ما حكم القيام للضيف وحكم القيام لمن يريد السلام ؟
الشيخ محمد ناصر الالباني
السائل : الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله :
فضيلة الشيخ ، ما حكم من قام للضيف عند السلام ؟ وما حكم قيام الجالس للآتي للسلام ؛ علمًا أن بعض الناس يغضبون إذا لم يقم أحد لهم ؛ أرجو التوضيح ؟
الشيخ : هنا مسألتان ، القيام إلى الضيف والقيام للضيف ، وهذا فرقٌ لغويٌّ معروف في اللغة ، القيام إلى الضيف مشروع ومن سنة استقبال الضيف ، والقيام للضيف ليس من السنة بشيء أو في شيء .
وكثيرًا ما يختلط أحد هذه الأمرين بالآخر ؛ فقد جاء في " سنن أبي داود " وغيره : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا دخل على فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قامت إليه وقبَّلته ، وأجلسته في مجلسها " ، وكانت هي بدورها " إذا دخلت على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قام إليها وقبَّلها ، وأجلسها في مجلسه " ، هذا من إكرام الضيف ؛ أن يقوم المُضيف صاحب الدار إلى الضيف وليس للضيف ، أن يقوم إليه ويستقبله ويُنزله في المنزل أو المكان المناسب له ؛ كما جاء في حديث - في ثبوته اختلاف عند علماء الحديث ، وهو بلفظ - : أنزلوا الناس منازلهم ؛ إلا أن هذا الحديث وإن كان في سنده ذلك الضعف فقد تأيَّد معناه - أقول - تأيد معناه بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العملية .
كذلك جاء حديث آخر من هذا القبيل ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - حينما جاء سعد بن معاذ وقد قَبِله اليهود يهود بني قريظة حَكَمًا بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، جاء سعد بن معاذ على دابَّته جريحًا في أكحله في عرْقٍ في عضده ؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - لِمَن حوله من الأنصار الذين رئيسهم سعد بن معاذ القادم ؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - قوموا إلى سيِّدكم ، هكذا الحديث في " صحيح البخاري " ، وكثير من الناس بمثل هذه المناسبة ينحرف الحديث عن لفظه الصحيح فيروونه بلفظ : " قوموا لسيِّدكم " !! ويستدلُّون به على المعنى الثاني الذي سأتحدَّث عنه وهو القيام للضيف إكرامًا ، وليس للذهاب إليه واستقباله .
فإذا عرفتم أن لفظ الحديث في " صحيح البخاري " قوموا إلى سيِّدكم ، وشتان عربيَّةً بين " قُمْ إلى فلان " ، وبين " قُمْ لفلان " ، " قم إلى فلان " ؛ أي : اذهب إليه ، و " قم لفلان " ؛ أي : إكرامًا وتبجيلًا وإعظامًا ، ولذلك فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما قال للأنصار : قوموا إلى سيِّدكم ، إنما قصد قوموا إلى سيِّدكم فأعينوه ؛ لأنه كان مريضًا ومُصابًا في أكحله كما قلت آنفًا .
هكذا جاء الحديث في " صحيح البخاري " من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - ، وقد أكَّد هذا المعنى وصرَّح به تصريحًا ما بعده تصريح حديث عائشة في " مسند الإمام أحمد " - رحمه الله - ، فقد روت هذه القصة على النحو الذي رواها أبو سعيد الخدري ؛ ولكنها - رضي الله عنها - حفظت زيادةً في هذا المتن يُعتبر اليوم - كما يقولون في اصطلاح العصر الحاضر - من باب وضع النقاط على الحروف ، بمعنى أن مثلًا كانوا قديمًا يكتبون بدون إعجام بالإهمال ، فيكتبون يزيد - مثلًا - بدون نقطتين من تحت ، وبدون نقطة على الراء ، فيُمكن أن تقرأ " يزيد " ، ويمكن أن تقرأ " بُرَيد " ، فلما اصطلحوا على وضع النقاط قالوا في العصر الحاضر أن هذا الإعجام يوضِّح ويُزيل الإشكال ؛ كانت رواية السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - من هذا الباب وضع النقاط على الحروف ؛ لأن حديث أبي سعيد الخدري على الرغم من أنه جاء في " صحيح البخاري " باللفظ الأول : قوموا إلى سيِّدكم ، فقد تحرَّف على كثير من الناس وبخاصة أولئك الذين لا يرجعون إلى الأصول من كتب السنة ليأخذوا منها الأحاديث على وجهها ، تحرَّف - كما سمعتم - إلى " قوموا لسيِّدكم " ، أما حديث عائشة فلا يقبل مثل هذا التحريف ؛ بالرغم أنها وافقت أبا سعيد الخدري بلفظ : " إلى سيِّدكم " ، ولكنها زادت فرَوت الحديث باللفظ التالي : قوموا إلى سيِّدكم فأنزلوه ، لو أن راويًا أخطأَ فروى الحديث : " قوموا لسيِّدكم فأنزلوه " لَكانت هذه الزيادة تُوضِّح المقصود من هذا الحديث ، ولا يُمكن حينذاك أن ينحرف فهْمُ أحد من رواية : " قوموا إلى سيِّدكم " بمعنى لسيِّدكم ، فإن زيادة أنزلوه تمنع مثل ذلك التأويل .
هذا الحديث كحديث قيام الرسول - عليه السلام - لفاطمة وقيامها لأبيها ، فإنما ذلك من باب الإجلاس في المنزل المناسب وليس قيامًا وقعودًا هكذا الذي هو قيام للإكرام ، هذا القيام الذي للإكرام بمعنى قُمْ لفلان هذا خلاف السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقد روى الإمام البخاري في كتابه " الأدب المفرد " ، وهو كتاب كما وُصِف المفرد يختلف عن كتاب المفرد الذي هو كتاب من كتب " صحيح البخاري " ، فصحيح البخاري مُؤلَّف من سبعٍ وتسعين كتابًا ، كتاب الطهارة والوضوء والغُسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك ؛ سبعة وتسعون كتابًا ، من هذه الكتب في آخر مجلد من " الصحيح " كتاب الأدب ، ولما كان الإمام البخاري قد التزم في كتابه " الصحيح " شروطًا هي باتفاق العلماء أدقُّ الشروط في الصحة لذلك جاء فأفرد كتابًا خاصًّا عن هذا الكتاب الذي هو في " الصحيح " ، وسمَّاه تمييزًا بينهما بالكتاب المفرد بـ " الأدب المفرد " ، روى البخاري في كتابه هذا " الأدب المفرد " بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس على شرط البخاري في " الصحيح " ، عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال : " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ؛ زاد أحمد في رواية : " رؤيةً " ؛ " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رؤيةً ، وكان إذا دخل عليه ورأوه لم يقوموا له " ، انتبهوا الآن كيف جاء هذا الحديث ؛ ما قال أنس - وهو خادم الرسول - : لم يقوموا إليه ، وإنما قال : " لم يقوموا له ؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك " ، " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رؤيةً ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك " ، إذًا هذا الحديث يُفرِّق بين القيام للداخل إكرامًا وتعظيمًا واحترامًا ؛ فهذا خلاف السنة ، أما القيام إلى الضيف واستقباله ؛ فذلك من أداب المُضيف ، يجب التفريق إذًا بين هذين القيامين .
والكراهة المذكورة في هذا الحديث الأخير حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قد تكون من باب التنزيه لمخالفته للسنة العملية التي جرى عليها أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد تكون كراهة تحريميَّة إذا ما اقترن بها شيء زائد عن القيام ؛ ألا وهو الامتثال هكذا قيامًا ؛ فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في " سنن أبي داود " وغيره أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ، ففي هذا الحديث وعيدٌ شديدٌ لِمَن يدخل من الضيوف ويُحبُّ في قرارة نفسه أن يقوم له الناس تعظيمًا ؛ فهذا إثمه كبير ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوعده بقوله : فليتبوَّأ مقعده من النار ، وهذا الحديث -وإن كان الوعيد الشديد المذكور فيه تصريحًا إنما يتوجَّه إلى الداخل المحب للقيام من الجالس أو من الجالسين ، فالجالسون قد يُشاركونه في إثم ذاك القيام ؛ لأنهم يُساعدونه على ذلك ؛ لهذا لما روى هذا الحديث الصحابي الجليل - وهو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - - ، لما دخل على المجلس وكان هناك رجلان ، أحدهما عبد الله بن الزبير ، والآخر عبد الله بن عامر ، أما عبد الله بن الزبير فلم يَقُمْ ، وأما عبد الله بن عامر فقام لمعاوية ، والمفروض في هذه الحالة أن يحتجَّ معاوية على هذا القائم له بحديث أنس السابق ، لكن من فِقْهه - رضي الله عنه - أنه احتجَّ بالحديث الأخير : من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ، ما فقْه هذا الحديث ؟ ما وجه احتجاج معاوية على عبد الله بن عامر الذي قام لمعاوية ؟ ومعاوية لا يُحبُّ هذا القيام ، بل نهاه عن ذلك ، وقال له : لا تقم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ؛ فما وجه استدلال معاوية على عبد الله بن عامر وإنكاره قيامه له بهذا الحديث ؟ كأنه يقول له : أنت يا عبد الله إذا استمررت على هذا القيام فربما تُورِّطني ، وربما يومًا ما تتشوَّف نفسي وتُحبُّ هذا القيام فأقَعَ في وعيد هذا الحديث ، وتكون أنت وأمثالك سببًا للوقوع في حُبِّي للقيام ، هذا وجه استدلال معاوية - رضي الله عنه - على مَن قام له .
إذا عرفنا هذه الأمور نعرف أن التواضع من الدَّاخلين إلى المجلس ألَّا يدور في ذهنهم حُبُّهم للقيام ، وبالتالي أن لا يقوم الدَّاخلون الجالسون لمن دخل وبخاصَّة إذا كان الدَّاخلون كُثُر ، كلما دخل واحد اثنين قام الجلوس قيامًا ، ثم دخلوا آخرون فقاموا وهكذا ، تظهر هنا ظاهرة التشبُّه بالكفار التي لا تزال ظاهرةً قائمةً في كثير من البلاد .
ونحن نرى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أنكر قيام بعض أصحابه قيامًا لم يخطر في بال أحدهم أنه يقوم تعظيمًا للرسول - عليه السلام - ؛ ذلك لأنهم كانوا خلفَه في الصلاة وهو إمامهم ، روى الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رمَتْه دابَّته يومًا على الأرض ، فأصيب في كتفه ، فحضرت الصلاة ، وهي صلاة الظهر ، فصلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأصحابه جالسًا ، فقاموا خلْفه قيامًا كما هي العادة ، بل الفريضة ، قاموا يُصلُّون خلفه - صلى الله عليه وآله وسلم - قيامًا ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هكذا أشار إليهم أن اجلسوا ، أشار إليهم وهم يُصلُّون قيامًا خلفه ، ورسول الله جالس أن اجلسوا ، فجلسوا ، وصلى بهم - عليه الصلاة والسلام - جالسًا ، وهم يُصلُّون كذلك جلوسًا بجلوسهم ، ولما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة التفت إليهم ، وقال لهم : كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس بعظمائها ؛ يقومون على رؤوس ملوكهم ، إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به ، فإذا كبَّر فكبِّروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعين .
الشاهد من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أسقطَ عن المصلين خلفه - وكلهم أصحَّاء في أبدانهم - أسقط عنهم ركن القيام ؛ لماذا ؟ لِكَيْلا تظهر الصورة المشابهة لقيام عظماء كسرى وراء الملك ، هذه الصورة شتَّان ما بينها وبين صورة قيام أصحاب الرسول - عليه السلام - خلفه في الصلاة ، فهم قاموا لله قانتين ، ورسول الله جلس متواضعًا مضطرًّا لرب العالمين ، لم يكن هناك مطلقًا لا من القائمين ولا من الجالس شيء من حبِّ المشابهة ؛ مع ذلك أمرهم بالجلوس ، وقال لهم : كِدتم تفعلون الصورة المشابهة لفارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم ، الملك جالس والناس حوله قائمون تعظيمًا له ، لم يُرِدْ - عليه السلام - لم يُحِب هذه الظاهرة لأنها ظاهرة وثنيَّة ؛ فماذا نقول إذا قام الناس - وليسوا في صلاة - وهو يقومون للعبد الداخل تعظيمًا ؟ هذا القيام يجب أن يُخَصَّ لله رب العالمين .
من أجل ذلك كان بعض السلف يتحرَّج جدًّا جدًّا من أن يقوم الناس له ، وفي مقدمة هؤلاء رجل من أفاضل علماء الحديث والفقه الحنبلي ؛ ألا وهو أبو عبد الله بن بطة ؛ فقد كان يكره هذ القيام كراهة تحريميَّة ، وقد اتفق أنه خرج ذات يوم مع صاحب له شاعر إلى السوق ، فمرَّ بأحد أهل العلم والفضل ، فقام هذا الرجل العالم الفاضل لابن بطة لما مرَّ به ، لكن هذا العالم الفاضل يعلم كراهية ابن بطة لهذا القيام ؛ فاعتذر له ببيتَيْن من الشعر لطيفين جدًّا ، ولكن كان الرَّدُّ ألطف من ذلك وأقوى ، قال معتذرًا :
" لا تلمني على القيام فحقِّي *** حين تبدو ألا أَمَلَّ القياما
أنت من أكرم البريَّة عندي *** ومن الحقِّ أن أُجِلَّ الكراما "
فقال ابن بطة لصاحبه الشاعر ، وأغلب العلماء لا ينظِمون الشعر ، لكن صاحبه شاعر ومتفقِّه بفقه ابن بطة ، فقال له : أجِبْه عني ، قال له على البديهة :
" أنتَ إن كنتَ لا عدمتُك ترعى *** لي حقًّا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم *** ولسنا نريد منك احتشاما
فاعفِني الآن من قيامك هذا أوَّلَا *** فسأجزيك بالقيام القياما
وأنا كاره لذلك جدًّا *** إن فيه تملُّقًا وأثاما
لا تكلِّف أخاك أن يتلقَّا *** كَ بما يستحلُّ به الحراما
-وهنا الحكمة البالغة -
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعب الأجساما
كلُّنا واثقٌ بودِّ أخيه *** ففيم انزعاجنا وعلاما "
هذا منتهى الحكمة ، وهذه ثمرة اتباع السنة ، ونسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من أهل السنة .
نعم .
فضيلة الشيخ ، ما حكم من قام للضيف عند السلام ؟ وما حكم قيام الجالس للآتي للسلام ؛ علمًا أن بعض الناس يغضبون إذا لم يقم أحد لهم ؛ أرجو التوضيح ؟
الشيخ : هنا مسألتان ، القيام إلى الضيف والقيام للضيف ، وهذا فرقٌ لغويٌّ معروف في اللغة ، القيام إلى الضيف مشروع ومن سنة استقبال الضيف ، والقيام للضيف ليس من السنة بشيء أو في شيء .
وكثيرًا ما يختلط أحد هذه الأمرين بالآخر ؛ فقد جاء في " سنن أبي داود " وغيره : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا دخل على فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قامت إليه وقبَّلته ، وأجلسته في مجلسها " ، وكانت هي بدورها " إذا دخلت على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قام إليها وقبَّلها ، وأجلسها في مجلسه " ، هذا من إكرام الضيف ؛ أن يقوم المُضيف صاحب الدار إلى الضيف وليس للضيف ، أن يقوم إليه ويستقبله ويُنزله في المنزل أو المكان المناسب له ؛ كما جاء في حديث - في ثبوته اختلاف عند علماء الحديث ، وهو بلفظ - : أنزلوا الناس منازلهم ؛ إلا أن هذا الحديث وإن كان في سنده ذلك الضعف فقد تأيَّد معناه - أقول - تأيد معناه بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العملية .
كذلك جاء حديث آخر من هذا القبيل ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - حينما جاء سعد بن معاذ وقد قَبِله اليهود يهود بني قريظة حَكَمًا بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، جاء سعد بن معاذ على دابَّته جريحًا في أكحله في عرْقٍ في عضده ؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - لِمَن حوله من الأنصار الذين رئيسهم سعد بن معاذ القادم ؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - قوموا إلى سيِّدكم ، هكذا الحديث في " صحيح البخاري " ، وكثير من الناس بمثل هذه المناسبة ينحرف الحديث عن لفظه الصحيح فيروونه بلفظ : " قوموا لسيِّدكم " !! ويستدلُّون به على المعنى الثاني الذي سأتحدَّث عنه وهو القيام للضيف إكرامًا ، وليس للذهاب إليه واستقباله .
فإذا عرفتم أن لفظ الحديث في " صحيح البخاري " قوموا إلى سيِّدكم ، وشتان عربيَّةً بين " قُمْ إلى فلان " ، وبين " قُمْ لفلان " ، " قم إلى فلان " ؛ أي : اذهب إليه ، و " قم لفلان " ؛ أي : إكرامًا وتبجيلًا وإعظامًا ، ولذلك فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما قال للأنصار : قوموا إلى سيِّدكم ، إنما قصد قوموا إلى سيِّدكم فأعينوه ؛ لأنه كان مريضًا ومُصابًا في أكحله كما قلت آنفًا .
هكذا جاء الحديث في " صحيح البخاري " من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - ، وقد أكَّد هذا المعنى وصرَّح به تصريحًا ما بعده تصريح حديث عائشة في " مسند الإمام أحمد " - رحمه الله - ، فقد روت هذه القصة على النحو الذي رواها أبو سعيد الخدري ؛ ولكنها - رضي الله عنها - حفظت زيادةً في هذا المتن يُعتبر اليوم - كما يقولون في اصطلاح العصر الحاضر - من باب وضع النقاط على الحروف ، بمعنى أن مثلًا كانوا قديمًا يكتبون بدون إعجام بالإهمال ، فيكتبون يزيد - مثلًا - بدون نقطتين من تحت ، وبدون نقطة على الراء ، فيُمكن أن تقرأ " يزيد " ، ويمكن أن تقرأ " بُرَيد " ، فلما اصطلحوا على وضع النقاط قالوا في العصر الحاضر أن هذا الإعجام يوضِّح ويُزيل الإشكال ؛ كانت رواية السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - من هذا الباب وضع النقاط على الحروف ؛ لأن حديث أبي سعيد الخدري على الرغم من أنه جاء في " صحيح البخاري " باللفظ الأول : قوموا إلى سيِّدكم ، فقد تحرَّف على كثير من الناس وبخاصة أولئك الذين لا يرجعون إلى الأصول من كتب السنة ليأخذوا منها الأحاديث على وجهها ، تحرَّف - كما سمعتم - إلى " قوموا لسيِّدكم " ، أما حديث عائشة فلا يقبل مثل هذا التحريف ؛ بالرغم أنها وافقت أبا سعيد الخدري بلفظ : " إلى سيِّدكم " ، ولكنها زادت فرَوت الحديث باللفظ التالي : قوموا إلى سيِّدكم فأنزلوه ، لو أن راويًا أخطأَ فروى الحديث : " قوموا لسيِّدكم فأنزلوه " لَكانت هذه الزيادة تُوضِّح المقصود من هذا الحديث ، ولا يُمكن حينذاك أن ينحرف فهْمُ أحد من رواية : " قوموا إلى سيِّدكم " بمعنى لسيِّدكم ، فإن زيادة أنزلوه تمنع مثل ذلك التأويل .
هذا الحديث كحديث قيام الرسول - عليه السلام - لفاطمة وقيامها لأبيها ، فإنما ذلك من باب الإجلاس في المنزل المناسب وليس قيامًا وقعودًا هكذا الذي هو قيام للإكرام ، هذا القيام الذي للإكرام بمعنى قُمْ لفلان هذا خلاف السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقد روى الإمام البخاري في كتابه " الأدب المفرد " ، وهو كتاب كما وُصِف المفرد يختلف عن كتاب المفرد الذي هو كتاب من كتب " صحيح البخاري " ، فصحيح البخاري مُؤلَّف من سبعٍ وتسعين كتابًا ، كتاب الطهارة والوضوء والغُسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك ؛ سبعة وتسعون كتابًا ، من هذه الكتب في آخر مجلد من " الصحيح " كتاب الأدب ، ولما كان الإمام البخاري قد التزم في كتابه " الصحيح " شروطًا هي باتفاق العلماء أدقُّ الشروط في الصحة لذلك جاء فأفرد كتابًا خاصًّا عن هذا الكتاب الذي هو في " الصحيح " ، وسمَّاه تمييزًا بينهما بالكتاب المفرد بـ " الأدب المفرد " ، روى البخاري في كتابه هذا " الأدب المفرد " بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس على شرط البخاري في " الصحيح " ، عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال : " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ؛ زاد أحمد في رواية : " رؤيةً " ؛ " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رؤيةً ، وكان إذا دخل عليه ورأوه لم يقوموا له " ، انتبهوا الآن كيف جاء هذا الحديث ؛ ما قال أنس - وهو خادم الرسول - : لم يقوموا إليه ، وإنما قال : " لم يقوموا له ؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك " ، " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رؤيةً ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك " ، إذًا هذا الحديث يُفرِّق بين القيام للداخل إكرامًا وتعظيمًا واحترامًا ؛ فهذا خلاف السنة ، أما القيام إلى الضيف واستقباله ؛ فذلك من أداب المُضيف ، يجب التفريق إذًا بين هذين القيامين .
والكراهة المذكورة في هذا الحديث الأخير حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قد تكون من باب التنزيه لمخالفته للسنة العملية التي جرى عليها أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد تكون كراهة تحريميَّة إذا ما اقترن بها شيء زائد عن القيام ؛ ألا وهو الامتثال هكذا قيامًا ؛ فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في " سنن أبي داود " وغيره أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ، ففي هذا الحديث وعيدٌ شديدٌ لِمَن يدخل من الضيوف ويُحبُّ في قرارة نفسه أن يقوم له الناس تعظيمًا ؛ فهذا إثمه كبير ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوعده بقوله : فليتبوَّأ مقعده من النار ، وهذا الحديث -وإن كان الوعيد الشديد المذكور فيه تصريحًا إنما يتوجَّه إلى الداخل المحب للقيام من الجالس أو من الجالسين ، فالجالسون قد يُشاركونه في إثم ذاك القيام ؛ لأنهم يُساعدونه على ذلك ؛ لهذا لما روى هذا الحديث الصحابي الجليل - وهو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - - ، لما دخل على المجلس وكان هناك رجلان ، أحدهما عبد الله بن الزبير ، والآخر عبد الله بن عامر ، أما عبد الله بن الزبير فلم يَقُمْ ، وأما عبد الله بن عامر فقام لمعاوية ، والمفروض في هذه الحالة أن يحتجَّ معاوية على هذا القائم له بحديث أنس السابق ، لكن من فِقْهه - رضي الله عنه - أنه احتجَّ بالحديث الأخير : من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ، ما فقْه هذا الحديث ؟ ما وجه احتجاج معاوية على عبد الله بن عامر الذي قام لمعاوية ؟ ومعاوية لا يُحبُّ هذا القيام ، بل نهاه عن ذلك ، وقال له : لا تقم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ؛ فما وجه استدلال معاوية على عبد الله بن عامر وإنكاره قيامه له بهذا الحديث ؟ كأنه يقول له : أنت يا عبد الله إذا استمررت على هذا القيام فربما تُورِّطني ، وربما يومًا ما تتشوَّف نفسي وتُحبُّ هذا القيام فأقَعَ في وعيد هذا الحديث ، وتكون أنت وأمثالك سببًا للوقوع في حُبِّي للقيام ، هذا وجه استدلال معاوية - رضي الله عنه - على مَن قام له .
إذا عرفنا هذه الأمور نعرف أن التواضع من الدَّاخلين إلى المجلس ألَّا يدور في ذهنهم حُبُّهم للقيام ، وبالتالي أن لا يقوم الدَّاخلون الجالسون لمن دخل وبخاصَّة إذا كان الدَّاخلون كُثُر ، كلما دخل واحد اثنين قام الجلوس قيامًا ، ثم دخلوا آخرون فقاموا وهكذا ، تظهر هنا ظاهرة التشبُّه بالكفار التي لا تزال ظاهرةً قائمةً في كثير من البلاد .
ونحن نرى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أنكر قيام بعض أصحابه قيامًا لم يخطر في بال أحدهم أنه يقوم تعظيمًا للرسول - عليه السلام - ؛ ذلك لأنهم كانوا خلفَه في الصلاة وهو إمامهم ، روى الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رمَتْه دابَّته يومًا على الأرض ، فأصيب في كتفه ، فحضرت الصلاة ، وهي صلاة الظهر ، فصلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأصحابه جالسًا ، فقاموا خلْفه قيامًا كما هي العادة ، بل الفريضة ، قاموا يُصلُّون خلفه - صلى الله عليه وآله وسلم - قيامًا ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هكذا أشار إليهم أن اجلسوا ، أشار إليهم وهم يُصلُّون قيامًا خلفه ، ورسول الله جالس أن اجلسوا ، فجلسوا ، وصلى بهم - عليه الصلاة والسلام - جالسًا ، وهم يُصلُّون كذلك جلوسًا بجلوسهم ، ولما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة التفت إليهم ، وقال لهم : كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس بعظمائها ؛ يقومون على رؤوس ملوكهم ، إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به ، فإذا كبَّر فكبِّروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعين .
الشاهد من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أسقطَ عن المصلين خلفه - وكلهم أصحَّاء في أبدانهم - أسقط عنهم ركن القيام ؛ لماذا ؟ لِكَيْلا تظهر الصورة المشابهة لقيام عظماء كسرى وراء الملك ، هذه الصورة شتَّان ما بينها وبين صورة قيام أصحاب الرسول - عليه السلام - خلفه في الصلاة ، فهم قاموا لله قانتين ، ورسول الله جلس متواضعًا مضطرًّا لرب العالمين ، لم يكن هناك مطلقًا لا من القائمين ولا من الجالس شيء من حبِّ المشابهة ؛ مع ذلك أمرهم بالجلوس ، وقال لهم : كِدتم تفعلون الصورة المشابهة لفارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم ، الملك جالس والناس حوله قائمون تعظيمًا له ، لم يُرِدْ - عليه السلام - لم يُحِب هذه الظاهرة لأنها ظاهرة وثنيَّة ؛ فماذا نقول إذا قام الناس - وليسوا في صلاة - وهو يقومون للعبد الداخل تعظيمًا ؟ هذا القيام يجب أن يُخَصَّ لله رب العالمين .
من أجل ذلك كان بعض السلف يتحرَّج جدًّا جدًّا من أن يقوم الناس له ، وفي مقدمة هؤلاء رجل من أفاضل علماء الحديث والفقه الحنبلي ؛ ألا وهو أبو عبد الله بن بطة ؛ فقد كان يكره هذ القيام كراهة تحريميَّة ، وقد اتفق أنه خرج ذات يوم مع صاحب له شاعر إلى السوق ، فمرَّ بأحد أهل العلم والفضل ، فقام هذا الرجل العالم الفاضل لابن بطة لما مرَّ به ، لكن هذا العالم الفاضل يعلم كراهية ابن بطة لهذا القيام ؛ فاعتذر له ببيتَيْن من الشعر لطيفين جدًّا ، ولكن كان الرَّدُّ ألطف من ذلك وأقوى ، قال معتذرًا :
" لا تلمني على القيام فحقِّي *** حين تبدو ألا أَمَلَّ القياما
أنت من أكرم البريَّة عندي *** ومن الحقِّ أن أُجِلَّ الكراما "
فقال ابن بطة لصاحبه الشاعر ، وأغلب العلماء لا ينظِمون الشعر ، لكن صاحبه شاعر ومتفقِّه بفقه ابن بطة ، فقال له : أجِبْه عني ، قال له على البديهة :
" أنتَ إن كنتَ لا عدمتُك ترعى *** لي حقًّا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم *** ولسنا نريد منك احتشاما
فاعفِني الآن من قيامك هذا أوَّلَا *** فسأجزيك بالقيام القياما
وأنا كاره لذلك جدًّا *** إن فيه تملُّقًا وأثاما
لا تكلِّف أخاك أن يتلقَّا *** كَ بما يستحلُّ به الحراما
-وهنا الحكمة البالغة -
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعب الأجساما
كلُّنا واثقٌ بودِّ أخيه *** ففيم انزعاجنا وعلاما "
هذا منتهى الحكمة ، وهذه ثمرة اتباع السنة ، ونسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من أهل السنة .
نعم .
الفتاوى المشابهة
- أحكام القيام للغير . - الالباني
- القيام - ابن عثيمين
- حكم القيام للداخل إكراما وتعظيما. - الالباني
- ما حكم القيام لمن دخل على جماعة وهم جلوس .؟ - ابن عثيمين
- قوله :( قوموا إلى سيدكم ) هل فيه القيام للدا... - ابن عثيمين
- حكم قيام الرجل لغيره - ابن باز
- تكلم الشيخ عن حكم القيام للغير . - الالباني
- حكم القيام للداخل إلى المجلس . - الالباني
- ما حكم القيام للضَّيف أو المدرس أو الأم والأب ؟ - الالباني
- ما حكم القيام للسلام .؟ - ابن عثيمين
- ما حكم القيام للضيف وحكم القيام لمن يريد السلام ؟ - الالباني