هذا بقية الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه ، في قصة أبي طلحة حين مات له ابن صغير يقول في إحدى الروايات : "أن أم سليم رضي الله عنها لما جاء أبو طلحة بعد أن توفي الابن الطفل الصغير ، قالت له : أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريَّة لأناس ، ثم جاؤوا يطلبونها ، هل لهم أن يمنعوهم منها ؟ قال : لا" : إذا جاء صاحب العارية يقول : أعطني ما أعرتك فإنه لا يمنعه قالت : "فاحتسب ابنك" : يعني أن الأولاد عندنا عاريَّة ، وهم ملك لله عز وجل ، متى شاء أخذهم ، فضربت له هذا المثل من أجل أن يقتنع ويحتسب الأجر على الله سبحانه وتعالى ، وهذا يدل على ذكائها رضي الله عنها ، وعلى أنها امرأة عاقلة صابرة محتسبة ، وإلا فإن الأم كالأب ينالها من الحزن على ولدها مثلما ينال الأب ، وربما تكون أشد حزنا ، لضعفها وعدم صبرها .
وفي هذا الحديث : بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كان له تسعة من الولد أو عشرة من الولد كلهم يقرؤون القرآن ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه أيضا : كرامة لأبي طلحة رضي الله عنه ، لأن أبا طلحة كان خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، وكانت معه أم سُليم بعد أن حملت ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من السفر أتاها المخاض يعني : جاءها الطلق قبل أن يصلوا إلى المدينة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يطرق أهله طُروقا ، يعني لا يحب أن يدخل عليهم ليلا دون أن يخبرهم بالقدوم ، فدعا أبو طلحة رضي الله عنه ربه وقال : "اللهم إنك تعلم أنني أحب ألا يخرج النبي صلى الله عليه وسلم مخرجا إلا وأنا معه ، ولا يرجع مرجعا إلا وأنا معه ، وقد أصابني ما ترى" : يقوله لله عز وجل ، يناجي ربه سبحانه وتعالى تقول أم سليم : "فما وجدت الذي كنت أجده من قبل" : يعني هان عليها الطلق ، ولا كأنها تطلق ، قالت أم سليم لزوجها أبو طلحة : "فانطلق فانطلق ودخل المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما وصلوا إلى المدينة وضعت" : ففي هذا كرامة لأبي طلحة رضي الله عنه ، حيث خفف الله الطلق على امرأته بدعائه ، ثم لما وضعت قالت أم سليم لابنها أنس بن مالك وهو أخو هذا الحمل الذي وُلد، أخوه من أمه قالت : "احتمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" : إذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هي عادة أهل المدينة ، إذا ولد لهم ولد يأتون به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم تمر ، فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم التمرة فيمضغها بفمه ، ثم يُحنك بها الصبي ، لأن في ذلك فائدتين : الفائدة الأولى : بركة ريق النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بريق النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعرقه ، حتى كان من عادتهم أنه إذا كان في الصباح وصلى الفجر أتوا بآنية فيها ماء ، فغمس النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الماء وعرك يديه في الماء ، فيأتي به الصبيان ، يأتون بهذا الماء ثم ينطلقون به إلى أهليهم يتبركون بأثر النبي صلى الله عليه وسلم .
وكانوا أي الصحابة إذا توضأ النبي عليه الصلاة والسلام كادوا يقتتلون على وَضوئه ، على فضل الماء يتبركون به ، ويأخذون من عرقه ، ويأخذون من شعره ، حتى كان عند أم سلمة إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإحدى أمهات المؤمنين عندها جُلجل من فضة يعني مثل الطابوب ، فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم يستشفى بها المرضى ، أو يستشفون بها ، يعني يأتون بشعرتين أو ثلاثة من شعرات الرسول عليه الصلاة والسلام يضعونها في ماء ثم يحركونها من أجل أن يتبركوا بهذا الماء ، لكن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام .
الفائدة الثانية مِن التمر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحنك الصبيان : أن التمر فيه خير وبركة ، وفيه فائدة للمعدة ، فإذا كان أول ما يصيب الطفل أو أول ما يصل إلى معدته من التمر كان ذلك خيرًا للمعدة ، فحنكه الرسول عليه الصلاة والسلام ودعا له بالبركة ، والشاهد من هذا الحديث أن أم سُليم قالت لأبي طلحة : "احتسب ابنك" يعني : اصبر على ما أصابك من فقده ، واحتسب الأجر على الله ، والله الموفق .