تفسير سورة البلد إلى قوله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في كبد ".
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء التاسع والستون من اللقاءات الأسبوعية التي لُقِّبت بـ " لقاء الباب المفتوح "، والتي تتم في كل يوم خميس، وهذا هو الخميس العاشر من شهر ربيع الأول عام خمسة عشر وأربعمائة وألف.
نبتدئ هذا اللقاء بتفسير سورة البلد، لأننا قد أنهينا تفسير جزء عم من سورة النبأ.
يقول الله عزَّ وجلَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ : البسملة آية مستقلة، وهي من كلام الله، لكنها ليست من السورة التي قبلها، ولا من السورة التي بعدها، بل هي آية مستقلة تُفْتَتَح بها السور إلا سورة براءة، فإن افتتاح سورة براءة بالبسملة من البدعِ، والخروجِ عن منهج الصحابة رضي الله عنهم، بل ونحن نعلم أنها لم تنزل البسملة بين سورة الأنفال وسورة التوبة، لأنها لو نزلت لحُفِظت، لقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، لكنها لم تنزل، إلا أن الصحابة عند جمع القرآن -افتح الباب افتح شوي عشان يسمع اللي برة- إلا أن الصحابة عند كتابة القرآن الكتابة الأخيرة أشكل عليهم أسورة براءة من الأنفال، أم هي مستقلة، فوضعوا فاصلاً دون البسملة.
يقول الله عزَّ وجلَّ: بسم الله الرحمن الرحيم * لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وأنت حلٌّ بهذا البلد .
ولي تعريجةٌ يسيرةٌ على ما سبق في الدرس الماضي في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ فإني قرأتهما هكذا وفسَّرتُهما على هذه القراءة، لأن في الآيتين المذكورتين قراءتين: القراءة الأولى التي في المصحف، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ، أي: لا يعذِّب عذابَ الله أحدٌ، بل عذابُ الله أشد، ولا يوثِق وثاقَ الله أحدٌ، بل هو أشد.
أما على قراءة: لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ، أي: لا يعذَّب عذابَ هذا الرجل، ولا يوثَق وثاقَ هذا الرجل، وهذا هو الذي قرأنا به الآيتان عليه، وفسرناها به، فلأجل هذا جَرَى التنبيه.
يقول الله عزَّ وجلَّ: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ لا هذه: للاستفتاح، لاستفتاح الكلام وتوكيد الكلام، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني: أنا أقسم بهذا البلد، لكن لا هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد.
و أُقْسِمُ القَسَم: تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّم على وجه مخصوص، تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّم على شيء مخصوص، إذن: كلُّ شيء مَحْلُوفٍ به فإنه لابد أن يكون معظماً لدى الحالف، وقد لا يكون معظماً في حد ذاته، فمثلًا الذين يحلفون باللات والعزى، هي مُعَظَّمة عندهم، لكنها في الواقع ليست عظيمة ولا مُعَظَّمة.
فالحلف إذن أو القَسَم أو اليمين -والمعنى واحد- هي: تأكيد الشيء بإيش؟ بذكر مُعَظَّم عند من؟ عند الحالف، على صفة مخصوصة.
وحروف القسم هي: الباء، والواو، والتاء.
والذي في الآية الكريمة هنا: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ أي الحروف؟ الباء.
بِهَذَا الْبَلَدِ البلد هنا: مكة، وأقسَمَ الله بها لشرفها وعِظَمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة، وأحب بقاع الأرض إلى الله عزَّ وجلَّ، ولهذا بُعِث منها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه.
فجدير بهذا البلد الأمين أن يُقْسَم به، ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ، أما الله عزَّ وجلَّ فإنه يُقْسم بما يشاء، ولهذا أقسم هنا بـمكة: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ .
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ قيل: المعنى: أقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه، لأن حلول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مكة يزيدها شرفاً إلى شرفها، وقيل: المعنى: وأنت تستحل هذا البلد.
فيكون إقسام الله تعالى بـمكة حال كونها حِلاًّ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح، لأن مكة عام الفتح أُحِلَّت للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تُحَلَّ لأحد قبله، ولا تَحِلُّ بعد ذلك لأحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتِها بالأمس .
فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيَّداً بما إذا كانت حِلاًّ للرسول، وذلك متى ؟ عام الفتح، لأنها في ذلك اليوم تزداد شرفاً إلى شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام، وهُزِم المشركون، وفُتِحَت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلاد كفر، صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بلاد شرك، صارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حالٍ لـمكة أشرف حال لها كانت عند الفتح.
إذن: في قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ معنيان، أرجو أن يكونا على بالكم.
قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ : يعني: وأقسم بالوالد وما ولد، فمَن المراد بالوالد؟ ومَن المراد بالولد؟ قيل: المراد بالوالد: آدم، وبالولد: بنو آدم.
وعلى هذا تكون ما بمعنى مَن أي: ووالد ومَن وَلَد، لأن مَن للعقلاء، و ما لغير العقلاء.
وقيل: المراد بالوالد وما ولد: كلُّ والد وما ولد، الإنسان، والبهائم، وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عزَّ وجلَّ، كيف يخرج -مثلاً- هذا المولود حياً سوياً، سميعاً بصيراً، من نطفة من ماء؟ فهذا دليل على كمال قدرة الله عزَّ وجلَّ، هذا الولد السوي يخرج من نطفة، أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، كذلك الْحشرات وغيرها تَخرج ضعيفة هزيلة، ثُمَّ تكبر إلى ما شاء الله تعالى مِن حَدٍّ.
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ إذن: الصحيح أن هذه عامة، تشمل كل والد وكل مولود.
قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ اللام هنا: واقعة في جواب القسم لتزيد الجملة تأكيداً، وقد تزيد الجملة تأكيداً أيضاً فتكون جملةُ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مؤكَّدةً بثلاثة مؤكدات وهي: القسم، والثاني؟ اللام، والثالث؟ قد.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ الْإِنْسَانَ اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم.
فِي كَبَدٍ فيها معنيان: المعنى الأول: في استقامة، يعني: أنه خُلِق على أكمل وجه في الخِلْقة، مستقيماً، يمشي على قدميه، ويرفع رأسَه، وبدنُه معتدلٌ، والبهائم بالعكس، الرأس على حذاء الدبر.
أليس كذلك؟ أما بنو آدم فلا، الرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ .
وقيل المراد بالكبد: مكابدة الأشياء، ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، في طلب الرزق، في إصلاح الحرث، في غير ذلك، ويعاني أيضاً معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا هو الجهاد اللي أشد من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتُلي الإنسان ببيئة منحرفة، وصار بينهم غريباً، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضاً.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الآية شاملةً للمعنيين؟
فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدتَ في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين، وليس بينهما مناقضة، فاحملها إيش؟ على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح، فمثلاً قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فقُرُوء: جمع قَرْء، بفتح القاف، فما هو القَرْء؟ قيل: هو الحيض، وقيل: هو الطهر، هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً، لماذا؟ للتناقض، لكن اطلب المرجِّح لأحد القولَين، وخُذْ به.
فهنا نقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ يصح أن تكون الآية شاملةً للمعنيين: أي: في حسن قامة واستقامة، وفي كبد في معاناة لمشاق الأمور.
ولنقتصر على هذا القدر من آيات الله البينات، لنتفرغ للأسئلة.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
فنبدأ أولًا بسؤال الإخوة الذين ليسوا من عنيزة، لأنهم ضيوف، ولهم حق الضيافة، وليسوا يأتون في الأسبوع إلا مرة، أما الذين في عنيزة فالحمد لله نحن وإياهم سواء، أهل بيت. نعم
أما بعد:
فهذا هو اللقاء التاسع والستون من اللقاءات الأسبوعية التي لُقِّبت بـ " لقاء الباب المفتوح "، والتي تتم في كل يوم خميس، وهذا هو الخميس العاشر من شهر ربيع الأول عام خمسة عشر وأربعمائة وألف.
نبتدئ هذا اللقاء بتفسير سورة البلد، لأننا قد أنهينا تفسير جزء عم من سورة النبأ.
يقول الله عزَّ وجلَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ : البسملة آية مستقلة، وهي من كلام الله، لكنها ليست من السورة التي قبلها، ولا من السورة التي بعدها، بل هي آية مستقلة تُفْتَتَح بها السور إلا سورة براءة، فإن افتتاح سورة براءة بالبسملة من البدعِ، والخروجِ عن منهج الصحابة رضي الله عنهم، بل ونحن نعلم أنها لم تنزل البسملة بين سورة الأنفال وسورة التوبة، لأنها لو نزلت لحُفِظت، لقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، لكنها لم تنزل، إلا أن الصحابة عند جمع القرآن -افتح الباب افتح شوي عشان يسمع اللي برة- إلا أن الصحابة عند كتابة القرآن الكتابة الأخيرة أشكل عليهم أسورة براءة من الأنفال، أم هي مستقلة، فوضعوا فاصلاً دون البسملة.
يقول الله عزَّ وجلَّ: بسم الله الرحمن الرحيم * لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وأنت حلٌّ بهذا البلد .
ولي تعريجةٌ يسيرةٌ على ما سبق في الدرس الماضي في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ فإني قرأتهما هكذا وفسَّرتُهما على هذه القراءة، لأن في الآيتين المذكورتين قراءتين: القراءة الأولى التي في المصحف، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ، أي: لا يعذِّب عذابَ الله أحدٌ، بل عذابُ الله أشد، ولا يوثِق وثاقَ الله أحدٌ، بل هو أشد.
أما على قراءة: لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ، أي: لا يعذَّب عذابَ هذا الرجل، ولا يوثَق وثاقَ هذا الرجل، وهذا هو الذي قرأنا به الآيتان عليه، وفسرناها به، فلأجل هذا جَرَى التنبيه.
يقول الله عزَّ وجلَّ: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ لا هذه: للاستفتاح، لاستفتاح الكلام وتوكيد الكلام، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني: أنا أقسم بهذا البلد، لكن لا هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد.
و أُقْسِمُ القَسَم: تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّم على وجه مخصوص، تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّم على شيء مخصوص، إذن: كلُّ شيء مَحْلُوفٍ به فإنه لابد أن يكون معظماً لدى الحالف، وقد لا يكون معظماً في حد ذاته، فمثلًا الذين يحلفون باللات والعزى، هي مُعَظَّمة عندهم، لكنها في الواقع ليست عظيمة ولا مُعَظَّمة.
فالحلف إذن أو القَسَم أو اليمين -والمعنى واحد- هي: تأكيد الشيء بإيش؟ بذكر مُعَظَّم عند من؟ عند الحالف، على صفة مخصوصة.
وحروف القسم هي: الباء، والواو، والتاء.
والذي في الآية الكريمة هنا: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ أي الحروف؟ الباء.
بِهَذَا الْبَلَدِ البلد هنا: مكة، وأقسَمَ الله بها لشرفها وعِظَمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة، وأحب بقاع الأرض إلى الله عزَّ وجلَّ، ولهذا بُعِث منها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه.
فجدير بهذا البلد الأمين أن يُقْسَم به، ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ، أما الله عزَّ وجلَّ فإنه يُقْسم بما يشاء، ولهذا أقسم هنا بـمكة: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ .
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ قيل: المعنى: أقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه، لأن حلول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مكة يزيدها شرفاً إلى شرفها، وقيل: المعنى: وأنت تستحل هذا البلد.
فيكون إقسام الله تعالى بـمكة حال كونها حِلاًّ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح، لأن مكة عام الفتح أُحِلَّت للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تُحَلَّ لأحد قبله، ولا تَحِلُّ بعد ذلك لأحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتِها بالأمس .
فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيَّداً بما إذا كانت حِلاًّ للرسول، وذلك متى ؟ عام الفتح، لأنها في ذلك اليوم تزداد شرفاً إلى شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام، وهُزِم المشركون، وفُتِحَت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلاد كفر، صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بلاد شرك، صارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حالٍ لـمكة أشرف حال لها كانت عند الفتح.
إذن: في قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ معنيان، أرجو أن يكونا على بالكم.
قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ : يعني: وأقسم بالوالد وما ولد، فمَن المراد بالوالد؟ ومَن المراد بالولد؟ قيل: المراد بالوالد: آدم، وبالولد: بنو آدم.
وعلى هذا تكون ما بمعنى مَن أي: ووالد ومَن وَلَد، لأن مَن للعقلاء، و ما لغير العقلاء.
وقيل: المراد بالوالد وما ولد: كلُّ والد وما ولد، الإنسان، والبهائم، وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عزَّ وجلَّ، كيف يخرج -مثلاً- هذا المولود حياً سوياً، سميعاً بصيراً، من نطفة من ماء؟ فهذا دليل على كمال قدرة الله عزَّ وجلَّ، هذا الولد السوي يخرج من نطفة، أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، كذلك الْحشرات وغيرها تَخرج ضعيفة هزيلة، ثُمَّ تكبر إلى ما شاء الله تعالى مِن حَدٍّ.
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ إذن: الصحيح أن هذه عامة، تشمل كل والد وكل مولود.
قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ اللام هنا: واقعة في جواب القسم لتزيد الجملة تأكيداً، وقد تزيد الجملة تأكيداً أيضاً فتكون جملةُ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مؤكَّدةً بثلاثة مؤكدات وهي: القسم، والثاني؟ اللام، والثالث؟ قد.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ الْإِنْسَانَ اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم.
فِي كَبَدٍ فيها معنيان: المعنى الأول: في استقامة، يعني: أنه خُلِق على أكمل وجه في الخِلْقة، مستقيماً، يمشي على قدميه، ويرفع رأسَه، وبدنُه معتدلٌ، والبهائم بالعكس، الرأس على حذاء الدبر.
أليس كذلك؟ أما بنو آدم فلا، الرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ .
وقيل المراد بالكبد: مكابدة الأشياء، ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، في طلب الرزق، في إصلاح الحرث، في غير ذلك، ويعاني أيضاً معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا هو الجهاد اللي أشد من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتُلي الإنسان ببيئة منحرفة، وصار بينهم غريباً، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضاً.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الآية شاملةً للمعنيين؟
فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدتَ في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين، وليس بينهما مناقضة، فاحملها إيش؟ على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح، فمثلاً قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فقُرُوء: جمع قَرْء، بفتح القاف، فما هو القَرْء؟ قيل: هو الحيض، وقيل: هو الطهر، هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً، لماذا؟ للتناقض، لكن اطلب المرجِّح لأحد القولَين، وخُذْ به.
فهنا نقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ يصح أن تكون الآية شاملةً للمعنيين: أي: في حسن قامة واستقامة، وفي كبد في معاناة لمشاق الأمور.
ولنقتصر على هذا القدر من آيات الله البينات، لنتفرغ للأسئلة.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
فنبدأ أولًا بسؤال الإخوة الذين ليسوا من عنيزة، لأنهم ضيوف، ولهم حق الضيافة، وليسوا يأتون في الأسبوع إلا مرة، أما الذين في عنيزة فالحمد لله نحن وإياهم سواء، أهل بيت. نعم
الفتاوى المشابهة
- تفسير سورة النساء، قال الله تعالى : (( يا أي... - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 75 - 82 ) من سورة الواقعة . - ابن عثيمين
- تفسير قوله تعالى : [ ءأنتم أشد خلقاً أم السم... - ابن عثيمين
- تفسير قوله تعالى : " أيحسب أن لن يقدر عليه أ... - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة البلد - ابن عثيمين
- تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) - ابن عثيمين
- تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة البلد - ابن عثيمين
- تفسير آيات من سورة البلد - ابن عثيمين
- تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) - ابن عثيمين
- تفسير سورة البلد إلى قوله تعالى : " لقد خلقن... - ابن عثيمين