تم نسخ النصتم نسخ العنوان
تفسير الآيات ( 10- 23 ) من سورة الرحمن . - ابن عثيمينالشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد خاتم النّبيّين وإمام المتّقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .أمّا بعد: فهذ...
العالم
طريقة البحث
تفسير الآيات ( 10- 23 ) من سورة الرحمن .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد خاتم النّبيّين وإمام المتّقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .
أمّا بعد:
فهذا الخميس هو الخامس والعشرون من جمادى الآخرة، عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللّقاء كالعادة بتفسير كلام الله عزّ وجلّ الذي أنزله الله سبحانه وتعالى لنتدبّر آياته وليتذكّر أولوا الألباب.
يقول الله تبارك وتعالى: والأرض وضعها للأنام يعني: أنّ من نعم الله عزّ وجلّ أنّ الله وضع الأرض للأنام أي: للخلق.
فيها فاكهة والنّخل ذات الأكمام * والحبّ ذو العصف والرّيحان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان :
وضع الله الأرض للأنام أي أنزلها بالنّسبة للسّماء، والأنام هم الخلق، ففيها الإنس، وفيها الجنّ، وفيها الملائكة تنزل بأمر الله من السّماء وإن كان مقرّ الملائكة في السّماء لكن ينزلون إلى الأرض مثل الملكين اللذين عن اليمين وعن الشّمال قعيد، والملائكة الذين يحفظون من أمر الله -المعقّبات-، والملائكة التي تنزل في ليلة القدر وغير ذلك.
فيها فاكهة أي: في الأرض فاكهة، أي: ثمار يتفكّه بها النّاس وأنواعها كثيرة كالعنب، والرّمّان، والتّفّاح، والبرتقال، وغيرها.
والنّخل ذات الأكمام نصّ على النّخل لأنّ ثمرتها أفضل الثّمار فهي حلوى وغذاء وفاكهة، وشجرتها من أبرك الأشجار وأنفعها حتّى أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم شبّه النّخلة بالمؤمن فقال: إنّ من الشّجر شجرة مثلُها مثل المؤمن : فخاض الصّحابة في الشّجر حتّى أخبرهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها النّخلة.
وقوله: ذات الأكمام جمع كِمّ وهو غلاف الثّمرة، فإنّ ثمرة النّخل أوّل ما تخرج يكون عليها كِمّ قويّ ثمّ تنمو في ذلك الكِمّ حتّى يتفطّر وتخرج الثّمرة.
والحبّ ذو العصف والرّيحان الحبّ يعني: الذي يؤكل من الحنطة، والذّرة، والدُّخن، والأرز، وغير ذلك.
وقوله: ذو العصف يعني: ما يحصل من ساقه عند يبسه وهو ما يعرف بالتّبن لأنّه يعصف أي: تطؤه البهائم بأقدامها حتى ينعصف.
والرّيحان هذا الشّجر ذو الرّائحة الطّيّبة، فذكر الله في الأرض الفواكه والنّخل والحبّ والرّيحان، لأنّ كلّ واحد من هذه الأربعة له اختصاص يختصّ به وكلّ ذلك من أجل مصلحة العباد ومنفعتهم.
فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان الخطاب للجنّ والإنس، والاستفهام للإنكار أي: أيّ نعمة تكذّبون بها.
خلق الإنسان من صلصال كالفخّار * وخلق الجانّ مِن مارج من نار خلق الإنسان يعني: جنسه.
من صلصال والصّلصال هو الطّين اليابس الذي له صلصلة أي: صوت عندما تنقره بضفرك يكون له صوت.
كالفخّار هو الطّين المشويّ وهذا باعتبار خلق آدم عليه السّلام، فإنّ الله خلقه من تراب، من طين، من صلصال كالفخّار، من حمأ مسنون، كلّ هذه أوصاف للتّراب، ينتقل من كونه ترابا إلى كونه طينا، إلى كونه حمأ، إلى كونه صلصالا، إلى كونه كالفخّار، حتّى إذا استتمّ نفخ الله فيه من روحه فصار آدميّا.
وخلق الجانّ وهم الجنّ.
من مارج من نار المارج: المختلط، الذي يكون في اللّهب إذا ارتفع صار مختلطاً بالدّخان فيكون له لون بين الحمرة والصّفرة فهذا هو المارج من نار، وأيّهما خُلِق أوّلا؟
الجانّ خلق قبل الإنس، ولهذا قال إبليس لله عزّ وجلّ: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، وخلق الجانّ من مارج من نار * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان أي: بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبون حيث خلق الله عزّ وجلّ الإنسان من هذه المادّة والجنّ من هذه المادّة، وأيّهما خير التّراب أم النّار؟ التّراب خير لا شكّ فيه ومن أراد أن يطّلع على ذلك فليرجع إلى كلام ابن القيّم رحمه الله في كتابه: *إغاثة اللّهفان من مكائد الشّيطان*.
ربّ المشرقين وربّ المغربين يعني: هو، ربّ: خبر مبتدأ محذوف والتّقدير هو ربّ المشرقين وربّ المغربين، يعني: أنّه مالكهما ومدبّرهما فما من شيء يشرق إلاّ بإذن الله وما يغرب إلاّ بإذن الله، وما من شيء يحوزه المشرق والمغرب إلاّ لله عزّ وجلّ، وثنّى المشرق هنا باعتبار مشرق الشّتاء ومشرق الصّيف لأنّه يختلف، فالشّمس في الشّتاء تشرق من أقصى الجنوب، وفي الصّيف بالعكس، القمر في الشّهر الواحد يشرق من أقصى الجنوب ومن أقصى الشّمال، وفي آية أخرى قال الله تعالى: فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب فجمعها، وفي آية ثالثة: ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتّخذه وكيلا : فما هو الجمع بينها؟
نقول: أمّا التّثنية فباعتبار مشرقي الشّتاء والصيف، المشارق بالجمع باعتبار مشرق كلّ يوم ومغربه، لأنّ الشّمس تشرق كلّ يوم من غير المكان الذي أشرقت منه بالأمس وكذلك في الغروب، أو باعتبار الشّارقات والغاربات، لأنّها تشمل الشّمس والقمر والنّجوم وهذه لا يحصيها إلاّ الله عزّ وجلّ، فصار الجمع باعتبار مشرق كلّ يوم ومغربه، لأنّ كلّ يوم يختلف عن اليوم الآخر في الشّروق والغروب، أو باعتبار الشّارقات والغاربات لأنّها كثيرة الشّمس والقمر والنّجوم من يحصيها؟
لا يحصيها إلاّ الله عزّ وجلّ.
أمّا قوله: ربّ المشرق والمغرب فباعتبار النّاحية لأنّ النّواحي أربعة: مشرق ومغرب وشمال وجنوب، والجمع هنا سهل ويسير ليس فيه صعوبة، فنقول: المشرقين والمغربين، التّثنية باعتبار مغربي الشّتاء والصّيف ومشرقي الشّتاء والصّيف، طيب الجمع؟
إمّا باعتبار مشرق الشّمس ومغربها كلّ يوم وهذا يختلف، ولا يخفى عليكم الآن كيف تجدون الشّمس يتغيّر طلوعها وغروبها كلّ يوم ولا سيما عند تساوي اللّيل والنّهار تجد الفرق دقيقة أو دقيقة ونصف بين غروبها بالأمس واليوم، طيب أو باعتبار الشّارق والغارب، والشّارقات والغاربات كثيرات لا يحصيها إلاّ الله عزّ وجلّ.
الإفراد باعتبار الجهة، لأنّ الجهات أربعة: مشرق ومغرب وشمال وجنوب.
ربّ المشرقين وربّ المغربين * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان أي: بأيّ شيء من نعم الله تكذّبان يا معشر الجنّ والإنس؟
فما جوابنا عن هذه الإستفهامات في الآيات كلّها؟
جوابنا: ألاّ نكذّب بشيء من آلاءك يا ربّنا، ولهذا ورد حديث في إسناده ضعف أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا تلاها على الصّحابة كانوا يستمعون إلى قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ولا يردّون شيئاً فقال كلمة معناها: أنّ الجنّ كانوا خير ردّ منكم ، فإنهم كانوا كلّما قرأ آية قالوا: لا بشيء من آلائك ربّنا نكذّب، لكنّ هذا الحديث ضعيف، إنّما يذكره المفسّرون هنا.
ما هي الآلاء والنّعم في المشرقين والمغربين؟
انتبهوا كلّ آية أعقبت فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان فهي تتضمّن نعما عظيمة، فما النّعم التي يتضمّنها اختلاف المشرق والمغرب؟
النّعم ما يترتّب على ذلك من مصالح الخلق: صيف، شتاء، ربيع، خريف، وغير ذلك ممّا لا نعلمه فهي نعم عظيمة باختلاف المشرق والمغرب.
ثمّ قال سبحانه وتعالى: مرج البحرين يلتقيان مرج بمعنى: أرسل، البحرين يعني: المالح والعذب، يلتقيان: يلتقي بعضهما ببعض، البحر المالح هذه البحار العظيمة كالبحر الأحمر، البحر الأبيض، البحر الأطلسي، البحار هذه كلّها مالحة، وجعلها الله تبارك وتعالى مالحة، لأنّها لو كانت عذبة لفسد الهواء وأنتن لكن الملح يمنع الإنتان والفساد.
البحر الآخر البحر العذب وهو الأنهار، الأنهار التي تأتي إما من كثرة الأمطار وإمّا من ثلوج تذوب وتسيح في الأرض المهمّ أنّ الله تعالى أرسلهما بحكمته وقدرته حيث شاء الله عزّ وجلّ.
يلتقيان أي: يلتقي بعضهما ببعض، متى؟
عند مصبّ النّهر في البحر، يلتقيان فيمتزج بعضهما ببعض، لكن حين سيرهما أو حين انفرادهما يقول الله عزّ وجلّ.
بينهما برخ وهو اليابس من الأرض.
لا يبغيان أي: لا يبغي بعضهما على الآخر ولو شاء الله تعالى لسلّط البحار ولفاضت على الأرض وأغرقتها، لأنّ البحر الآن عندما تقف على السّاحل هل تجد جدارا يمنع انسيابه إلى اليابس؟
لا تجد مع أنّ الأرض كرويّة، ومع ذلك لا يسيح البحر لا ههنا ولا ههنا بقدرة الله عزّ وجلّ، ولو شاء الله سبحانه وتعالى لساحت مياه البحار على اليابس من الأرض ودمّرتها، إذن البرزخ الذي بينهما هو إيش؟

السائل : اليابس من الأرض.

الشيخ : اليابس من الأرض هذا قول علماء الجغرافيا، ولا يؤمنون بقول آخر، وقال بعض أهل العلم: بل البرزخ أمر معنويّ يحول بين المالح والعذب أن يختلط بعضهما ببعض، وقالوا: إنّه يوجد الآن في عمق البحار عيون عذبة تنبع من الأرض حتّى إنّ الغوّاصين يغوصون إليها ويشربون منها كأعذب ماء، ومع ذلك لا تفسدها مياه البحار، فإذا ثبت هذا فلا مانع من أن نقول بقول علماء الجغرافيا وقول علماء التّفسير والله على كلّ شيء قدير.
يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان يخرج منهما: أي: من البحرين: العذب والمالح اللّؤلؤ والمرجان وهو قطع من اللّؤلؤ أحمر جميل الشّكل واللّون، مع أنّها مياه.
وقوله تعالى: منهما أضاف الخروج إلى البحرين العذب والمالح، وقد قيل: إنّ اللّؤلؤ لا يخرج إلاّ من المالح ولا يخرج من العذب، والذين قالوا بهذا اضطربوا في معنى الآية كيف يقول الله منهما وهو من أحدهما؟
فأجابوا أنّ هذا من باب التّغليب، أتعرفون التّغليب؟
أن يغلّب أحد الجانبين على الآخر، مثل أن يقال: العمران لأبي بكر وعمر، ويقال: القمران للشّمس والقمر فهذا من باب التّغليب، فمنهما: المراد واحد منهما، وقال بعضهم: بل هذا على حذف مضاف، والتّقدير منهما أي: من أحدهما عندنا إذن كم قول؟
قولان: إمّا أنّه من باب التّغليب، وإمّا أنّه من باب حذف المضاف والتّقدير يخرج من أحدهما.
هناك قول ثالث: أن تبقى الآية على ظاهرها لا تغليب ولا حذف، ويكون منهما أي: منهما جميعا اللّؤلؤ والمرجان وإن امتاز المالح بأنّه أكثر وأطيب فبأيّ هذه الأقوال نأخذ؟

السائل : ما يوافق !

الشيخ : نأخذ بما يوافق ظاهر القرآن، وهذه قاعدة يجب أن تفهموها: أن نأخذ بما يوافق الظّاهر، فالله عزّ وجلّ يقول: يخرج منهما فمن خالقهما؟

السائل : الله.

الشيخ : وهو يعلم ما يخرج منهما، فإذا كانت الآية ظاهرها أنّ اللّؤلؤ والمرجان يخرج منهما جميعًا وجب الأخذ بظاهرها، لكن لا شكّ أنّ المالح أكثر وأطيب لكن لا يمنع أن نقول بظاهر الآية، بل يتعيّن أن نقول بظاهر الآية، وهذه قاعدة خذوها في القرآن والسّنّة أنّنا نحمل الشّيء على ظاهره ولا نؤوّل، اللهمّ إلاّ لضرورة فلا بدّ أن نتمشّى على ما تقتضيه الضرورة، أمّا بدون ضرورة فيجب أن نحمل القرآن والسّنّة على ظاهرهما.
فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان تكميل الآية لأنّ ما في هذه البحار وما يحصل من المنافع العظيمة فيهما نعم كثيرة لا يمكن للإنسان أن ينكرها.
وإلى هنا ينتهي هذا القول وإلى الأسئلة إن شاء الله ونبدأ بالأيمن لكلّ واحد سؤال.

Webiste