حديث : ( لا تصلُّوا العصر إلا في بني قريظة ) يستدلُّ به بعض الناس على تجويز الخلاف مطلقًا ، وعلى تصويب كل من المختلفين .
الشيخ محمد ناصر الالباني
السائل : حديث : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، الكلام فيه كثير ، يعني يستدلُّ به بعض المبتدعة لما يريدون ، ويستدلُّ به البعض ، طبعًا نريد الفهم الصحيح ؟
الشيخ : هنا سؤال يقول : وهو - أيضًا - من مشاكل الساعة ، ومن بعض الجماعات ، هذه الجماعة أو تلك ممَّن يُريدون تسليك الواقع السَّيِّئ الذي عليه المسلمون مع الأسف الشديد ، ولا يريدون في الأرض إصلاحًا ، وإنما يريدون أن يدَعُوا القديم على قدمه ، ولا يريدون أن يُحيوا السُّنَّة التي أماتها الناس بسبب جهلهم أو بسبب إهمالهم ، ولا يريدون أن يدخلوا تحت عموم الحديث السابق بعد فهمه فهمًا صحيحًا : مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً ؛ فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة الحديث .
أقول : يتشبَّث كثير من الناس - وفيهم بعض الدعاة - على إبقاء الخلافات التي توارثناها اليوم طيلةَ هذه القرون الطويلة ، وهذه الخلافات ليتَها وقفت عند ما يسمُّونها خطأً ؛ أقول - وأعني ما أقول - : ليتَ هذه الخلافات وقفت عندما يسمُّونها فروعًا ، ولكنها - مع الأسف - تجاوزتها إلى ما يسمُّونها - أيضًا - أصولًا ، وأعني أنا بقولي يسمُّونها فروعًا ويسمونها أصولًا ؛ أن هذه بدعة عصرية دخلت في المسلمين ، وجعلت الشريعة عندهم قسمين ؛ قسمٌ يجب الاهتمام به ، وقسمٌ لا يجب الاهتمام به ، من فعل ذلك فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .
ومن آفة أو ومن شُؤم - إن صح هذا التعبير - التقسيم المذكور أن هؤلاء الذين ذهبوا إليه سوف لا يفعلون لا بما سمَّوه بالأصول ولا بالفروع ، وإنما يعود دينهم هوًى ؛ ذلك لأنَّ تقسيم الإسلام إلى أصول وفروع :
أولًا : يحتاج إلى علم واسع بالكتاب والسنة ، وهذا كما ترون - مع الأسف الشديد - أهله في هذا العصر قليل ، وقليل جدًّا ؛ لأن أكثر من يُظنُّ أنهم من أهل العلم إنما هم أهل علمٍ بالمذهب أو بالمذاهب ، أما القرآن والسنة والسنة الصحيحة بخاصَّة فقليل جدًّا من علماء العصر الحاضر من يتَّصفون بهذا العلم الصحيح . أقول : لتقسيم أو لتحقيق الإسلام وجعله قسمين أصولًا وفروعًا يحتاج إلى هذا العلم الواسع بالكتاب والسنة .
وثانيًا : هل يمكن للمسلمين لو اجتمعوا على صعيدٍ واحدٍ ، وفي مكان واحد ، كل أهل العلم وأهل العلم بحقٍّ ؛ لو اجتمعوا على صعيد واحد ؛ هل يمكنهم أن يجعلوا الإسلام قسمين أصولًا يتفقون عليها ، وفروعًا يتفقون عليها ؟ أم سيبقى هناك بعض المسائل ممكن بعضهم يدخلها في القسم الأول ، وبعضهم يدخلها في القسم الآخر ؟ فحينئذٍ ما حالُ عامَّة المسلمين ؟ إذا كان أهل العلم يختلفون ، وهو كما ترون حتى الآن صدق الله العظيم : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، فإذًا الخلاف من طبيعة البشر ، فلو اجتمعوا في صعيد واحد ، وأرادوا أن يبيِّنوا للناس ما يجوز أن يكون من القسم الأول ، وما يجوز أن يكون من القسم الأخر ؛ لَما تمكنوا من الاتفاق على ذلك ، بل سيظلُّون مختلفين ، لذلك اعتقادي الجازم أنه لا يجوز التفريق بين شرع وشرع فيُقال هذا أصل لا يجوز التهاون به ، وهذا فرع يجوز التهاون به . نعم ، إذا كان المقصود بالفرع والأصل هو ما يُقابل الفرض ويقابل السنة ؛ هذا لاشك أمر ممكن ، لكن ليس هذا هو المقصود ، المقصود هو ما يتعلَّق بالعقيدة ، وما يتعلق بالعبادة ، وما كان متعلِّقًا بالعقيدة وهو الأصل ، وهو الذي يجب الاعتماد والتمسك به وعدم الإخلال بشيء منه ، وما يتعلق بالعبادات ؛ فالخطب سهلٌ ، وبخاصة أنهم جاؤوا بمعول : " من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا " ! وهذا لشهرة هذه الجملة يتوهَّم كثيرٌ من الناس أنها حديث عن الرسول - عليه السلام - ، ولا أصل له حتى في الأحاديث الموضوعة ، لا أصل لهذه الجملة ؛ " من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا " حتى في الأحاديث الموضوعة ، ونستطيع أن نقول : هذا حديث موضوع طازج ؛ يعني حديث في العصر الحاضر ، وهذا من مشاكل هذا العصر أنه تروجُ هناك عبارات لم نجدها حتى في الأحاديث الموضوعة ، من أين جاءت ؟ من ذاك المنبع الذي جاءت الأحاديث الموضوعة القديمة التي وُضعت لها كتب الموضوعات .
والشاهد : يستدل أولئك الذين أشرنا إليهم على معنى هذه الجملة " من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا " بحديث صحيح ، واستدلالهم هذا يُشبه تمامًا من حيث الانحراف عن معناه الصحيح كاستدلال المبتدعة بقولهم أنَّ في الإسلام بدعة حسنة بحديث : من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ، ما هو هذا الحديث الصحيح الذي ركن إليه أولئك الذين يقرِّرون الخلاف ؟ ولا يريدون أبدًا حملَ المسلمين إلى قول ربِّ العالمين فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا ، تأمَّلوا معي هذه الآية في شيء فإن تنازعتم في شيء ما قال عقيدة وغير عقيدة ، ما قال أصلًا وفرعًا ، وإنما في أيِّ شي من أحكام الشريعة ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية .
هؤلاء الذين لا يريدون ولا ينطلقون معنا لإصلاح ما أفسد الناس مِن قبلنا ، يقولون حجَّتنا في ذلك حديث بني قريظة لما أرسل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طائفةً من أصحابه إلى بني قريظة قال لهم : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، وانطلقوا وهم مسرعون ، ثمَّ داركَهم وقت العصر ، فتفرَّقوا إلى قسمين ، إلى قولين ، منهم من قال : لا بدَّ أن نصلي العصر قبل خروج وقتها ، ومنهم من قال لا ، نبينا قال : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، فاختلفوا ، ناس منهم فعلًا صلُّوا العصر في الوقت المُعتاد قبل غروب الشمس ، وناس أخَّروا الصلاة ، لما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكروا له الخلاف الذي وقع بينهم ، الخطأ الآن من أولئك الناس أنهم يروون الحديث خطأً ، عمدًا أو سهوًا ربُّهم أعلم بهم ، لكن الواقع أنهم يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ كلًّا من الفريقين على عملهم ، وهذا خطأ روايةً ودرايةً ، أما الرواية لأن الحديث في " الصحيحين " كما ذكرنا من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فهو قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع اختلافهم قال ابن عمر : " فلم يعنِّف طائفةً منهم " ، لم يعنِّف طائفة منهم ، ليس أقرَّهم جميعًا ، وإنما لم يعنِّف ، وهذا هو مقتضى الشريعة بقواعده العامة ، كما تعلمون جميعًا - إن شاء الله - من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب ؛ فله أجران ، وإن أخطأ ؛ فله أجر واحد .
إذًا الذي يكون مأجورًا لا يُعنَّف ، ومن هنا ينبغي أن نأخذ أدبًا ، هذه جملة معترضة قد تطول قليلًا فمعذرة ، من هذا الحديث ينبغي أن نأخذ أننا إذا رأينا إمامًا من أئمة المسلمين قد خالف سنَّةً من السنن الصحيحة ؛ لا ينبغي أن نحطَّ عليه ، وأن نطعنَ فيه ، وإنما أن نلتمسَ له عذرًا ، ذلك أنه كان مجتهدًا ، فإن أصاب ؛ فله أجران ، وإن أخطأ ؛ فله أجر واحد ، ومن الأعذار التي شرحها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ، شرح من هذه الأسباب أن السنة لم تكن قد تجمَّعت يومئذ ، فقد كانت السُّنَّة متفرقة في البلاد الإسلامية التي تفرَّق إليها الأصحاب الأوَّلون من أصحاب الرسول - عليه السلام - ، وبذلك تفرَّقت السنة ، ولم يتمكَّن المسلمون علماؤهم فيما بعد أن يجمعوا هذه السنة إلا في القرن الثاني أخيرًا ، والقرن الثالث وهكذا ، ولذلك كان من مزيَّة من تأخَّر من علماء المسلمين يتميَّز بأنه جمع من السنة أكثر من الإمام الذي قبله ، ولذلك نجد الواقع يشهد أن أكثرهم جمعًا هو آخرهم عصرًا ، فأكثر الأئمة الأربعة سنَّةً وجمعًا للحديث الإمام أحمد ، ثمَّ شيخه الشافعي ، ثمَّ شيخه هو الإمام مالك ، أخيرًا يأتي الإمام الأول من حيث العصر وهو أبو حنيفة ، فهو أقلُّهم حديثًا ، بسبب أنه لم يخرج من الكوفة التي نشأ فيها وترعرع فيها وتعلم فيها إلا نادرًا جدًّا بمناسبة حج أو عمرة ، فلم يَطُفِ البلاد ليجمع السنة كما فعل الشافعي في رحلته إلى مصر ، وكما فعل تلميذه الإمام أحمد حيث طاف البلاد .
الشاهد : فقوله في الحديث : " لم يعنِّف طائفةً منهم " ينسجم تمامًا مع ملاحظة أنهم كانوا مجتهدين ، أما أقرَّهم على ذلك ؟ لا ، لأن هذه المسألة السِّرُّ فيها أنه لم يُبيِّن ، هنا يرد سؤال تقليدي ، أو كما يقولون اليوم يطرح نفسه بنفسه ؛ لماذا لم يبيِّن الرسول - عليه السلام - الطائفة التي أصابت ، والطائفة التي أخطأت ؟ بينما نجد خلاف ذلك تمامًا ... أخرى ، جاء في " سنن أبي داوود " وغيره أنَّ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجا مسافرين ، ثم حضرتهم الصلاة ، ولم يجدا الماء ، فتيمَّما صعيدًا طيِّبًا وصلَّيا ، ثم وجدا الماء ، أحدهما أعادة الصلاة ، والآخر لم يُعد ، فلما عادا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي أعاد الصلاة : لك أجرك مرَّتين ، وللذي لم يعد أصبتَ السُّنَّة ، أيضًا هذا الحديث - والحديث ذو شجون - تُرى هل الأفضل الذي أعاد ؟ أم الذي لم يُعد ؟ أو بعبارة أخرى : إذا وقعت هذه القصَّة لبعض الناس فيما بعد - وهذا طبعًا يقع كثيرًا ، وهنا الشاهد - ؛ هل السُّنَّة أو هل الأصح أن يُعيد من صلى متيمِّمًا بعد أن يجد الماء أم يقتصر على الصلاة التي صلَّاها ولا يعيد ؟
إن وقفنا دون تأمل ما في الحديث السابق قد يتبادر إلى الذهن لا الأفضل أن يعيد ، لأن الرسول - عليه السلام - قال : لك أجرك مرَّتين ، لكن هذا الجواب خطأ ، نحن نقول قال له : لك أجرك مرَّتين لأنه اجتهد ، ولأنه لم يكن بين يديه السُّنَّة ، أما وواقعنا اليوم أننا عرفنا السنة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي لم يعد : أصبت السُّنَّة ، فإذًا من ابتُلي بمثل ما ابتُلي الذي أعاد فلا يعيد اليوم ، لأن ذلك كان معذورًا مجتهدًا ، و " لا اجتهاد في مورد النص " ، ولا يجوز مخالفة السنة ، وقد قال - عليه السلام - في الحديث الصحيح : فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي ، فإذًا في هذه الحادثة نفهم أنه من صلَّى متيمِّمًا ، ثم وجد الماء ؛ أنه لا يعيد ؛ لأنه خلاف السُّنَّة .
الشاهد من هذه الحادثة أن الرسول قال لفلان : لك أجرك مرتين ولفلان : أصبت السنة ، ولماذا لم يقل أنتم أصبتم السنة ؟ وأنتم لكم أجركم مرَّتين ؟
الجواب : لأن هذه الحادثة لم تتكرَّر ، حادثة مخالفة الصلاة - نظام الصلاة - ، لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، و من أدرك ركعة من صلاة العصر فقد أدرك العصر ، ومن لم يدرك فلا صلاة له ، هذه الحادثة لم تتكرَّر ، ولذلك اكتفى - عليه السلام - بأنه لم يعنِّف ، لماذا لا تتكرَّر ؟
افترضوا الآن مثل هذه الحادثة تمامًا يقع فيها الخليفة الأول الخليفة الراشد يقول لمن يرسلهم إلى مكان ما : " لا تصلُّوا العصر إلا في ذلك المكان " ، سوف لا يختلف هؤلاء المسلمون إذا تدراكهم الوقت ، لأنهم يعلمون أن الإسلام قد تمَّ كما قال - تعالى - : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فإذا كان من الممكن أن تتغيَّر الأحكام في زمن الرسول - عليه السلام - لأن الوحي كان لا يزال ينزل عليه تترى ، فذلك لا سبيل إليه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو أن خليفة مسلمًا ، بل قرشيًّا راشدًا قال لطائفة منهم : " لا تصلوا العصر إلا في مكان كذا " ، ثم ضاق عليهم العصر لَوجب عليهم جميعًا ، ولَما وقع بينهم أيُّ اختلاف إطلاقًا أنهم يصلون الآن ، أو يصلون في ذلك المكان ، السبب أن في حادثة بني قريظة كان في هناك شُبهة لدى بعضهم أن هذا حكم جديد ، الرسول قال : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، أما لو وقع مثل ذلك بعد الرسول - عليه السلام - ؛ فليس لأحد أن يُدخل تخصيصًا وتقييدًا في نصٍّ عام وفي مبدأ عام بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأن الإسلام قد تمَّ ؛ فلا مجال للاستدراك عليه .
الشيخ : هنا سؤال يقول : وهو - أيضًا - من مشاكل الساعة ، ومن بعض الجماعات ، هذه الجماعة أو تلك ممَّن يُريدون تسليك الواقع السَّيِّئ الذي عليه المسلمون مع الأسف الشديد ، ولا يريدون في الأرض إصلاحًا ، وإنما يريدون أن يدَعُوا القديم على قدمه ، ولا يريدون أن يُحيوا السُّنَّة التي أماتها الناس بسبب جهلهم أو بسبب إهمالهم ، ولا يريدون أن يدخلوا تحت عموم الحديث السابق بعد فهمه فهمًا صحيحًا : مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً ؛ فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة الحديث .
أقول : يتشبَّث كثير من الناس - وفيهم بعض الدعاة - على إبقاء الخلافات التي توارثناها اليوم طيلةَ هذه القرون الطويلة ، وهذه الخلافات ليتَها وقفت عند ما يسمُّونها خطأً ؛ أقول - وأعني ما أقول - : ليتَ هذه الخلافات وقفت عندما يسمُّونها فروعًا ، ولكنها - مع الأسف - تجاوزتها إلى ما يسمُّونها - أيضًا - أصولًا ، وأعني أنا بقولي يسمُّونها فروعًا ويسمونها أصولًا ؛ أن هذه بدعة عصرية دخلت في المسلمين ، وجعلت الشريعة عندهم قسمين ؛ قسمٌ يجب الاهتمام به ، وقسمٌ لا يجب الاهتمام به ، من فعل ذلك فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .
ومن آفة أو ومن شُؤم - إن صح هذا التعبير - التقسيم المذكور أن هؤلاء الذين ذهبوا إليه سوف لا يفعلون لا بما سمَّوه بالأصول ولا بالفروع ، وإنما يعود دينهم هوًى ؛ ذلك لأنَّ تقسيم الإسلام إلى أصول وفروع :
أولًا : يحتاج إلى علم واسع بالكتاب والسنة ، وهذا كما ترون - مع الأسف الشديد - أهله في هذا العصر قليل ، وقليل جدًّا ؛ لأن أكثر من يُظنُّ أنهم من أهل العلم إنما هم أهل علمٍ بالمذهب أو بالمذاهب ، أما القرآن والسنة والسنة الصحيحة بخاصَّة فقليل جدًّا من علماء العصر الحاضر من يتَّصفون بهذا العلم الصحيح . أقول : لتقسيم أو لتحقيق الإسلام وجعله قسمين أصولًا وفروعًا يحتاج إلى هذا العلم الواسع بالكتاب والسنة .
وثانيًا : هل يمكن للمسلمين لو اجتمعوا على صعيدٍ واحدٍ ، وفي مكان واحد ، كل أهل العلم وأهل العلم بحقٍّ ؛ لو اجتمعوا على صعيد واحد ؛ هل يمكنهم أن يجعلوا الإسلام قسمين أصولًا يتفقون عليها ، وفروعًا يتفقون عليها ؟ أم سيبقى هناك بعض المسائل ممكن بعضهم يدخلها في القسم الأول ، وبعضهم يدخلها في القسم الآخر ؟ فحينئذٍ ما حالُ عامَّة المسلمين ؟ إذا كان أهل العلم يختلفون ، وهو كما ترون حتى الآن صدق الله العظيم : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، فإذًا الخلاف من طبيعة البشر ، فلو اجتمعوا في صعيد واحد ، وأرادوا أن يبيِّنوا للناس ما يجوز أن يكون من القسم الأول ، وما يجوز أن يكون من القسم الأخر ؛ لَما تمكنوا من الاتفاق على ذلك ، بل سيظلُّون مختلفين ، لذلك اعتقادي الجازم أنه لا يجوز التفريق بين شرع وشرع فيُقال هذا أصل لا يجوز التهاون به ، وهذا فرع يجوز التهاون به . نعم ، إذا كان المقصود بالفرع والأصل هو ما يُقابل الفرض ويقابل السنة ؛ هذا لاشك أمر ممكن ، لكن ليس هذا هو المقصود ، المقصود هو ما يتعلَّق بالعقيدة ، وما يتعلق بالعبادة ، وما كان متعلِّقًا بالعقيدة وهو الأصل ، وهو الذي يجب الاعتماد والتمسك به وعدم الإخلال بشيء منه ، وما يتعلق بالعبادات ؛ فالخطب سهلٌ ، وبخاصة أنهم جاؤوا بمعول : " من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا " ! وهذا لشهرة هذه الجملة يتوهَّم كثيرٌ من الناس أنها حديث عن الرسول - عليه السلام - ، ولا أصل له حتى في الأحاديث الموضوعة ، لا أصل لهذه الجملة ؛ " من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا " حتى في الأحاديث الموضوعة ، ونستطيع أن نقول : هذا حديث موضوع طازج ؛ يعني حديث في العصر الحاضر ، وهذا من مشاكل هذا العصر أنه تروجُ هناك عبارات لم نجدها حتى في الأحاديث الموضوعة ، من أين جاءت ؟ من ذاك المنبع الذي جاءت الأحاديث الموضوعة القديمة التي وُضعت لها كتب الموضوعات .
والشاهد : يستدل أولئك الذين أشرنا إليهم على معنى هذه الجملة " من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا " بحديث صحيح ، واستدلالهم هذا يُشبه تمامًا من حيث الانحراف عن معناه الصحيح كاستدلال المبتدعة بقولهم أنَّ في الإسلام بدعة حسنة بحديث : من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ، ما هو هذا الحديث الصحيح الذي ركن إليه أولئك الذين يقرِّرون الخلاف ؟ ولا يريدون أبدًا حملَ المسلمين إلى قول ربِّ العالمين فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا ، تأمَّلوا معي هذه الآية في شيء فإن تنازعتم في شيء ما قال عقيدة وغير عقيدة ، ما قال أصلًا وفرعًا ، وإنما في أيِّ شي من أحكام الشريعة ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية .
هؤلاء الذين لا يريدون ولا ينطلقون معنا لإصلاح ما أفسد الناس مِن قبلنا ، يقولون حجَّتنا في ذلك حديث بني قريظة لما أرسل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طائفةً من أصحابه إلى بني قريظة قال لهم : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، وانطلقوا وهم مسرعون ، ثمَّ داركَهم وقت العصر ، فتفرَّقوا إلى قسمين ، إلى قولين ، منهم من قال : لا بدَّ أن نصلي العصر قبل خروج وقتها ، ومنهم من قال لا ، نبينا قال : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، فاختلفوا ، ناس منهم فعلًا صلُّوا العصر في الوقت المُعتاد قبل غروب الشمس ، وناس أخَّروا الصلاة ، لما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكروا له الخلاف الذي وقع بينهم ، الخطأ الآن من أولئك الناس أنهم يروون الحديث خطأً ، عمدًا أو سهوًا ربُّهم أعلم بهم ، لكن الواقع أنهم يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ كلًّا من الفريقين على عملهم ، وهذا خطأ روايةً ودرايةً ، أما الرواية لأن الحديث في " الصحيحين " كما ذكرنا من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فهو قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع اختلافهم قال ابن عمر : " فلم يعنِّف طائفةً منهم " ، لم يعنِّف طائفة منهم ، ليس أقرَّهم جميعًا ، وإنما لم يعنِّف ، وهذا هو مقتضى الشريعة بقواعده العامة ، كما تعلمون جميعًا - إن شاء الله - من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب ؛ فله أجران ، وإن أخطأ ؛ فله أجر واحد .
إذًا الذي يكون مأجورًا لا يُعنَّف ، ومن هنا ينبغي أن نأخذ أدبًا ، هذه جملة معترضة قد تطول قليلًا فمعذرة ، من هذا الحديث ينبغي أن نأخذ أننا إذا رأينا إمامًا من أئمة المسلمين قد خالف سنَّةً من السنن الصحيحة ؛ لا ينبغي أن نحطَّ عليه ، وأن نطعنَ فيه ، وإنما أن نلتمسَ له عذرًا ، ذلك أنه كان مجتهدًا ، فإن أصاب ؛ فله أجران ، وإن أخطأ ؛ فله أجر واحد ، ومن الأعذار التي شرحها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ، شرح من هذه الأسباب أن السنة لم تكن قد تجمَّعت يومئذ ، فقد كانت السُّنَّة متفرقة في البلاد الإسلامية التي تفرَّق إليها الأصحاب الأوَّلون من أصحاب الرسول - عليه السلام - ، وبذلك تفرَّقت السنة ، ولم يتمكَّن المسلمون علماؤهم فيما بعد أن يجمعوا هذه السنة إلا في القرن الثاني أخيرًا ، والقرن الثالث وهكذا ، ولذلك كان من مزيَّة من تأخَّر من علماء المسلمين يتميَّز بأنه جمع من السنة أكثر من الإمام الذي قبله ، ولذلك نجد الواقع يشهد أن أكثرهم جمعًا هو آخرهم عصرًا ، فأكثر الأئمة الأربعة سنَّةً وجمعًا للحديث الإمام أحمد ، ثمَّ شيخه الشافعي ، ثمَّ شيخه هو الإمام مالك ، أخيرًا يأتي الإمام الأول من حيث العصر وهو أبو حنيفة ، فهو أقلُّهم حديثًا ، بسبب أنه لم يخرج من الكوفة التي نشأ فيها وترعرع فيها وتعلم فيها إلا نادرًا جدًّا بمناسبة حج أو عمرة ، فلم يَطُفِ البلاد ليجمع السنة كما فعل الشافعي في رحلته إلى مصر ، وكما فعل تلميذه الإمام أحمد حيث طاف البلاد .
الشاهد : فقوله في الحديث : " لم يعنِّف طائفةً منهم " ينسجم تمامًا مع ملاحظة أنهم كانوا مجتهدين ، أما أقرَّهم على ذلك ؟ لا ، لأن هذه المسألة السِّرُّ فيها أنه لم يُبيِّن ، هنا يرد سؤال تقليدي ، أو كما يقولون اليوم يطرح نفسه بنفسه ؛ لماذا لم يبيِّن الرسول - عليه السلام - الطائفة التي أصابت ، والطائفة التي أخطأت ؟ بينما نجد خلاف ذلك تمامًا ... أخرى ، جاء في " سنن أبي داوود " وغيره أنَّ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجا مسافرين ، ثم حضرتهم الصلاة ، ولم يجدا الماء ، فتيمَّما صعيدًا طيِّبًا وصلَّيا ، ثم وجدا الماء ، أحدهما أعادة الصلاة ، والآخر لم يُعد ، فلما عادا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي أعاد الصلاة : لك أجرك مرَّتين ، وللذي لم يعد أصبتَ السُّنَّة ، أيضًا هذا الحديث - والحديث ذو شجون - تُرى هل الأفضل الذي أعاد ؟ أم الذي لم يُعد ؟ أو بعبارة أخرى : إذا وقعت هذه القصَّة لبعض الناس فيما بعد - وهذا طبعًا يقع كثيرًا ، وهنا الشاهد - ؛ هل السُّنَّة أو هل الأصح أن يُعيد من صلى متيمِّمًا بعد أن يجد الماء أم يقتصر على الصلاة التي صلَّاها ولا يعيد ؟
إن وقفنا دون تأمل ما في الحديث السابق قد يتبادر إلى الذهن لا الأفضل أن يعيد ، لأن الرسول - عليه السلام - قال : لك أجرك مرَّتين ، لكن هذا الجواب خطأ ، نحن نقول قال له : لك أجرك مرَّتين لأنه اجتهد ، ولأنه لم يكن بين يديه السُّنَّة ، أما وواقعنا اليوم أننا عرفنا السنة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي لم يعد : أصبت السُّنَّة ، فإذًا من ابتُلي بمثل ما ابتُلي الذي أعاد فلا يعيد اليوم ، لأن ذلك كان معذورًا مجتهدًا ، و " لا اجتهاد في مورد النص " ، ولا يجوز مخالفة السنة ، وقد قال - عليه السلام - في الحديث الصحيح : فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي ، فإذًا في هذه الحادثة نفهم أنه من صلَّى متيمِّمًا ، ثم وجد الماء ؛ أنه لا يعيد ؛ لأنه خلاف السُّنَّة .
الشاهد من هذه الحادثة أن الرسول قال لفلان : لك أجرك مرتين ولفلان : أصبت السنة ، ولماذا لم يقل أنتم أصبتم السنة ؟ وأنتم لكم أجركم مرَّتين ؟
الجواب : لأن هذه الحادثة لم تتكرَّر ، حادثة مخالفة الصلاة - نظام الصلاة - ، لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، و من أدرك ركعة من صلاة العصر فقد أدرك العصر ، ومن لم يدرك فلا صلاة له ، هذه الحادثة لم تتكرَّر ، ولذلك اكتفى - عليه السلام - بأنه لم يعنِّف ، لماذا لا تتكرَّر ؟
افترضوا الآن مثل هذه الحادثة تمامًا يقع فيها الخليفة الأول الخليفة الراشد يقول لمن يرسلهم إلى مكان ما : " لا تصلُّوا العصر إلا في ذلك المكان " ، سوف لا يختلف هؤلاء المسلمون إذا تدراكهم الوقت ، لأنهم يعلمون أن الإسلام قد تمَّ كما قال - تعالى - : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فإذا كان من الممكن أن تتغيَّر الأحكام في زمن الرسول - عليه السلام - لأن الوحي كان لا يزال ينزل عليه تترى ، فذلك لا سبيل إليه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو أن خليفة مسلمًا ، بل قرشيًّا راشدًا قال لطائفة منهم : " لا تصلوا العصر إلا في مكان كذا " ، ثم ضاق عليهم العصر لَوجب عليهم جميعًا ، ولَما وقع بينهم أيُّ اختلاف إطلاقًا أنهم يصلون الآن ، أو يصلون في ذلك المكان ، السبب أن في حادثة بني قريظة كان في هناك شُبهة لدى بعضهم أن هذا حكم جديد ، الرسول قال : لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ، أما لو وقع مثل ذلك بعد الرسول - عليه السلام - ؛ فليس لأحد أن يُدخل تخصيصًا وتقييدًا في نصٍّ عام وفي مبدأ عام بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأن الإسلام قد تمَّ ؛ فلا مجال للاستدراك عليه .
الفتاوى المشابهة
- يقول السائل : نعاني في كثير من المناطق مواجه... - ابن عثيمين
- كلام الشيخ عن الصلاة بعد العصر . - الالباني
- كلام نفيس للشيخ في أن أهل السنة يعذر بعضهم ب... - ابن عثيمين
- هل يجوز التزام مذهب معين في بداية الطلب ثم بعد... - الالباني
- حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جو... - ابن عثيمين
- الجواب على حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه... - الالباني
- قصة خلاف الصحابة في صلاة العصر أثناء طريقهم... - ابن عثيمين
- الجواب على شطر من السؤال : وهو قوله : وحديث اب... - الالباني
- تتمة الكلام حول حديث ( لا تصلوا العصر إلا في ب... - الالباني
- ما المقصود من حديث : ( لا تصلوا العصر إلا في ب... - الالباني
- حديث : ( لا تصلُّوا العصر إلا في بني قريظة ) ي... - الالباني