأعمالهم ، وقد صرَّح ربنا - عز وجل - بشيء من هذا فقال : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، والآية الأخرى : تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، ما قال : بما كُتِبَ عليكم ، أو بمَن كان من قبضة اليمين فهو من أهل الجنة ، ومن كان من قبضة الشمال فهو من أهل النار .
ومن باب التوضيح لهذا الحديث حديث القبضتين يُوجب علينا التَّذكير بأن الله - عز وجل - : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، فكثير من الناس بسبب غفلتهم أو جهلهم أو ضلالتهم يتوهَّم أن قبضة الله هي كقبضة عبدٍ من عباد الله ، فأيُّ إنسان اليوم - مثلًا - من العلَّافين أو بيَّاعين الحمّص ؛ فهؤلاء بيجعلوا - مثلًا - الحمّص قسمين ؛ الحمّص الفحل والحمّص الصغير ، فكيف يميِّزونه ؟ كما تعلمون يضعونه في المنخل ، وبيتموا رايحين جايين ؛ فهاللي بيسقط فيكون دليل على أنه صغير الحجم فيُباع بثمن ، واللي يبقى فايش على المنخل فهو فحل ؛ هذا من عجز الإنسان ، أما الإنسان لو كان أُعطِيَ صفة الله - عز وجل - ما في حاجة لهالغلبة كلها ، كان بيقبض قبضة من الكوم الذي فيه - مثلًا - الحمّص هذا فتخرج في قبضته هاللي بدو إياها ، شو بدو ؟ الفحلة ، تخرج بقبضته اليمنى ، شو بدو الصغيرة أو المسوسة ؟ بتطلع بيده اليسرى ، لكن الإنسان عاجر غير قادر ، أما ربُّ العالمين فليس كذلك ، فقبضته صاحَبَها صفات الله كلها ، مثلًا القدرة ، مثلًا الخبرة ، مثلًا الحكمة ، العدالة ؛ فالله - عز وجل - ذات متَّصف بكلِّ صفات الكمال لا تنفصل هذه الصفات عن ذاته - تبارك وتعالى - في أيِّ فعلٍ يصدر منه - عز وجل - ، من هذه الأفعال التي صدرت منه هاتان القبضتان ؛ فتُرى لما قبض من ذلك العالَم اللي بيعد الملايين البلايين الملايين إلى آخره البشر من يوم قدَّرَ آدم إلى قيام الساعة ، هذا العدد الضخم حينما قبض الله قبضةً بيمينه لا شك يجب أن نتصوَّر أن هذه القبضة مقرون بها القدرة والعلم والخبرة والعدل والحكمة وكل صفات الكمال .
إذًا لمَّا قبض الله القبضة الأولى إنما قبض مَن عَلِمَ الله أنه حينما يُبعث في الدنيا وحينما يكون بشرًا سويًّا وتأتيه النُّذر والأنبياء والرسل ، ويدعونه إلى طاعة الله يستجيب ؛ فهذه القبضة إنما أحاطت بهؤلاء الذين سبقَ في علم الله - عز وجل - أنهم سيستجيبون لطاعته ، فهذه القبضة بحكمة وبعلم وبعدالة ، والعكس بالعكس ؛ القبضة الأخرى إنما أحاطت بالذين سبقَ في علم الله - عز وجل - أنهم سيعصونه - تبارك وتعالى - ؛ فإذًا هذه القبضة ليست قضية فوضى ؛ يعني خبط عشواء كما يُقال ، صدفة ، حظ ، نصيب هاللي طلع باليمين فهو من أهل الجنة ، واللي طلع بالشمال فهو من أهل النار ؛ حاشا لله - عز وجل - أن يكون كذلك ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
إذًا كل حديث وكل آية يجب أن تُفسَّر على ضوء الأخذ بمبدأ الأسباب ، الله - عز وجل - جَعَلَ لكل شيء سببًا ، فلكل مسبَّب سبب ، فسبب دخول الجنة الإيمان ؛ ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - لما أرسل أبا بكر الصديق قبل حجَّة الوداع إلى الموسم ، وأمَرَه أن ينادي بكلمات كان من هذه الكلمات : وأنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة أو مؤمنة ؛ فإذًا الجنة بالسبب ، وهو الإيمان والعمل الصالح ، والنار بالسبب ، وهو الكفر والعمل الطالح ؛ فهنا يقول الله - عز وجل - منبِّهًا عباده بأننا فقراء وهو الغني ، بأننا ضعفاء وهو القوي ، بأننا ضالُّون فيجب علينا أن نطلب الهداية من الله فهو يهدينا ، يا عبادي ، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه ؛ فاستهدوني أهدِكُم .
أما أنُّو الإنسان يعيش الأبد الدهر كله ولا ينتصب إلى الله ، ولا يطلب منه هدايته ، ثم يقول : إن كان كتبني من أهل السعادة فأنا من أهل السعادة ، وإن كان كتبني الشقاوة فأنا من أهل الشقاوة ؛ فهذا ضلال ليس بعده ضلال ؛ فهو ينكر مبدأ الأخذ بالأسباب .
ومن عجائب الناس اليوم أنهم فيما يتعلَّق بأمور الإيمان والإسلام هم جبريُّون ، وفيما يتعلق بمسائل الحياة والمعيشة فهم معتزلة لا يؤمنون بالقدر ، فهم يسعون في الأرض سعيًا حثيثًا ؛ ليش ؟ لأنهم بيعرفوا بالتجربة أنُّو إذا ما خرج من بيته وركض وراء رزقه ما بيجيه الرزق ، لكن أهم من هذا الرزق وهو رزق الجنة هذا يأتيه بخبط عشواء كما يظن ؛ إن كان من القبضة اليمنى فهو من أهل الجنة ، وإلا فهو من أهل النار !!
هذه العقائد هي في الواقع من أعظم الأسباب التي أودَتْ بالمسلمين إلى هذا الحضيض الذي هووا فيه ؛ لأنهم عكسوا الأمور ؛ فيما يجب الأخذ فيه بالأسباب تركوا فيه العمل ، كأن يقول الإنسان اليوم - وهذا موجود أيضًا - : إذا كان الله بينصرنا على اليهود بينصرنا ، ما في حاجة نتخذ الوسائل التي أمر الله بها في عديد من الآيات كمثل الآية المشهورة : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إلى آخر الآية .
وهذا ما وقع فيه - أيضًا - كثيرٌ من المتأخِّرين ما في " خواص " ، الأمة الإسلامية كل ما لها في تأخر حتى ينزل عيسى - عليه السلام - من السماء ويلتقي مع المهدي - عليه السلام - ؛ فيقتل الدجال ، ويُخرجون اليهود من بيت المقدس ، فحكموا على نفسهم بالموت وأنهم لا يحيون إلا بنزول عيسى ، من أين جاءهم هذا ؟ مِن ترك الأخذ بوسائل الحياة بوسائل العزَّة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة ، أما السعادة التي لارتباط لها بالحياة الأخروية فهم - كما سمعتم - معتزلة ؛ يأخذون بكلِّ الأسباب ، أما الأسباب التي تعزُّهم بالدنيا قبل الآخرة فهم في ذلك موتى ؛ فعلينا أن نتَّعظ بهذا الحديث خاصَّةً في قوله - تبارك وتعالى - : يا عبادي ، كلكم ضالٌّ إلا مَن هديته فاستهدوني أهدِكُم .
إذًا فنصيحتي إياكم أن لا تنسوا هذه القاعدة ، قاعدة الأخذ بالأسباب أسباب الحياة ؛ سواء كانت دنيوية أو كانت أخروية ، ومن ذلك من هذه الأسباب أن نطلب من الله - تبارك وتعالى - خاشعين ضارعين أن يجعَلَنا من عباده المهتدين ، ومن تمام ذلك أن ندرس شرعَه كتابه وحديث نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه بذلك هدانا كما قال - عليه الصلاة والسلام - وبذلك أختم هذا الدرس في الحديث الصحيح المشهور : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنَّتي ، لن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين ، ولعلنا غدًا - إن شاء الله - نتمِّم هذا الحديث الشريف بيانًا وتوضيحًا .
الفتاوى المشابهة
- أحاديث من " رياض الصالحين " للنووي ، باب تحريم... - الالباني
- إضافة كلمة ونستهديه لقوله إن الحمد لله ن... - اللجنة الدائمة
- متابعة الكلام على حديث ( يا عبادي إني حرمت ا... - ابن عثيمين
- تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى ف... - ابن عثيمين
- شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عبادي ،... - الالباني
- قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما... - ابن عثيمين
- معنى حديث "كلكم ضال إلا من هديته.." - ابن باز
- تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى ف... - ابن عثيمين
- شرح الشيخ لحديث : ( يا عبادي كلكم ضال إلا من ه... - الالباني
- تتمة شرح قوله عليه الصلاة والسلام " ....يا عبا... - الالباني
- تتمة شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي... - الالباني