تتمة شرح : " ... وقال تعالى: (( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون، قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون، إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون، قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )) ... " .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : هذه الكلمة يؤكّد الله عزّ وجلّ أنه يقولها وهي قوله: رب ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت ، ومِن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون : يعني مِن أمام هؤلاء الذين حضرتهم الوفاة: برزخ إلى يوم يبعثون والبررزخ هو الفاصل بين الدّنيا وبين قيام الساعة، سواء كان الإنسان مدفونا في الأرض، أو على ظهر الأرض تأكله السّباع، وتتلفه الرياح، أو كان في قاع البحار، كلّ هذا يسمّى برزخ، إلى يوم يبعثون : يعني يخرجون من القبور لله عزّ وجلّ في يوم القيامة، فإذا نفخ في الصّور : وذلك عند قيام السّاعة، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .
والنّفخ في الصور مرّتان: المرّة الأولى يكون فيها الفزع والصّعق يعني الموت، فينفخ إسرافيل في الصّور نفخة يكون لها صوت عظيم مزعج جدّا فيفزع النّاس ثمّ يموتون كلّهم إلاّ من شاء الله.
النّفخة الثانية: ينفخ في الصّور فتخرج الأرواح من الصور وتعود إلى أجسادها، وهذه التي يكون بها الحياة الأبديّة التي لا موت بعدها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون : يعني بعد ما يبعثون من قبورهم لا تنفعهم الأنساب يعني القرابات، ولا يتساءلون : لا يسأل بعضهم عن بعض، بل إن الله تعالى يقول: يوم يفرّ المرء من أخيه * وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، فالأنساب في ذلك الوقت لا تنفع، والقرابات لا يتساءلون، بينما في الدّنيا يسأل بعضهم عن بعض ما الذي حصل لهذا؟ ما الذي حصل لهذا؟ أما في الآخرة : فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون : فينقسم الناس في ذلك اليوم إلى قسمين: قسم تثقل موازينه فهذا المفلح، فائز بما يحبّ ناجٍ مما يكره، والموازين : جمع ميزان ، وقد وردت في الكتاب والسّنّة مجموعة ومفردة ، فقال الله تعالى هنا : فمن ثقلت موازينه ، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ، فقال: في الميزان ولم يقل: في الموازين، فجمعت مرّة وأُفردت أخرى، وذلك لكثرة ما يوزن، فلكثرة ما يوزن جُمعت، ولكون الميزان واحدا ليس فيه ظلم ولا بخس أُفردت، والذي يوزن قال بعض العلماء: " إن الذي يوزن العمل "، وقال بعض العلماء: " الذي يوزن صحائف العمل "، وقال بعض العلماء: " الذي يوزن العامل نفسه "، وذلك لأن كلاّ منها جاءت به أحاديث.
أما الذين يقولون: أنّ الذي يوزن العمل فاستدلّوا بقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره فجعل الوزن للعمل، وبقول النبي عليه الصّلاة والسلام: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان : فجعل الثقل للكلمتين وهما العمل، والذين قالوا: إن الذي يوزن صحائف العمل استدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يأتي يوم القيامة فيُمدّ له سجلّ يعني: أوراقا كثيرا مدّ البصر كلها سيّئات حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله له: إنا عندنا لك حسنة ، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلاّ الله قالها من قلبه فتوضع البطاقة في كفّة وتلك السّجّلات في كفّة ، فترجح البطاقة بها ، فهذا يدلّ على أنّ الذي يوزن صحائف الأعمال ، وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن العامل نفسه فاستدلوا بقوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين ضحك الناس على ابن مسعود رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه نَحيفًا فقام إلى شجرة أراك في ريح شديدة ، فجعلت الريح تهزهزه ، فضحك الناس لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: أتضحكون -أو قال- أتعجبون من دقّة ساقيه؟! والذي نفسي بيده إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد ، وهذا يدلّ على أنّ الذي يوزن هو العامل نفسه، والمهمّ أن يوم القيامة توزن الأعمال أو صحائف الأعمال أو العمّال ، فمن ثقلت موازينه فأوئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنّم خالدون ، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممّن ثقلت موازينه ومن المفلحين الفائزين برضوان الله، والله الموفّق.
وقوله سبحانه وتعالى: فأولئك الذين خسروا أنفسهم : إنما قال: خسروا أنفسهم، لأنهم أُخرجوا إلى الدّنيا وجاءتهم الرسل وبيّنت لهم الحق ولكنّهم والعياذ بالله عاندوا واستكبروا فخسروا أنفسهم ولم يستفيدوا من وجودهم في الدّنيا شيئا، قال الله تعالى: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ، ثمّ قال تعالى مبيّنا أنهم كما يعذّبون بدنيّاً فإنّهم يعذّبون قلبيّا فيقرّعون ويوبّخون فيقال لهم: ألم تكن آياتي تُتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون : فقد تليت عليهم آيات الله وبيّنت لهم وجاءتهم الرسل بالحقّ ، ولكنّهم كفروا والعياذ بالله وكذّبوا بهذه الآيات، قالوا في الجواب: ربّنا غَلَبت علينا شِقوتنا وكنّا قوما ضالّين * ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا يعني: إن عدنا إلى التكذيب فإنا ظالمون : فيقرّون والعياذ بالله بأن الشّقاوة غلبت عليهم، وأنهم ضلّوا الضّلال المبين الذي أوصلهم إلى هذه النار -نسأل الله أن يعيذنا وإيّاكم منها- قال الله تعالى : اخسؤوا فيها ولا تكلّمون أي : ابقوا فيها أذلّة صاغرين ولا تكلموني، وهذا أشدّ ما يكون عليهم والعياذ بالله أن يوبّخهم الله هذا التوبيخ فيقول: اخسؤوا فيها ولا تكلّمون ، فإنهم لو كلّموا الله لن يستجيب لهم، لأنه قضى عليهم بالخلود في النار، ثم قال تعالى مبيّنا حالهم مع أوليائه: إنه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحممين : وهؤلاء هم المؤمنون بالله ورسله يقولون: ربّنا إنّنا آمنّا أي: آمنّا بك، وبرسلك وبما جاؤوا به من الحقّ فاغفر لنا وارحمنا : اغفر لنا ذنوبنا حتى لا ندخل النار، وارحمنا بالقبول حتى ندخل الجنّة، وأنت خير الراحمين : فلا أحد أرحم بعباد الله من ربهم عزّ وجلّ، قال النبي عليه الصّلاة والسّلام: لله بعباده أرحم من الوالدة بولدها ، فاتخذتموهم سِخريًا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون : يعني أنّكم تسخرون من هؤلاء المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويسألونه المغفرة والرّحمة، فكنتم تسخرون بهم وتستهزؤون بهم، حتى أنسوكم ذكري : أي حتى كان سخريتكم بهم واستهزاؤكم بهم مُنسية لكم ذكري، وكنتم منهم تضحكون : يعني في الدنيا يضحكون من المؤمنين يستهزؤون بهم ولكن الله قال في سورة المطفّفين: فاليوم الذين آمنوا من الكفّار يضحكون ، وهذا الضّحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك الكفار من المسلمين في الدّنيا فإنه سيعقبه البكاء الدائم والعياذ بالله.
إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون : يعني جزى الله تعالى المؤمنين بما صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، وصبروا على أقداره : أنهم هم الفائزون : الذين فازوا في هذا اليوم فأدركوا المطلوب ونجوا من المرهوب، وإنما ذكر الله هذا لهؤلاء المكذّبين زيادة في حسرتهم وندامتهم ، كأنه يقول عزّ وجلّ: لو كنتم مثلهم لنلتم هذا الثّواب، فيزدادون بذلك حسرة إلى حسرتهم والعياذ بالله، كيف كان حال هؤلاء الذين كانوا يسخرون بهم في الدنيا ويضحكون منهم، وكيف كانت حالهم هم في نار جهنّم، قال: كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم فاسأل العادّين : انظر جاءتهم الرسل، وعمّروا عمرا يتذكّر فيه من تذكّر، ولكنّهم والعياذ بالله لم ينتفعوا بهذا، ورأوا أنهم كأنما لبثوا ساعة أو بعض ساعة: قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسألوا العادّين : اسألوا العادّين منّا فإننا لا نرى إننا لبثنا إلاّ يوما أو بعض يوم، قال الله تعالى: إن لبثتم إلاّ قليلا يعني : ما لبثتم إلاّ قليلا في الدّنيا وآل بكم الأمر إلى الآخرة التي تبقون فيها أبد الآبدين معذّبين قال إن لبثتم إلاّ قليلا لو أنكم كنتم تعلمون يعني : لو أنّكم كنتم من ذوي العلم لعلمتم مقدار تكذيبكم للرسل، ومقدار أعمالكم التي خسرتموها، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا : يعني أتظنّون أننا خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون : هم ظنّوا كذلك، ظنّوا هذا الظّنّ ولكنّ الله وبّخهم على هذا الظّنّ، هل من حكمة الله أن يُنشئ هذه الخليقة ويرسل إليها الرّسل وينزل عليها الكتب، ثم يكون النهاية الموت والفناء بدون بعث؟ بدون رجوع؟ هذا لا يمكن، لكن هذا ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
ثم قال تعالى: فتعالى الله الملك الحق لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم :تعالى يعني ترفّع عزّ وجلّ عن كلّ نقص وعن كلّ سوء وعلا بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى، فتعالى الله الملك الحق : الملك يعني ذو الملك والسلطان والعظمة الحقّ : الذي كان ملكه وملكوته حقّا وليس بباطل ، لا إله إلاّ هو أي : لا معبود حقّ إلاّ الله عزّ وجلّ ، رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلاها آخر لا برهان له به إلى آخر السورة، فهذه الآيات تبيّن أن الإنسان ينبغي له أن ينتهز فرصة العمر، وأن لا يخسر عمره كما خسره هؤلاء، وأنه سوف يُبعث ويُجازى ويحاسب على عمله، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممن حسابه يسير، ومآله في دار القرار في جنّات النّعيم.
والنّفخ في الصور مرّتان: المرّة الأولى يكون فيها الفزع والصّعق يعني الموت، فينفخ إسرافيل في الصّور نفخة يكون لها صوت عظيم مزعج جدّا فيفزع النّاس ثمّ يموتون كلّهم إلاّ من شاء الله.
النّفخة الثانية: ينفخ في الصّور فتخرج الأرواح من الصور وتعود إلى أجسادها، وهذه التي يكون بها الحياة الأبديّة التي لا موت بعدها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون : يعني بعد ما يبعثون من قبورهم لا تنفعهم الأنساب يعني القرابات، ولا يتساءلون : لا يسأل بعضهم عن بعض، بل إن الله تعالى يقول: يوم يفرّ المرء من أخيه * وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، فالأنساب في ذلك الوقت لا تنفع، والقرابات لا يتساءلون، بينما في الدّنيا يسأل بعضهم عن بعض ما الذي حصل لهذا؟ ما الذي حصل لهذا؟ أما في الآخرة : فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون : فينقسم الناس في ذلك اليوم إلى قسمين: قسم تثقل موازينه فهذا المفلح، فائز بما يحبّ ناجٍ مما يكره، والموازين : جمع ميزان ، وقد وردت في الكتاب والسّنّة مجموعة ومفردة ، فقال الله تعالى هنا : فمن ثقلت موازينه ، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ، فقال: في الميزان ولم يقل: في الموازين، فجمعت مرّة وأُفردت أخرى، وذلك لكثرة ما يوزن، فلكثرة ما يوزن جُمعت، ولكون الميزان واحدا ليس فيه ظلم ولا بخس أُفردت، والذي يوزن قال بعض العلماء: " إن الذي يوزن العمل "، وقال بعض العلماء: " الذي يوزن صحائف العمل "، وقال بعض العلماء: " الذي يوزن العامل نفسه "، وذلك لأن كلاّ منها جاءت به أحاديث.
أما الذين يقولون: أنّ الذي يوزن العمل فاستدلّوا بقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره فجعل الوزن للعمل، وبقول النبي عليه الصّلاة والسلام: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان : فجعل الثقل للكلمتين وهما العمل، والذين قالوا: إن الذي يوزن صحائف العمل استدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يأتي يوم القيامة فيُمدّ له سجلّ يعني: أوراقا كثيرا مدّ البصر كلها سيّئات حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله له: إنا عندنا لك حسنة ، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلاّ الله قالها من قلبه فتوضع البطاقة في كفّة وتلك السّجّلات في كفّة ، فترجح البطاقة بها ، فهذا يدلّ على أنّ الذي يوزن صحائف الأعمال ، وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن العامل نفسه فاستدلوا بقوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين ضحك الناس على ابن مسعود رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه نَحيفًا فقام إلى شجرة أراك في ريح شديدة ، فجعلت الريح تهزهزه ، فضحك الناس لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: أتضحكون -أو قال- أتعجبون من دقّة ساقيه؟! والذي نفسي بيده إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد ، وهذا يدلّ على أنّ الذي يوزن هو العامل نفسه، والمهمّ أن يوم القيامة توزن الأعمال أو صحائف الأعمال أو العمّال ، فمن ثقلت موازينه فأوئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنّم خالدون ، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممّن ثقلت موازينه ومن المفلحين الفائزين برضوان الله، والله الموفّق.
وقوله سبحانه وتعالى: فأولئك الذين خسروا أنفسهم : إنما قال: خسروا أنفسهم، لأنهم أُخرجوا إلى الدّنيا وجاءتهم الرسل وبيّنت لهم الحق ولكنّهم والعياذ بالله عاندوا واستكبروا فخسروا أنفسهم ولم يستفيدوا من وجودهم في الدّنيا شيئا، قال الله تعالى: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ، ثمّ قال تعالى مبيّنا أنهم كما يعذّبون بدنيّاً فإنّهم يعذّبون قلبيّا فيقرّعون ويوبّخون فيقال لهم: ألم تكن آياتي تُتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون : فقد تليت عليهم آيات الله وبيّنت لهم وجاءتهم الرسل بالحقّ ، ولكنّهم كفروا والعياذ بالله وكذّبوا بهذه الآيات، قالوا في الجواب: ربّنا غَلَبت علينا شِقوتنا وكنّا قوما ضالّين * ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا يعني: إن عدنا إلى التكذيب فإنا ظالمون : فيقرّون والعياذ بالله بأن الشّقاوة غلبت عليهم، وأنهم ضلّوا الضّلال المبين الذي أوصلهم إلى هذه النار -نسأل الله أن يعيذنا وإيّاكم منها- قال الله تعالى : اخسؤوا فيها ولا تكلّمون أي : ابقوا فيها أذلّة صاغرين ولا تكلموني، وهذا أشدّ ما يكون عليهم والعياذ بالله أن يوبّخهم الله هذا التوبيخ فيقول: اخسؤوا فيها ولا تكلّمون ، فإنهم لو كلّموا الله لن يستجيب لهم، لأنه قضى عليهم بالخلود في النار، ثم قال تعالى مبيّنا حالهم مع أوليائه: إنه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحممين : وهؤلاء هم المؤمنون بالله ورسله يقولون: ربّنا إنّنا آمنّا أي: آمنّا بك، وبرسلك وبما جاؤوا به من الحقّ فاغفر لنا وارحمنا : اغفر لنا ذنوبنا حتى لا ندخل النار، وارحمنا بالقبول حتى ندخل الجنّة، وأنت خير الراحمين : فلا أحد أرحم بعباد الله من ربهم عزّ وجلّ، قال النبي عليه الصّلاة والسّلام: لله بعباده أرحم من الوالدة بولدها ، فاتخذتموهم سِخريًا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون : يعني أنّكم تسخرون من هؤلاء المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويسألونه المغفرة والرّحمة، فكنتم تسخرون بهم وتستهزؤون بهم، حتى أنسوكم ذكري : أي حتى كان سخريتكم بهم واستهزاؤكم بهم مُنسية لكم ذكري، وكنتم منهم تضحكون : يعني في الدنيا يضحكون من المؤمنين يستهزؤون بهم ولكن الله قال في سورة المطفّفين: فاليوم الذين آمنوا من الكفّار يضحكون ، وهذا الضّحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك الكفار من المسلمين في الدّنيا فإنه سيعقبه البكاء الدائم والعياذ بالله.
إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون : يعني جزى الله تعالى المؤمنين بما صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، وصبروا على أقداره : أنهم هم الفائزون : الذين فازوا في هذا اليوم فأدركوا المطلوب ونجوا من المرهوب، وإنما ذكر الله هذا لهؤلاء المكذّبين زيادة في حسرتهم وندامتهم ، كأنه يقول عزّ وجلّ: لو كنتم مثلهم لنلتم هذا الثّواب، فيزدادون بذلك حسرة إلى حسرتهم والعياذ بالله، كيف كان حال هؤلاء الذين كانوا يسخرون بهم في الدنيا ويضحكون منهم، وكيف كانت حالهم هم في نار جهنّم، قال: كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم فاسأل العادّين : انظر جاءتهم الرسل، وعمّروا عمرا يتذكّر فيه من تذكّر، ولكنّهم والعياذ بالله لم ينتفعوا بهذا، ورأوا أنهم كأنما لبثوا ساعة أو بعض ساعة: قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسألوا العادّين : اسألوا العادّين منّا فإننا لا نرى إننا لبثنا إلاّ يوما أو بعض يوم، قال الله تعالى: إن لبثتم إلاّ قليلا يعني : ما لبثتم إلاّ قليلا في الدّنيا وآل بكم الأمر إلى الآخرة التي تبقون فيها أبد الآبدين معذّبين قال إن لبثتم إلاّ قليلا لو أنكم كنتم تعلمون يعني : لو أنّكم كنتم من ذوي العلم لعلمتم مقدار تكذيبكم للرسل، ومقدار أعمالكم التي خسرتموها، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا : يعني أتظنّون أننا خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون : هم ظنّوا كذلك، ظنّوا هذا الظّنّ ولكنّ الله وبّخهم على هذا الظّنّ، هل من حكمة الله أن يُنشئ هذه الخليقة ويرسل إليها الرّسل وينزل عليها الكتب، ثم يكون النهاية الموت والفناء بدون بعث؟ بدون رجوع؟ هذا لا يمكن، لكن هذا ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
ثم قال تعالى: فتعالى الله الملك الحق لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم :تعالى يعني ترفّع عزّ وجلّ عن كلّ نقص وعن كلّ سوء وعلا بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى، فتعالى الله الملك الحق : الملك يعني ذو الملك والسلطان والعظمة الحقّ : الذي كان ملكه وملكوته حقّا وليس بباطل ، لا إله إلاّ هو أي : لا معبود حقّ إلاّ الله عزّ وجلّ ، رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلاها آخر لا برهان له به إلى آخر السورة، فهذه الآيات تبيّن أن الإنسان ينبغي له أن ينتهز فرصة العمر، وأن لا يخسر عمره كما خسره هؤلاء، وأنه سوف يُبعث ويُجازى ويحاسب على عمله، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممن حسابه يسير، ومآله في دار القرار في جنّات النّعيم.
الفتاوى المشابهة
- شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما ن... - ابن عثيمين
- شرح حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال... - ابن عثيمين
- باب : قول الله تعالى : (( ألا يظن أولئك أنهم... - ابن عثيمين
- شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما ن... - ابن عثيمين
- قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما... - ابن عثيمين
- شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما ن... - ابن عثيمين
- قراءة في باب ذكر الموت وقصر الأمل من رياض ال... - ابن عثيمين
- شرح قول المصنف :,وقوله :( فمن ثقلت موازينه ف... - ابن عثيمين
- قال المصنف رحمه الله تعالى : ونؤمن بالموازين... - ابن عثيمين
- قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما... - ابن عثيمين
- تتمة شرح : " ... وقال تعالى: (( حتى إذا جاء... - ابن عثيمين