تفسير الآيات ( 9 - 22 ) من سورة القمر .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد خاتم النّبيّين وإمام المتّقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء الثالث والثّمانون بعد المائة من اللّقاءات المعروفة: بلقاء الباب المفتوح، الذي تتمّ كلّ يوم خميس، وهذا الخميس هو الثالث من شهر من صفر عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللّقاء كالعادة بالكلام بما يسّره الله عزّ وجلّ على الآيات التي انتهينا إليها من سورة القمر، فإنّ الله سبحانه وتعالى ذكر قصّة نوح على وجه مختصر فقال جلّ وعلا: كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّيوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربّه أنّي مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر * وفجّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودُسر * تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفر :
حملناه أي: حملنا نوحا، وأهله إلاّ من سبق عليه القول منهم، وأمره الله تعالى أن يحمل فيها من كلّ زوجين اثنين، ومن آمن معه، وما آمن معه إلاّ قليل.
حمله الله على ذات ألواح ودسر، يعني: على سفينة ذات ألواح ودسر، وكان نوح عليه الصّلاة والسّلام يصنعها فيمرّ به قومه فيسخرون منه فيقول: إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم .
هذه السّفينة وصفها الله بأنّها ذات ألواح، وألواح جمع منكّر يدلّ على شيئين: الشّيء الأوّل كثرة ألواحها، والثاني عظمة هذه الألواح ومتانتها، وحقّ لسفينة تحمل البشر على ظهرها أن تكون ذات ألواح ودسر، ذات ألواح عظيمة، ودسر أي: مسامير، وقيل: إنّ الدّسر ما تربط به الأخشاب، فيكون أعمّ من المسامير لأنّ الأخشاب قد تربط بالمسامير، وقد تربط بالحبال، فالمهمّ أنّ توثيق هذه الألواح بعضها ببعض كان قويّا، وإنّما ذكر الله سبحانه وتعالى مادّة صنع السّفينة وأنّها من الأخشاب والمسامير أو الرّوابط التي تربط تلك الأخشاب ليكون ذلك تعليما للبشر أن يصنعوا السّفن على هذا النّحو.
تجري بأعيننا أي: تسير على هذا الماء العظيم الذي بلغ قمم الجبال والتقى فيه ماء الأرض والسّماء، تجري أي: تسير على هذا الماء.
بأعيننا أي: ونحن نراها بأعيننا ونكلؤها ونحفظها.
وأيضاً في قوله بأعيننا الباء للمصاحبة، يعني: أن عين الله عزّ وجلّ تصحب هذه السّفينة فيراها جلّ وعلا ويكلؤها ويحفظها لأنّها سفينة بُنيت بتقوى الله عزّ وجلّ وإنجاء أوليائه من الغرق الذي شمل أعداءه .
جزاء لمن كان كُفِر جزاء أي: مكافأة، لمن كان كفر أي لمن كان كُفِر به وهو نوح عليه الصّلاة والسّلام، فبيّن الله عزّ وجلّ أنّ إنجاء نوح بهذه السّفينة كان جزاء له، والله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين أكثر من إحسانهم.
ولقد تركناها آية : كلمة الضّمير " ها " اختلف فيها المفسّرون هل المعنى ولقد تركنا هذه القصّة وهي قصّة نوح وإغراق قومه أبقيناها آية لمن يأتي بعدهم هذا وجه.
الوجه الثاني: ولقد تركناها أي: السّفينة، والمراد الجنس، أي: جنس هذه السّفينة أبقيناها آية لمن بعد نوح، وكلا الأمرين محتمل، والقاعدة في التّفسير: " أنّ الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي بعضهما الآخر وليس أحدهما بأرجح من الآخر فإنّها تحمل على المعنيين جميعًا " ، فنقول:
إنّ الله ترك القصّة آية وعبرة لمن يأتي بعد نوح، ترك السّفينة آية وعبرة يصنع مثلها من يأتي بعده، ويدلّ لهذا القول وأنّه غير ممتنع أنّ الضّمائر أحياناً تعود إلى الجنس لا إلى الفرد، نظير قول الله تبارك وتعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثمّ جعلنه نّطفة في قرارٍ مكين خلقنا الإنسان من سلالة من طين، من المراد بالإنسان؟
آدم، ثمّ جعلناه نطفة ليس آدم هو الذي جعل نطفة في قرار مكين، بل الإنسان الذي هو جنس آدم وهم بنو آدم، ومثل ذلك عند بعض العلماء ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشّياطين ليست المصابيح التي في السّماء هي التي ترجم الشّياطين ولكنّها شهب تخرج منها فترجم الشّياطين.
المهمّ أنّ قوله: ولقد تركناها لها معنيان قلها لي يا أخ!
السائل : أنا ؟
الشيخ : أي نعم.
السائل : الضّمير يعود على السفينة، أو على جنس السفينة.
الشيخ : نعم، وهل تشمل الآية المعنيين جميعًا؟
السائل : نعم.
الشيخ : نعم، بارك الله فيك.
ولقد تركناها آية فهل من مدكّر هل من مدكر: الاستفهام هنا للتّشويق، يعني هل أحد يدّكر ويتّعظ بما جرى للمكذّبين للرّسل من إهلاكهم وتدميرهم، وقيل: إنّ الاستفهام للأمر وأنّ المعنى فادّكروا.
وسواء قلنا أنّه للتّشويق أو للأمر فإنّ الواجب علينا أن نتذكّر وأن نخشى من عقاب الله تبارك وتعالى، وعقاب الله تعالى لهذه الأمّة خاصّة لا يمكن أن يشملهم جميعا، لكن قد يشمل مناطق معيّنة تؤخذ بالعذاب بما فعل السّفهاء منهم كما قال الله تعالى: واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب .
ولقد تركناها آية فهل من مدكّر * فكيف كان عذابي ونذر : كيف هنا للتّفخيم والتّعجيب يعني: ما أعظم العذاب والنّذر، وقيل: إنّ الاستفهام للتّقرير يعني: أنّ الله يقرّرنا بالعذاب وبالنّذر.
لكنّ المعنى الأوّل أعظم أنّه للتفخيم والتّعظيم أي: ما أعظم عذابي النّازل بأعدائي وما أعظم نذري التي تنذر وتخوّف من العقاب أن ينزل بمن خالف. فهذا العذاب الذي حصل من قوم نوح، عذاب حصل، بالنّسبة لنا يعتبر ماذا؟
من النّذر المخوِّفة لنا من مخالفة أمر الله ورسوله.
ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر : يسّرنا يعني: سهّلنا، والقرآن هو كتاب الله الذي نزل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وسمّي قرآنا لأنّه يُقرأ أي يتلى.
وقوله: للذّكر قال بعضهم: معناه للحفظ، وأنّ القرآن ميسّر لمن أراد أن يحفظه، وقيل: المراد بالذّكر الادّكار والاتّعاظ، يعني: أنّ من قرأ القرآن ليتذكّر به ويتّعظ سهل عليه ذلك واتّعظ وانتفع وهذا المعنى أقرب للصّواب، بدليل قوله: فهل من مدكّر يعني هل أحد يدّكر؟! مع أنّ الله سبحانه يسّر القرآن للذّكر، أفلا يليق بنا وقد سهّل الله القرآن للذّكر أن نتّعظ ونتذكّر؟!
بلى، هذا هو اللّائق.
فهل من مدّكر * كذّبت عاد هذه الأمّة الثانية ممّن قصّهم الله علينا في هذه السّورة الكريمة وعاد تتلو قوم نوح غالباً وقد تتقدّم عليها كما في الذّاريات، ولكن الغالب أنّ قصّة نوح هي الأولى في قصص الأنبياء، لأنّه هو أوّل نبيّ أرسل إلى الأرض.
كذّبت عاد وهم قوم هود، كما قال تعالى: ألا بُعدًا لعاد قوم هود كذّبوا نبيّهم هودً عليه الصّلاة والسّلام، وكانوا أشدّاء أقوياء، وكانوا يفتخرون بشدّتهم وقوّتهم، ويقولون: من أشدّ منّا قوّة، قال الله تعالى: أو لم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً يقول هنا: كذّبت عاد فكيف كان عذابي ونذر والجواب: كان شديداً، عظيماً، واقعاً موقعه، فالاستفهام إذن للتّفخيم والتّعظيم والتّقرير وهو أنّ عذاب الله كان عظيما وكان واقعا موقعه، نذره يعني آياته كذلك كانت عظيمة واقعة موقعها، فبماذا أهلكهم الله؟
أهلكهم الله بألطف شيء وهو الرّيح التي تملأ الآفاق، ومع ذلك لا يحسّ الإنسان بها لأنّها سهلة ليّنة يخترقها الإنسان بسهولة مكاننا الآن الذي نحن فيه مملوء بالهواء أليس كذلك؟
السائل : بلى.
الشيخ : ومع ذلك فنحن نخترقه ولا نحسّ به فهي من ألطف الأشياء.
أهلك الله عادا الذين يفتخرون بقوّتهم بهذه الرّيح كما قال الله عزّ وجلّ هنا: إنّا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمرّ : الجملة هنا مؤكّدة بإنّ، وأرسلنا يعني: الرّبّ عزّ وجلّ نفسه، يعني أن الله يعني نفسه بقوله: أرسلنا وجمع الضّمير للتّعظيم.
عليهم : أي على عاد، ريحا صرصرا : أي ذات صرير لقوّتها وشدّتها حتّى إنّ مجرّد نفورها يسمع له الصّرير وإن لم تصطدم بما يقتضي الصّرير لأنّها قويّة وعظيمة جدّا وهي الرّيح الغربيّة أتت من قبل الغرب لعاد، فقالوا: هذا عارض ممطرنا ، وكانوا قد أجدبوا قبل ذلك سنوات، فلمّا أقبلت بسوادها وعظمتها وزمجرتها قالوا هذا عارض ممطرنا، ولكنّ الأمر كان بالعكس، كانت ريحاً فيها عذاب أليم، كانت ريحاً عقيماً، ليس فيها مطر ولا يرجى أن يأتي منها مطر، فهنا يقول عزّ وجلّ: إنّا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً أيّ ريح هي؟
السائل : الغربية
الشيخ : الغربيّة، التي تأتي من ناحية المغرب، صرصراً: أي شديدة الصّوت والصّرير لقوّتها وسرعتها.
في يوم نحس مستمرّ : في يوم نحس أي: في يوم شؤم.
مستمرّ بالنّسبة لعاد، ليس في كلّ وقت، فاليوم الذي أهلكوا فيه ليس هو نفسُه نحساً مستمرّا ولكنّه بالنّسبة لهؤلاء كان يوم نحس مستمرّاً كما قال الله تعالى عن قوم نوح: أُغرقوا فأُدخلوا نارًا ، هؤلاء أهلكوا بالرّيح فأدخلوا النّار، فالنّحس أي: الشّؤم كان مستمرّا معهم، عذاب الآخرة متّصل بعذاب الدّنيا.
تنزع النّاس أي تأخذهم بشدّة وقوّة وترفعهم إلى السّماء، نسأل الله العافية! حتى قال بعضهم: ترفعهم حتّى يغيب الإنسان عن الرّؤية من علوّه ثمّ تطرحه في الأرض، إذا سقطوا على الأرض سقطوا على أمّ رؤوسهم ثمّ انفصل الرّأس من الجسد لشدّة الصّدمة.
تنزع النّاس كأنّهم كأنّهم في حال سقوطهم على الأرض: أعجاز نخل منقعر أعجاز أي: أصول، والنّخل معروف، والمنقعر: السّاقط من أصله، يعني كأنّهم نخل سقط من أصله وبقيت جثثه، لماذا صاروا كأعجاز النّخل؟
لأنّه ليس لهم رؤوس على ما قال المفسّرون: حيث إنّ رؤوسهم انفصلت من شدّة الصّدمة، فسبحان القويّ العزيز! هؤلاء القوم الأشدّاء الأقوياء وصلوا إلى هذه الحال بريح من عند الله عزّ وجلّ.
تنزع النّاس كأنّهم أعجاز منقعر * فكيف كان عذابي ونذر وهنا أسأل: هنا قال كأنّهم أعجاز نخل منقعر ، وفي الحاقّة: كأنّهم أعجاز نخل خاوية والمعنى متقارب، لكن من بلاغة القرآن أن يجري الكلام فيه على نسق واحد فهناك: كأنّهم أعجاز نخل خاوية مناسب للفواصل التي في الحاقّة، أليس كذلك؟
أمّا هنا كأنّهم أعجاز نخل منقعر فمناسب للفواصل التي في سورة القمر، لأنّ تناسب الكلام واتّساقه من كمال بلاغته.
فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر : كرّر الله تعالى هذا عند آخر كلّ قصّة من أجل أن نحرص على التّذكّر بالقرآن وتدبّر القرآن وتفهّمه، لأنّه ميسّر، والجملة كما ترون مؤكّدة بمؤكّدات ثلاثة:
القسم واللاّم وقد، ممّا يدلّ على التّرغيب في تذكّر القرآن والتّذكّر به.
فهل من مدّكر نرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكم من المدّكّرين لكتاب الله عزّ وجلّ إنّه على كلّ شيء قدير والآن وقد بقي خمس وعشرون دقيقة نفرّغها للأسئلة مبتدئين بالأيمن.
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء الثالث والثّمانون بعد المائة من اللّقاءات المعروفة: بلقاء الباب المفتوح، الذي تتمّ كلّ يوم خميس، وهذا الخميس هو الثالث من شهر من صفر عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللّقاء كالعادة بالكلام بما يسّره الله عزّ وجلّ على الآيات التي انتهينا إليها من سورة القمر، فإنّ الله سبحانه وتعالى ذكر قصّة نوح على وجه مختصر فقال جلّ وعلا: كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّيوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربّه أنّي مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر * وفجّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودُسر * تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفر :
حملناه أي: حملنا نوحا، وأهله إلاّ من سبق عليه القول منهم، وأمره الله تعالى أن يحمل فيها من كلّ زوجين اثنين، ومن آمن معه، وما آمن معه إلاّ قليل.
حمله الله على ذات ألواح ودسر، يعني: على سفينة ذات ألواح ودسر، وكان نوح عليه الصّلاة والسّلام يصنعها فيمرّ به قومه فيسخرون منه فيقول: إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم .
هذه السّفينة وصفها الله بأنّها ذات ألواح، وألواح جمع منكّر يدلّ على شيئين: الشّيء الأوّل كثرة ألواحها، والثاني عظمة هذه الألواح ومتانتها، وحقّ لسفينة تحمل البشر على ظهرها أن تكون ذات ألواح ودسر، ذات ألواح عظيمة، ودسر أي: مسامير، وقيل: إنّ الدّسر ما تربط به الأخشاب، فيكون أعمّ من المسامير لأنّ الأخشاب قد تربط بالمسامير، وقد تربط بالحبال، فالمهمّ أنّ توثيق هذه الألواح بعضها ببعض كان قويّا، وإنّما ذكر الله سبحانه وتعالى مادّة صنع السّفينة وأنّها من الأخشاب والمسامير أو الرّوابط التي تربط تلك الأخشاب ليكون ذلك تعليما للبشر أن يصنعوا السّفن على هذا النّحو.
تجري بأعيننا أي: تسير على هذا الماء العظيم الذي بلغ قمم الجبال والتقى فيه ماء الأرض والسّماء، تجري أي: تسير على هذا الماء.
بأعيننا أي: ونحن نراها بأعيننا ونكلؤها ونحفظها.
وأيضاً في قوله بأعيننا الباء للمصاحبة، يعني: أن عين الله عزّ وجلّ تصحب هذه السّفينة فيراها جلّ وعلا ويكلؤها ويحفظها لأنّها سفينة بُنيت بتقوى الله عزّ وجلّ وإنجاء أوليائه من الغرق الذي شمل أعداءه .
جزاء لمن كان كُفِر جزاء أي: مكافأة، لمن كان كفر أي لمن كان كُفِر به وهو نوح عليه الصّلاة والسّلام، فبيّن الله عزّ وجلّ أنّ إنجاء نوح بهذه السّفينة كان جزاء له، والله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين أكثر من إحسانهم.
ولقد تركناها آية : كلمة الضّمير " ها " اختلف فيها المفسّرون هل المعنى ولقد تركنا هذه القصّة وهي قصّة نوح وإغراق قومه أبقيناها آية لمن يأتي بعدهم هذا وجه.
الوجه الثاني: ولقد تركناها أي: السّفينة، والمراد الجنس، أي: جنس هذه السّفينة أبقيناها آية لمن بعد نوح، وكلا الأمرين محتمل، والقاعدة في التّفسير: " أنّ الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي بعضهما الآخر وليس أحدهما بأرجح من الآخر فإنّها تحمل على المعنيين جميعًا " ، فنقول:
إنّ الله ترك القصّة آية وعبرة لمن يأتي بعد نوح، ترك السّفينة آية وعبرة يصنع مثلها من يأتي بعده، ويدلّ لهذا القول وأنّه غير ممتنع أنّ الضّمائر أحياناً تعود إلى الجنس لا إلى الفرد، نظير قول الله تبارك وتعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثمّ جعلنه نّطفة في قرارٍ مكين خلقنا الإنسان من سلالة من طين، من المراد بالإنسان؟
آدم، ثمّ جعلناه نطفة ليس آدم هو الذي جعل نطفة في قرار مكين، بل الإنسان الذي هو جنس آدم وهم بنو آدم، ومثل ذلك عند بعض العلماء ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشّياطين ليست المصابيح التي في السّماء هي التي ترجم الشّياطين ولكنّها شهب تخرج منها فترجم الشّياطين.
المهمّ أنّ قوله: ولقد تركناها لها معنيان قلها لي يا أخ!
السائل : أنا ؟
الشيخ : أي نعم.
السائل : الضّمير يعود على السفينة، أو على جنس السفينة.
الشيخ : نعم، وهل تشمل الآية المعنيين جميعًا؟
السائل : نعم.
الشيخ : نعم، بارك الله فيك.
ولقد تركناها آية فهل من مدكّر هل من مدكر: الاستفهام هنا للتّشويق، يعني هل أحد يدّكر ويتّعظ بما جرى للمكذّبين للرّسل من إهلاكهم وتدميرهم، وقيل: إنّ الاستفهام للأمر وأنّ المعنى فادّكروا.
وسواء قلنا أنّه للتّشويق أو للأمر فإنّ الواجب علينا أن نتذكّر وأن نخشى من عقاب الله تبارك وتعالى، وعقاب الله تعالى لهذه الأمّة خاصّة لا يمكن أن يشملهم جميعا، لكن قد يشمل مناطق معيّنة تؤخذ بالعذاب بما فعل السّفهاء منهم كما قال الله تعالى: واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب .
ولقد تركناها آية فهل من مدكّر * فكيف كان عذابي ونذر : كيف هنا للتّفخيم والتّعجيب يعني: ما أعظم العذاب والنّذر، وقيل: إنّ الاستفهام للتّقرير يعني: أنّ الله يقرّرنا بالعذاب وبالنّذر.
لكنّ المعنى الأوّل أعظم أنّه للتفخيم والتّعظيم أي: ما أعظم عذابي النّازل بأعدائي وما أعظم نذري التي تنذر وتخوّف من العقاب أن ينزل بمن خالف. فهذا العذاب الذي حصل من قوم نوح، عذاب حصل، بالنّسبة لنا يعتبر ماذا؟
من النّذر المخوِّفة لنا من مخالفة أمر الله ورسوله.
ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر : يسّرنا يعني: سهّلنا، والقرآن هو كتاب الله الذي نزل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وسمّي قرآنا لأنّه يُقرأ أي يتلى.
وقوله: للذّكر قال بعضهم: معناه للحفظ، وأنّ القرآن ميسّر لمن أراد أن يحفظه، وقيل: المراد بالذّكر الادّكار والاتّعاظ، يعني: أنّ من قرأ القرآن ليتذكّر به ويتّعظ سهل عليه ذلك واتّعظ وانتفع وهذا المعنى أقرب للصّواب، بدليل قوله: فهل من مدكّر يعني هل أحد يدّكر؟! مع أنّ الله سبحانه يسّر القرآن للذّكر، أفلا يليق بنا وقد سهّل الله القرآن للذّكر أن نتّعظ ونتذكّر؟!
بلى، هذا هو اللّائق.
فهل من مدّكر * كذّبت عاد هذه الأمّة الثانية ممّن قصّهم الله علينا في هذه السّورة الكريمة وعاد تتلو قوم نوح غالباً وقد تتقدّم عليها كما في الذّاريات، ولكن الغالب أنّ قصّة نوح هي الأولى في قصص الأنبياء، لأنّه هو أوّل نبيّ أرسل إلى الأرض.
كذّبت عاد وهم قوم هود، كما قال تعالى: ألا بُعدًا لعاد قوم هود كذّبوا نبيّهم هودً عليه الصّلاة والسّلام، وكانوا أشدّاء أقوياء، وكانوا يفتخرون بشدّتهم وقوّتهم، ويقولون: من أشدّ منّا قوّة، قال الله تعالى: أو لم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً يقول هنا: كذّبت عاد فكيف كان عذابي ونذر والجواب: كان شديداً، عظيماً، واقعاً موقعه، فالاستفهام إذن للتّفخيم والتّعظيم والتّقرير وهو أنّ عذاب الله كان عظيما وكان واقعا موقعه، نذره يعني آياته كذلك كانت عظيمة واقعة موقعها، فبماذا أهلكهم الله؟
أهلكهم الله بألطف شيء وهو الرّيح التي تملأ الآفاق، ومع ذلك لا يحسّ الإنسان بها لأنّها سهلة ليّنة يخترقها الإنسان بسهولة مكاننا الآن الذي نحن فيه مملوء بالهواء أليس كذلك؟
السائل : بلى.
الشيخ : ومع ذلك فنحن نخترقه ولا نحسّ به فهي من ألطف الأشياء.
أهلك الله عادا الذين يفتخرون بقوّتهم بهذه الرّيح كما قال الله عزّ وجلّ هنا: إنّا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمرّ : الجملة هنا مؤكّدة بإنّ، وأرسلنا يعني: الرّبّ عزّ وجلّ نفسه، يعني أن الله يعني نفسه بقوله: أرسلنا وجمع الضّمير للتّعظيم.
عليهم : أي على عاد، ريحا صرصرا : أي ذات صرير لقوّتها وشدّتها حتّى إنّ مجرّد نفورها يسمع له الصّرير وإن لم تصطدم بما يقتضي الصّرير لأنّها قويّة وعظيمة جدّا وهي الرّيح الغربيّة أتت من قبل الغرب لعاد، فقالوا: هذا عارض ممطرنا ، وكانوا قد أجدبوا قبل ذلك سنوات، فلمّا أقبلت بسوادها وعظمتها وزمجرتها قالوا هذا عارض ممطرنا، ولكنّ الأمر كان بالعكس، كانت ريحاً فيها عذاب أليم، كانت ريحاً عقيماً، ليس فيها مطر ولا يرجى أن يأتي منها مطر، فهنا يقول عزّ وجلّ: إنّا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً أيّ ريح هي؟
السائل : الغربية
الشيخ : الغربيّة، التي تأتي من ناحية المغرب، صرصراً: أي شديدة الصّوت والصّرير لقوّتها وسرعتها.
في يوم نحس مستمرّ : في يوم نحس أي: في يوم شؤم.
مستمرّ بالنّسبة لعاد، ليس في كلّ وقت، فاليوم الذي أهلكوا فيه ليس هو نفسُه نحساً مستمرّا ولكنّه بالنّسبة لهؤلاء كان يوم نحس مستمرّاً كما قال الله تعالى عن قوم نوح: أُغرقوا فأُدخلوا نارًا ، هؤلاء أهلكوا بالرّيح فأدخلوا النّار، فالنّحس أي: الشّؤم كان مستمرّا معهم، عذاب الآخرة متّصل بعذاب الدّنيا.
تنزع النّاس أي تأخذهم بشدّة وقوّة وترفعهم إلى السّماء، نسأل الله العافية! حتى قال بعضهم: ترفعهم حتّى يغيب الإنسان عن الرّؤية من علوّه ثمّ تطرحه في الأرض، إذا سقطوا على الأرض سقطوا على أمّ رؤوسهم ثمّ انفصل الرّأس من الجسد لشدّة الصّدمة.
تنزع النّاس كأنّهم كأنّهم في حال سقوطهم على الأرض: أعجاز نخل منقعر أعجاز أي: أصول، والنّخل معروف، والمنقعر: السّاقط من أصله، يعني كأنّهم نخل سقط من أصله وبقيت جثثه، لماذا صاروا كأعجاز النّخل؟
لأنّه ليس لهم رؤوس على ما قال المفسّرون: حيث إنّ رؤوسهم انفصلت من شدّة الصّدمة، فسبحان القويّ العزيز! هؤلاء القوم الأشدّاء الأقوياء وصلوا إلى هذه الحال بريح من عند الله عزّ وجلّ.
تنزع النّاس كأنّهم أعجاز منقعر * فكيف كان عذابي ونذر وهنا أسأل: هنا قال كأنّهم أعجاز نخل منقعر ، وفي الحاقّة: كأنّهم أعجاز نخل خاوية والمعنى متقارب، لكن من بلاغة القرآن أن يجري الكلام فيه على نسق واحد فهناك: كأنّهم أعجاز نخل خاوية مناسب للفواصل التي في الحاقّة، أليس كذلك؟
أمّا هنا كأنّهم أعجاز نخل منقعر فمناسب للفواصل التي في سورة القمر، لأنّ تناسب الكلام واتّساقه من كمال بلاغته.
فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر : كرّر الله تعالى هذا عند آخر كلّ قصّة من أجل أن نحرص على التّذكّر بالقرآن وتدبّر القرآن وتفهّمه، لأنّه ميسّر، والجملة كما ترون مؤكّدة بمؤكّدات ثلاثة:
القسم واللاّم وقد، ممّا يدلّ على التّرغيب في تذكّر القرآن والتّذكّر به.
فهل من مدّكر نرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكم من المدّكّرين لكتاب الله عزّ وجلّ إنّه على كلّ شيء قدير والآن وقد بقي خمس وعشرون دقيقة نفرّغها للأسئلة مبتدئين بالأيمن.
الفتاوى المشابهة
- تفسير آيات من سورة القمر - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة القمر - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة القمر - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة القمر - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة القمر - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة القمر - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 51 - 55) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 41 - 50 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 23 - 32 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 04 - 12 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 9 - 22 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين