تم نسخ النصتم نسخ العنوان
تفسير سورة الطارق من قوله تعالى:" والسماء ذا... - ابن عثيمينالشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أمّا بعد:فإنّ هذا هو اللّقاء الأوّل ل...
العالم
طريقة البحث
تفسير سورة الطارق من قوله تعالى:" والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع " إلى آخر السورة .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فإنّ هذا هو اللّقاء الأوّل لشهر رجب عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، وهو اللقاء الذي يتم كل يوم خميس من كل أسبوع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا جميعاً بما علمنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين.
الطالب : آمين.

الشيخ : عادتنا أن نبدأ هذا اللّقاء بتفسير آيات من كتاب الله، وقد ابتدأنا من سورة النّبأ، وها نحن الآن في آخر سورة الطّارق.
قال الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر الإقسام بالسماء والطارق إلى قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ .
قال تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ هذا هو القسم الثّاني بالسّماء، والقسم الأوّل ما كان في أوّل السّورة فهناك قال: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ ، وهنا قال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ :
والمناسبة بين القسمين والله أعلم أنّ الأوّل فيه إشارة إلى الطّارق الذي هو النّجم، والنّجم كما نعلم تُرمى به الشياطين الذين يسترقون السّمع، وفي رمي الشّياطين بذلك حفظ لكتاب الله عز وجل، أمّا هنا فأقسم بالسّماء ذات الرّجع أنّ هذا القرآن قول فصل، فأقسم على أنّ هذا القرآن قول فصل، فصار القَسَم الأوّل مناسبته أنّ فيه الإشارة إلى ما يحفظ به هذا القرآن حال إنزاله، وفي القسم الثّاني: الإشارة إلى أنّ القرآن حياة، لأنّه قال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ : والرّجع هو المطر، يسمّى رجعاً لأنه يرجع ويتكرّر، ومعلوم أنّ المطر به حياة الأرض.
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ الصّدع هو الانشقاق، يعني التّشقّق لخروج النّبات منها، فأقسم بالمطر الذي هو سبب خروج النّبات، وبالتّشقّق الذي يخرج منه النّبات، وكلّه إشارة إلى حياة الأرض بعد موتها، والقرآن به حياة القلوب بعد موتها كما قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا : فسمّى الله القرآن روحاً ، لأنّه تحيا به القلوب.
يقول عزّ وجلّ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ أي: ذات المطر.
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ أي: ذات الانشقاق لخروج النّبات منها.
إِنّه أي: القرآن.
لَقول فصل فوصفه الله بأنّه قول، قول مَن؟
قول الله عزّ وجلّ، فهو الذي تكلّم به وألقاه إلى جبريل، ثمّ نزل به جبريل على قلب النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وقد أضاف الله القرآن قولًا إلى جبريل، وإلى محمّد -عليهما الصّلاة والسّلام- فقال تعالى في الأوّل: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ .
وقال في الثّاني إضافته إلى الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ :
ففي الأوّل أضاف القول إلى جبريل لأنّه بلّغه عن الله إلى محمّد صلّى الله عليه وسلم.
وفي الثّاني أضافه إلى محمّد لأنّه بلّغه إلى النّاس، وإلا فإنّ الذي قاله ابتداءً هو الله سبحانه وتعالى.
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ فصل: يفصل بين الحق والباطل، وبين المتّقين والظّالمين، بل إنّه فصلٌ، أي: قاطع لكل من ناوأه وعاداه، ولهذا نجد المسلمين لما كانوا يجاهدون الكفّار بالقرآن نجدهم غلبوا الكفّار وقطعوا دابرهم، وقُضي بينهم وبينهم، فلمَّا أعرضوا عن القرآن هُزموا وأذلّوا بقدر بعدهم عن القرآن، فكلما ابتعد الإنسان عن كتاب الله ابتعدت عنه العزة، وابتعد عنه النّصر، حتى يرجع إلى كتاب الله عزّ وجلّ.
قال: وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ أي: وما هو باللّعب والعبث واللّغو، بل هو حقّ، كلماته كلها حقّ، أخباره صدق، وأحكامه عَدل، وتلاوته أَجر، لو تلاه الإنسان كلَّ أوانه لم يملّ منه، وإذا تلاه بتدبّر وتفكّر فتح الله عليه من المعاني ما لم يكن عنده من قبل، وهذا شيء مشاهد، اقرأ القرآن وتدبّره، كلّما قرأته وتدبّرته حصل لك من معانيه ما لم يكن يحصل لك من قبل، كلّ هذا لأنّه فصل وليس بالهزل.
لكن الكلام اللّغو من كلام النّاس كلّما كرّرته مججته وكرهته ومللته، أما كتاب الله فلا.
ثم قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً : إنّهم يعني: الكفّار المكذّبين للرّسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم.
يَكِيدُونَ كَيْداً أي: كيدًا عظيمًا، يكيدون للرّسول عليه الصّلاة والسّلام، يكيدون لمن اتّبعه.
وانظر ماذا كانوا يفعلون بالمؤمنين أيّام كانوا بـمكّة من التعذيب والتّوبيخ والتّشريد، هاجر المسلمون مرّتين إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة، كل ذلك فراراً بدينهم من هؤلاء المجرمين، الذين آذوهم بكل كيد.
وأعظم ما فعلوا بالنبي عليه الصّلاة والسّلام حين الهجرة، حيث اجتمع رؤساؤهم وأشرافهم يتشاورون ماذا يفعلون بمحمّد صلّى الله عليه وسلم؟ فكلّما ذكروا رأيا نقضوه، وقالوا هذا لا يصلح، حتى أشار إليهم فيما ذكر التاريخ الشّيطان الذي جاء في صورة رجل، وقال لهم: " إني أرى أن تختاروا عشرة شبان من قبائل متفرّقة، وتعطوا كلّ واحد منهم سيفًا، حتّى يقتلوا محمدًا قتلة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل، فلم تستطع بنو هاشم أن تقتصّ من القبائل كلها، فيرضخون إلى أخذ الدية "، وهذا هو الذي يريدون، فأجمعوا على هذا الرأي، واستحسنوا هذا الرأي، وفعلا جلس الشّبّان العشرة ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ليقتلوه، ولكن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من الباب وهم جلوس ولم يشاهدوه، وذكر التاريخ أنه جعل يذر التراب على رؤوسهم إذلالاً لهم ويقرأ قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ .
ولا تتعجّبوا كيف خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بينهم ولم يشاهدوه، لا تتعجبوا من هذا، فهاهم قريش حين اختبأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم في الغار لما خرج من مكّة يريد المدينة اختبأ في الغار ثلاثة أيام ليَخفَّ عنه الطّلب، لأنّ قريشًا صارت تطلبه، وجعلت لمن جاء به مائة بعير، ولمن جاء به مع أبي بكر مائتي بعير، وهذه جائزة كبيرة، فوقفوا على الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وكلّنا يعلم أنّ الغار المفتوح إذا كان فيه أحد فسوف يُرى، ولكنّهم لم يروا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا أبا بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فقال: لا تحزن إنّ الله معنا، فما ظنّك باثنين الله ثالثهما ، فاطمأن أبو بكر.
هؤلاء القوم الذين وقفوا على الغار ليس عندهم قصور في السّمع، ولا قصور في البصر، ولا قصور في الذّكاء، ولكن أعمى الله أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صاحبه، فلا تعجب أن خرج من بين هؤلاء الشّبّان العشرة كما قال أهل التّاريخ وجعل يذرّ التّراب على رؤوسهم ويقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ .
هنا يقول عز وجل في سورة الطارق: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ، واتْلُ قول الله تعالى في سورة الأنفال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ يعني: يحبسوك.
أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
ثمّ قال عزّ وجلّ: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً : مهِّل وأمهل معناهما واحد، يعني: انتظر بمهلة، ولا تنتظر بمهلة طويلة: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي: قليلاً.
ورويدًا تصغير رَوْد أو إِرْوَاد، والمراد به الشيء القليل، وفي هذه الآية تهديد لقريش وتسلية للرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ووعد له بالنّصر، وحصل الأمر كما أخبر الله عزّ وجلّ.
خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مهاجراً منهم، وحصل بينه وبينهم حروب، وفي السّنة الثّانية للهجرة قتل من صناديد قريش وكبرائهم وزعمائهم نحو أربعة وعشرين رجلا، منهم قائدهم أبو جهل، وبعد ثماني سنوات، بل أقلّ من ثمان سنوات دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا منصورًا ظافرًا، حتّى إنّه قال كما جاء في التّاريخ: قال وهو ممسك بعضادتي باب الكعبة، وقريش تحته قال لهم: ما ترون أني فاعل بكم؟ : لأن أمرهم أصبح بيده عليه الصلاة والسلام. قالوا: أخ كريم! وابن أخ كريم! فقال: إني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين اذهبوا فأنتم الطّلقاء ، وإنمّا منَّ عليهم هذه المنّة عليه الصّلاة والسّلام لأنّهم أسلموا، وقد قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ .
هذا هو آخر هذه السّورة من كتاب الله عزّ وجلّ، وإنّي في نهايتها أحثّكم على تدبّر القرآن وتفهّم معانيه، خذوا معناه من أفواه العلماء الموثوقين، أو من كتب التفسير الموثوقة كـتفسير ابن كثير، أو تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وما أشبههما من التفاسير التي تعرفون أصحابها أنهم موثوقون في عقيدتهم وفي آرائهم.
نسأل الله أن يجعلنا جميعا ممّن يتلون كتابه حقّ تلاوته، وأن ينفعنا به، وأن يجعله شفيعا لنا يوم القيامة، إنّه على كل شيء قدير، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا الآن فإلى الأسئلة ونبدأ باليمين، والقاعدة عندنا أنّ كلّ واحد يأخذ سؤالا واحدًا حتى لا يحرم الباقون من السّؤال.

Webiste