شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذه الأحاديث ساقها النّووي -رحمه الله- في باب الرّفق والأناة في *رياض الصالحين، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن أعرابيّا بال في المسجد : أعرابي يعني بدويّ، والبدوي في الغالب لا يعرف أحكام الشّرع لأنه عائش في البرّ، في إبله، في غنمه، وليس له علم بشريعة الله كما قال الله تعالى: الأعراب أشدّ كفرًا ونِفاقًا وأجدر ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله : يعني أقرب أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لأنهم في برّهم بعيدين عن الناس وعن العلم وعن الشّرع ، فهذا الأعرابي دخل المسجد واحتاج إلى أن يبول فبال في طائفة المسجد تنحّى وبال في المسجد، فهمّ الناس به : أن يقعوا فيه وزجروه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : دعوه، دعوه يقضي بوله، وأريقوا عليه سَجلا من ماء ، فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين : فتركه الناس، فلمّا قضى بوله صبّوا عليه ذنوباً من ماء ، يعني دلوا من الماء فطهُر المحلّ وزال المحذور ، ثمّ دعا بالأعرابي وقال له: إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر، وإنما هي للصّلاة وقراءة القرآن والتكبير أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
ففي هذا الحديث فوائد كبيرة: منها: العذر بالجهل، وأن الإنسان الجاهل لا يعامل كما يعامل العالم، لأن العالم معاند، والجاهل متطلّع للعلم، فيعذر بجهله ولهذا عذره النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورفق به.
ومنها: أن الشّرع يقتضي دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، يعني إذا كان هناك مفسدة ومفسدة ولا بدّ من ارتكاب إحداهما فإنه يُرتكب الأسهل، فهنا أمامنا مفسدتان استمرار هذا الأعرابي في بوله هذه مفسدة، والثانية: إقامته من بوله، هذه مفسدة أيضا، لكن هذه أكبر، لأن هذه يترتّب عليها أوّلا الضّرر على هذا البائل لأنّ البائل إذا منع البول المتهيّء للخروج ففي ذلك ضرر، ربّما تتأثّر مجاري البول ومسالك البول، ثانياً: المفسدة الثانية: أنه إذا قام فإما أن يبقى رافعًا ثوبه لئلاّ تصيبه قطرات البول، وحينئذ تكون قطرات منتشرة في المكان، وربما تأتي على أفخاذه ويبقى مكشوف العورة أمام الناس وفي المسجد، وإما أن يُدلي ثوبه وينزّل ثوبه وحينئذ يتلوّث الثّوب ويتلوّث البدن وهذه أيضا مفسدة، فلهذا ترك النّبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يبول حتّى انتهى، ثم أمر بأن يُصبّ عليه ذنوب من ماء.
وعلى هذا قتكون لدينا قاعدة : " إذا اجتمعت مفسدتان لابدّ من ارتكاب إحداهما ، فإنه يرتكب الأسهل والأخفّ دفعا للأعلى "، كما أنّه إذا اجتمعت مصالح ولا يمكن فعل جميعها فإنه يؤخذ بالأعلى فالأعلى، " المصالح يقدّم الأعلى والمفاسد يقدّم الأسهل والأدنى ".
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تطهير المسجد، وأنه فرض كفاية لقول الرسول عليه الصّلاة والسّلام: أريقوا على بوله سجلا من ماء وهو كذلك ، فيجب على من رأى نجاسة في المسجد أن يطهّرها بنفسه أو يبلّغ من هو معنيّ بالمسجد ومسؤول عنه حتى يقوم بتطهيرها.
ومنها: اشتراط طهارة مكان المصلي، فالمصلي يجب عليه أن يطهّر ثوبه وبدنه ومكان صلاته، لابدّ من ذلك، سواء كانت أرضا أو فراشًا أو غير ذلك، المهم أنه لابدّ من طهارة مكان المصلّي.
ومنها: أن الأرض يكفي في تطهيرها أن يصبّ على النّجاسة ماء مرّة واحدة فإذا غمرت بالماء طهرت، لكن إن كانت النّجاسة ذات جرم كالغائط والرّوث وما أشبهها فلا بدّ من زوال هذا الجرم، وبعده يطهّر المحلّ بصبّ ماء عليه.
ومنها: أنه لابدّ من الماء في تطهير النّجاسة لقوله: أريقوا عليه سجلا من ماء ، وأن النّجاسة لا تطهر بغير الماء، وهذا ما عليه أكثر العلماء، والصّحيح أن النّجاسة تَطهُر بكل ما يزيلها من ماء أو بنزين أو غيره، وإنما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بصب الماء على مكان البول، لأنه أسرع في تطهير المكان، وإلاّ من الممكن أن يبقى المكان لا يصب عليه الماء ثمّ مع الرّياح والشّمس تزول النّجاسة ويطهر لكن هذا أسرع وأسهل، ومن المعلوم أنه في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام لا توجد هذه المزيلات الكيماوية أو البترولية، فلذلك كانوا يعتمدون في إزالة النّجاسة على الماء، ولكن متى زالت النّجاسة طهر المحلّ بأي مزيل كان، لأن النجاسة عين خبيثة نجسة متى زالت عاد المحلّ إلى طهارته بأي شيء كان، ولهذا يطهَّر البول والغائط بالأحجار، يستجمر الإنسان بالحجر ثلاث مرات مع الإنقاء ويكفي، وثوب المرأة التي تجرّه إذا مرّ بالنّجاسة ثم مرّ بعد ذلك بأرض طاهرة طهّرته، وكان مِن عادة النّساء في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام : " أن المرأة إذا خرجت اتّخذت ثوبا ضافيًا يستر قدميها وينجرّ من ورائها إلى شبر أو شبرين أو ذراع، ولكن لا يزاد على ذراع " : هذا في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام عهد النّساء الطاهرات في الزّمن الطاهر فما بالك باليوم؟ لكن مع الأسف أن المسلمين اليوم لم يكونوا ينظرون إلى مَن سلف من هذه الأمّة ، ولكن ينظرون إلى من تأخّر من هذه الأمّة، إلى الخَلْف الذين قال الله فيهم : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلقون غيّا ، صرنا ننظر الآن إلى من خلف بل ننظر إلى غير ذلك ننظر إلى أعدائنا! إلى اليهود والنّصارى والمجوس والوثنيين وما أشبه ذلك فنقتدي بهم في مثل هذه الألبسة، فترى النّساء الآن كلّما جاءت مجلّة التي يسمونها البُردة كلما جاءت ذهبن ينظرن إليها، ما الذي حدث، ثم تذهب المرأة وتفعل مثل ما فعلن، وأقول من هذا المكان: يجب على أولياء الأمور أن يمنعوا من تداول هذه المجلات وهذه البردات بين أيدي النّساء، لأن المرأة ضعيفة، ضعيفة العقل وضعيفة الدين كما وصفها بهذا الرسول عليه الصّلاة والسّلام : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بلب الراجل الحازم من إحداكنّ ، فتغتر وتنخدع بهذه المظاهر ، وكثير من الرجال مع الأسف الشّديد هم رجال في ثياب رجال ، وإلاّ فهم نساء ، التدبير للنساء عليهم ، وهنّ القوّمات عليهم ، عكس ما أمر الله : الرجال قوامون على النّساء ، لكن أصبح الآن في كثير من الناس النساء قوامات على الرجال ، هي التي تدبر الرجل ، وهي التي تلبس ما شاءت وتفعل ما شاءت ولا تبالي بزوجها ولا بوليّها ، فالواجب على الأولياء أن يمنعوا من تداول هذه المجلاّت التي تأتي لنا بهذه الأزياء البعيدة عن الزّيّ الإسلامي.
فالنّساء في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام إذا خرجن إلى السّوق لبسن ثيابا طويلة حتى لا تبدو أقدامهنّ، في البيوت يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " المرأة في بيتها في عهد الرّسول عليها لباس يستر من كفّ اليد إلى كعب الرّجل " ، وهي في البيت ما عندها إلاّ نساء أو رجال محارم ، ومع ذلك تتستّر من الكفّ إلى الكعب ، كلّها متستّرة ، وبهذا نعرف فساد تصوّر من تصوّر قول الرسول عليه الصّلاة والسّلام : لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة : أنه يجوز للمرأة أن تقتصر في لباسها على لباس يستر ما بين السرة والركبة ، يريد أن تخرج المرأة كاشفة كلّ بدنها إلاّ ما بين السّرّة والرّكبة، من قال هذا؟ الرسول عليه الصّلاة والسلام يخاطب الناظرة لا اللاّبسة، يقول : لا تنظر إلى عورتها : يعني ربّما تكون اللابسة قد كشفت ثوبها لحاجة أو لقضاء البول أو الغائط فيقول : لا تنظر لعورتها ، لم يقل الرسول: للمرأة أن تلبس ما يستر ما بين السّرّة والركبة فقط، ومن توهّم هذا فإنه من وحي الشّيطان، يعني ينظر كيف كانت النّساء في عهد الرّسول عليه الصلاة والسلام تلبس الثّياب، لذلك يجب أن نصحّح هذا المفهوم الذي تدندن به كلّ امرأة ليس عندها فهم وليس عندها نظر لمن سبق، نقول لها: هل تظنّين أن الشّرع الإسلامي يبيح للمرأة أن تخرج بين النساء ليس عليها إلاّ سروال قصير يستر ما بين السّرة والركبة؟ من قال أن هذا هو الشّرع الإسلامي؟! من قال إن هذا هو معنى قول الرّسول: لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة من قال ذلك؟! والرسول قال : ولا الرجل إلى عورة الرّجل ، ومع ذلك كان الرّجال في عهده يلبسون رداء وإزارا أو يلبسون قميصا ، ليسوا يلبسون إزارا فقط، حتى إن الرجل الفقير الذي قال يا رسول الله زوجنى المرأة التب وهبت نفسها للرسول ولم يردها، قال : زوجنيها ، قال : ما معك من صداق؟ قال: إزاري ، لأنه فقير، قال إزارك كيف الإزار يكون مهرا للمرأة ؟! إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار وإن بقي عليك بقيت بلا مهر، ارجع فالتمس ولو خاتما من حديد : ولم يجد، فلم يكونوا وهم رجال، لم يكونوا يقتصرون على ما بين السّرّة والرّكبة أبدًا.
الحاصل يا إخواني إنّ العلم يحتاج إلى فقه، يحتاج إلى نظر في حال الصّحابة رضي الله عنهم كيف فهموا النّصوص فنطبّقها، الآن حتى دول الغرب الكافرة أكثرهم يلبس ما يستر الصّدر والفخذين، أكثرهم، ولم يفهم أحد من هذا الحديث أن المعنى: للمرأة أن تبقى مكشوفة البدن إلاّ ما بين السّرّة والرّكبة ما فهم هذا أحد أبدًا.
فالحاصل أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام جعل ذيل المرأة: أي طرف ثوبها الذي يمشي على الأرض إذا التقى بنجاسة ثمّ مرّت بأرض طاهرة، فإن الطاهرة تطهّره، فدلّ ذلك على أنّ النّجاسة تطهر بكلّ ما يزيلها من ماء وغيره.
ومن فوائد حديث الأعرابي: حسن خلق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وتعليمه ورفقه، وأن هذا هو الذي ينبغي لنا إذا دعونا إلى الله أو أمرنا بمعروف أو نهينا عن منكر أن نرفق، لأن الرّفق يحصل به الخير، والعنف يحصل به الشّرّ، ربّما إذا عنّفت أن يحصل من قبيلك ما يسمّونه بردّ الفعل ولا يقبل منك شيئا يردّ الشّرع من أجلك، لكن إذا رفقت وتأنّيت فهذا هو الأقرب إلى الإجابة.
ومنها: أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام جعل هذه الأمّة مبعوثة: إنّما بعثتم : مع أن المبعوث هو، لكن أمّته يجب أن تقوم مقامه في الدّعوة إلى دينه عليه الصّلاة والسّلام، وأن يكون الإنسان كأنه المبعوث، كأنه الرّسول في تبليغ الشّرع، ولهذا قال الرسول عليه الصّلاة والسّلام: ليبلّغ الشاهد منكم الغائب : فنحن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم علينا أن نبلّغ شرعه إلى جميع الناس ولهذا قال: إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين .
في هذا الحديث أن الرسول عليه الصّلاة والسّلام لما كلّم الأعرابي بهذا اللطف واللين وقال : إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر أن الأعرابي قال له: " اللهم ارحمني ومحمّدا ولا ترحم معنا أحدًا " : شفت كيف انشقّ صدره، انشرح صدره من كلام محمّد عليه الصّلاة والسّلام ، والجماعة من الصّحابة رضي الله عنهم أغضبوه انتهروه ، فرأى -وهو أعرابي لا يعرف- رأى أن الجنّة تكون أو الرّحمة تكون له ولمحمد وغيرهم لا يرحمهم! ليته قال: اللهم ارحمني ومحمّدا وسكت، لا، قال: " ولا ترحم معنا أحدًا " ، فتحجّر الرّحمة ، لكنّه جاهل والجاهل له حكمه ، فالحاصل أن الإنسان ينبغي له أن يرفق، ارفقوا في الدّعوة، في الأمر، في النّهي، وجرّبوا ، انظر أيهما أصلح ونحن نعلم علم اليقين أن الأصلح هو الرّفق، لأن هذا هو الذي قاله الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، وهو الذي اتّبعه في هديه صلّى الله عليه وسلم، والله الموفّق.
القارئ : بسم الله الرحمن الرّحيم .
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسلام على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين:
نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- في سياق الأحاديث في باب الحلم والأناة والرفق : " عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا متفق عليه.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يحرم الرفق يحرم الخير كله رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارًا قال: لا تغضب رواه البخاري " .
هذه الأحاديث ساقها النّووي -رحمه الله- في باب الرّفق والأناة في *رياض الصالحين، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن أعرابيّا بال في المسجد : أعرابي يعني بدويّ، والبدوي في الغالب لا يعرف أحكام الشّرع لأنه عائش في البرّ، في إبله، في غنمه، وليس له علم بشريعة الله كما قال الله تعالى: الأعراب أشدّ كفرًا ونِفاقًا وأجدر ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله : يعني أقرب أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لأنهم في برّهم بعيدين عن الناس وعن العلم وعن الشّرع ، فهذا الأعرابي دخل المسجد واحتاج إلى أن يبول فبال في طائفة المسجد تنحّى وبال في المسجد، فهمّ الناس به : أن يقعوا فيه وزجروه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : دعوه، دعوه يقضي بوله، وأريقوا عليه سَجلا من ماء ، فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين : فتركه الناس، فلمّا قضى بوله صبّوا عليه ذنوباً من ماء ، يعني دلوا من الماء فطهُر المحلّ وزال المحذور ، ثمّ دعا بالأعرابي وقال له: إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر، وإنما هي للصّلاة وقراءة القرآن والتكبير أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
ففي هذا الحديث فوائد كبيرة: منها: العذر بالجهل، وأن الإنسان الجاهل لا يعامل كما يعامل العالم، لأن العالم معاند، والجاهل متطلّع للعلم، فيعذر بجهله ولهذا عذره النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورفق به.
ومنها: أن الشّرع يقتضي دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، يعني إذا كان هناك مفسدة ومفسدة ولا بدّ من ارتكاب إحداهما فإنه يُرتكب الأسهل، فهنا أمامنا مفسدتان استمرار هذا الأعرابي في بوله هذه مفسدة، والثانية: إقامته من بوله، هذه مفسدة أيضا، لكن هذه أكبر، لأن هذه يترتّب عليها أوّلا الضّرر على هذا البائل لأنّ البائل إذا منع البول المتهيّء للخروج ففي ذلك ضرر، ربّما تتأثّر مجاري البول ومسالك البول، ثانياً: المفسدة الثانية: أنه إذا قام فإما أن يبقى رافعًا ثوبه لئلاّ تصيبه قطرات البول، وحينئذ تكون قطرات منتشرة في المكان، وربما تأتي على أفخاذه ويبقى مكشوف العورة أمام الناس وفي المسجد، وإما أن يُدلي ثوبه وينزّل ثوبه وحينئذ يتلوّث الثّوب ويتلوّث البدن وهذه أيضا مفسدة، فلهذا ترك النّبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يبول حتّى انتهى، ثم أمر بأن يُصبّ عليه ذنوب من ماء.
وعلى هذا قتكون لدينا قاعدة : " إذا اجتمعت مفسدتان لابدّ من ارتكاب إحداهما ، فإنه يرتكب الأسهل والأخفّ دفعا للأعلى "، كما أنّه إذا اجتمعت مصالح ولا يمكن فعل جميعها فإنه يؤخذ بالأعلى فالأعلى، " المصالح يقدّم الأعلى والمفاسد يقدّم الأسهل والأدنى ".
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تطهير المسجد، وأنه فرض كفاية لقول الرسول عليه الصّلاة والسّلام: أريقوا على بوله سجلا من ماء وهو كذلك ، فيجب على من رأى نجاسة في المسجد أن يطهّرها بنفسه أو يبلّغ من هو معنيّ بالمسجد ومسؤول عنه حتى يقوم بتطهيرها.
ومنها: اشتراط طهارة مكان المصلي، فالمصلي يجب عليه أن يطهّر ثوبه وبدنه ومكان صلاته، لابدّ من ذلك، سواء كانت أرضا أو فراشًا أو غير ذلك، المهم أنه لابدّ من طهارة مكان المصلّي.
ومنها: أن الأرض يكفي في تطهيرها أن يصبّ على النّجاسة ماء مرّة واحدة فإذا غمرت بالماء طهرت، لكن إن كانت النّجاسة ذات جرم كالغائط والرّوث وما أشبهها فلا بدّ من زوال هذا الجرم، وبعده يطهّر المحلّ بصبّ ماء عليه.
ومنها: أنه لابدّ من الماء في تطهير النّجاسة لقوله: أريقوا عليه سجلا من ماء ، وأن النّجاسة لا تطهر بغير الماء، وهذا ما عليه أكثر العلماء، والصّحيح أن النّجاسة تَطهُر بكل ما يزيلها من ماء أو بنزين أو غيره، وإنما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بصب الماء على مكان البول، لأنه أسرع في تطهير المكان، وإلاّ من الممكن أن يبقى المكان لا يصب عليه الماء ثمّ مع الرّياح والشّمس تزول النّجاسة ويطهر لكن هذا أسرع وأسهل، ومن المعلوم أنه في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام لا توجد هذه المزيلات الكيماوية أو البترولية، فلذلك كانوا يعتمدون في إزالة النّجاسة على الماء، ولكن متى زالت النّجاسة طهر المحلّ بأي مزيل كان، لأن النجاسة عين خبيثة نجسة متى زالت عاد المحلّ إلى طهارته بأي شيء كان، ولهذا يطهَّر البول والغائط بالأحجار، يستجمر الإنسان بالحجر ثلاث مرات مع الإنقاء ويكفي، وثوب المرأة التي تجرّه إذا مرّ بالنّجاسة ثم مرّ بعد ذلك بأرض طاهرة طهّرته، وكان مِن عادة النّساء في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام : " أن المرأة إذا خرجت اتّخذت ثوبا ضافيًا يستر قدميها وينجرّ من ورائها إلى شبر أو شبرين أو ذراع، ولكن لا يزاد على ذراع " : هذا في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام عهد النّساء الطاهرات في الزّمن الطاهر فما بالك باليوم؟ لكن مع الأسف أن المسلمين اليوم لم يكونوا ينظرون إلى مَن سلف من هذه الأمّة ، ولكن ينظرون إلى من تأخّر من هذه الأمّة، إلى الخَلْف الذين قال الله فيهم : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلقون غيّا ، صرنا ننظر الآن إلى من خلف بل ننظر إلى غير ذلك ننظر إلى أعدائنا! إلى اليهود والنّصارى والمجوس والوثنيين وما أشبه ذلك فنقتدي بهم في مثل هذه الألبسة، فترى النّساء الآن كلّما جاءت مجلّة التي يسمونها البُردة كلما جاءت ذهبن ينظرن إليها، ما الذي حدث، ثم تذهب المرأة وتفعل مثل ما فعلن، وأقول من هذا المكان: يجب على أولياء الأمور أن يمنعوا من تداول هذه المجلات وهذه البردات بين أيدي النّساء، لأن المرأة ضعيفة، ضعيفة العقل وضعيفة الدين كما وصفها بهذا الرسول عليه الصّلاة والسّلام : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بلب الراجل الحازم من إحداكنّ ، فتغتر وتنخدع بهذه المظاهر ، وكثير من الرجال مع الأسف الشّديد هم رجال في ثياب رجال ، وإلاّ فهم نساء ، التدبير للنساء عليهم ، وهنّ القوّمات عليهم ، عكس ما أمر الله : الرجال قوامون على النّساء ، لكن أصبح الآن في كثير من الناس النساء قوامات على الرجال ، هي التي تدبر الرجل ، وهي التي تلبس ما شاءت وتفعل ما شاءت ولا تبالي بزوجها ولا بوليّها ، فالواجب على الأولياء أن يمنعوا من تداول هذه المجلاّت التي تأتي لنا بهذه الأزياء البعيدة عن الزّيّ الإسلامي.
فالنّساء في عهد الرسول عليه الصّلاة والسّلام إذا خرجن إلى السّوق لبسن ثيابا طويلة حتى لا تبدو أقدامهنّ، في البيوت يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " المرأة في بيتها في عهد الرّسول عليها لباس يستر من كفّ اليد إلى كعب الرّجل " ، وهي في البيت ما عندها إلاّ نساء أو رجال محارم ، ومع ذلك تتستّر من الكفّ إلى الكعب ، كلّها متستّرة ، وبهذا نعرف فساد تصوّر من تصوّر قول الرسول عليه الصّلاة والسّلام : لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة : أنه يجوز للمرأة أن تقتصر في لباسها على لباس يستر ما بين السرة والركبة ، يريد أن تخرج المرأة كاشفة كلّ بدنها إلاّ ما بين السّرّة والرّكبة، من قال هذا؟ الرسول عليه الصّلاة والسلام يخاطب الناظرة لا اللاّبسة، يقول : لا تنظر إلى عورتها : يعني ربّما تكون اللابسة قد كشفت ثوبها لحاجة أو لقضاء البول أو الغائط فيقول : لا تنظر لعورتها ، لم يقل الرسول: للمرأة أن تلبس ما يستر ما بين السّرّة والركبة فقط، ومن توهّم هذا فإنه من وحي الشّيطان، يعني ينظر كيف كانت النّساء في عهد الرّسول عليه الصلاة والسلام تلبس الثّياب، لذلك يجب أن نصحّح هذا المفهوم الذي تدندن به كلّ امرأة ليس عندها فهم وليس عندها نظر لمن سبق، نقول لها: هل تظنّين أن الشّرع الإسلامي يبيح للمرأة أن تخرج بين النساء ليس عليها إلاّ سروال قصير يستر ما بين السّرة والركبة؟ من قال أن هذا هو الشّرع الإسلامي؟! من قال إن هذا هو معنى قول الرّسول: لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة من قال ذلك؟! والرسول قال : ولا الرجل إلى عورة الرّجل ، ومع ذلك كان الرّجال في عهده يلبسون رداء وإزارا أو يلبسون قميصا ، ليسوا يلبسون إزارا فقط، حتى إن الرجل الفقير الذي قال يا رسول الله زوجنى المرأة التب وهبت نفسها للرسول ولم يردها، قال : زوجنيها ، قال : ما معك من صداق؟ قال: إزاري ، لأنه فقير، قال إزارك كيف الإزار يكون مهرا للمرأة ؟! إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار وإن بقي عليك بقيت بلا مهر، ارجع فالتمس ولو خاتما من حديد : ولم يجد، فلم يكونوا وهم رجال، لم يكونوا يقتصرون على ما بين السّرّة والرّكبة أبدًا.
الحاصل يا إخواني إنّ العلم يحتاج إلى فقه، يحتاج إلى نظر في حال الصّحابة رضي الله عنهم كيف فهموا النّصوص فنطبّقها، الآن حتى دول الغرب الكافرة أكثرهم يلبس ما يستر الصّدر والفخذين، أكثرهم، ولم يفهم أحد من هذا الحديث أن المعنى: للمرأة أن تبقى مكشوفة البدن إلاّ ما بين السّرّة والرّكبة ما فهم هذا أحد أبدًا.
فالحاصل أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام جعل ذيل المرأة: أي طرف ثوبها الذي يمشي على الأرض إذا التقى بنجاسة ثمّ مرّت بأرض طاهرة، فإن الطاهرة تطهّره، فدلّ ذلك على أنّ النّجاسة تطهر بكلّ ما يزيلها من ماء وغيره.
ومن فوائد حديث الأعرابي: حسن خلق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وتعليمه ورفقه، وأن هذا هو الذي ينبغي لنا إذا دعونا إلى الله أو أمرنا بمعروف أو نهينا عن منكر أن نرفق، لأن الرّفق يحصل به الخير، والعنف يحصل به الشّرّ، ربّما إذا عنّفت أن يحصل من قبيلك ما يسمّونه بردّ الفعل ولا يقبل منك شيئا يردّ الشّرع من أجلك، لكن إذا رفقت وتأنّيت فهذا هو الأقرب إلى الإجابة.
ومنها: أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام جعل هذه الأمّة مبعوثة: إنّما بعثتم : مع أن المبعوث هو، لكن أمّته يجب أن تقوم مقامه في الدّعوة إلى دينه عليه الصّلاة والسّلام، وأن يكون الإنسان كأنه المبعوث، كأنه الرّسول في تبليغ الشّرع، ولهذا قال الرسول عليه الصّلاة والسّلام: ليبلّغ الشاهد منكم الغائب : فنحن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم علينا أن نبلّغ شرعه إلى جميع الناس ولهذا قال: إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين .
في هذا الحديث أن الرسول عليه الصّلاة والسّلام لما كلّم الأعرابي بهذا اللطف واللين وقال : إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر أن الأعرابي قال له: " اللهم ارحمني ومحمّدا ولا ترحم معنا أحدًا " : شفت كيف انشقّ صدره، انشرح صدره من كلام محمّد عليه الصّلاة والسّلام ، والجماعة من الصّحابة رضي الله عنهم أغضبوه انتهروه ، فرأى -وهو أعرابي لا يعرف- رأى أن الجنّة تكون أو الرّحمة تكون له ولمحمد وغيرهم لا يرحمهم! ليته قال: اللهم ارحمني ومحمّدا وسكت، لا، قال: " ولا ترحم معنا أحدًا " ، فتحجّر الرّحمة ، لكنّه جاهل والجاهل له حكمه ، فالحاصل أن الإنسان ينبغي له أن يرفق، ارفقوا في الدّعوة، في الأمر، في النّهي، وجرّبوا ، انظر أيهما أصلح ونحن نعلم علم اليقين أن الأصلح هو الرّفق، لأن هذا هو الذي قاله الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، وهو الذي اتّبعه في هديه صلّى الله عليه وسلم، والله الموفّق.
القارئ : بسم الله الرحمن الرّحيم .
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسلام على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين:
نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- في سياق الأحاديث في باب الحلم والأناة والرفق : " عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا متفق عليه.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يحرم الرفق يحرم الخير كله رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارًا قال: لا تغضب رواه البخاري " .
الفتاوى المشابهة
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول... - ابن عثيمين
- تتمة شرح قول قول الإمام النووي رحمه الله تعا... - ابن عثيمين
- قصة الأعرابي الذي بال في المسجد . - ابن عثيمين
- تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى ف... - ابن عثيمين
- فوائد حديث ( جاء أعرابيٌ فبال في طائفة المسج... - ابن عثيمين
- فوائد من حديث الأعرابي الذي بال في المسجد - ابن باز
- أمثلة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في ال... - ابن عثيمين
- باب : يهريق الماء على البول ، وحدثنا خالد بن... - ابن عثيمين
- وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال :( جا... - ابن عثيمين
- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري ق... - ابن عثيمين
- شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما ن... - ابن عثيمين