بيان حكم التصوير .
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : فأيُّ فلسفة هذا دخلت على بعض علماء المسلمين فضلًا عن غيرهم ، فجوَّزوا له تجويزًا مطلقًا التصوير ؛ لأنه تصوير آلي ، وحرَّموا عليهم تصويرًا آخر ؛ لماذا ؟ لأنه تصوير يدوي ، وكلٌّ داخل في العمومات من الأحاديث التي سبق ذكرها ، وقد كان جرى بيني وبين أحدهم مناقشة حول هذه المسألة ، ويبدو من حديثه أنه كان ظاهريًّا عصريًّا في هذه المسألة ، فناقشتُه وكان من جملة ما ردَدْتُ عليه أني سألته : ما قولك في تلك المصانع الضَّخمة التي بكبسة زر كهربائي تُوجد أصنامًا أشكالًا وألوانًا ؟ منها الأصنام التي هي من مادة البلاستيك الكوتشوك ، أو نحو ذلك ، وهي التي امتلأت أسواق المسلمين بها كلُعَبِ للأطفال ، وأكثر من ذلك ؛ هناك معامل توجد بواسطة آلات ضخمة أصنام هي أجمل من الأصنام التي يقوم على نحتها الممثِّل والنحات ! قلت له : ماذا تقول في هذه الأصنام التي نراها مثلًا موضوعة على بعض المقاعد أو الطاولات ؟ ربما كلُّكم يذكر مثال من ذلك ؛ نرى مثلًا من ضلال الضالين في النصارى إنهم يصنعون صورة امرأة متبرجة بطبيعة الحال ووراءها كلب ، ما مادة هذه الصورة ؟ من حجر ، أو من نحاس ، أو من معدن آخر ، كيف صُنع هذا ؟ هل قام على صنع النحَّات ليلًا نهارًا ؟ لا ، وإنما بكبسة الزر الآلة تخرج في الدقيقة الواحدة ما شاء الله من هذه الأصنام ، قلت له : ما رأيك في هذه الأصنام ؟ أحرام أم حلال ؟ صفنَ فكَّر قليلًا ، فلم يسعه إلا أن يقول : هذا حرام ، قلنا لكن الوسيلة اختلفت كما اختلفت وسيلة التصوير الفوتوغرافي ، فعيَّ ولم يدرِ ما يقول ! وهذا هو اليقين ؛ أنه لا يجوز التفريق بين صنم وآخر ؛ لعلمه أن أحدهما صنع بالشاكوش والإزميل نحت نحتًا ، والآخر لم ينحت كذلك ، وإنما بالآلة ، هذه ظاهرية عصرية مقيتة !
وزعم بعضهم مرَّة روى قصة خيالية لتقريب هذا المسألة التي ابتُلينا بها في العصر الحاضر ، قال : زعموا أن عالمًا فاضلًا زار تلميذًا له في داره ، فلما جلس وإذا به يرى صورته أمامه معلقةً على الجدار ، يرى الشيخ صورته معلقة على الجدار ، فقال لتلميذه : يا بني ، كم مرَّة أنا درَّست عليكم بأن التصوير حرام ؛ فما بالك جعلت صورتي في صدر المكان ؟ قال : يا فضيلة الشيخ ، أنا فعلتُ ذلك حبًّا فيك ، وذكرى لعلمك وخلقك ، و و إلى آخره ، قال : لا ، هذا لا يجوز ، وهذا حرام - بارك الله فيك - ، والملائكة لا تدخل بيتك . فسارع التلميذ البار وأنزل الصورة ، وراحت أيَّام وجاءت أيام ، ثم عاد الشيخ فزار تلميذه مرَّة أخرى ، وإذا هو يرى الصورة في مكانها ! قال له : ما لك يا فلان ؟ ألستُ قد نصحتك وذكَّرتك ، وقبلت النصيحة ، وأنزلت الصورة ؟ قال : يا سيدي ، هذه الصورة صورة فوتوغرافية ، وتلك كانت صورة يدوية ، ونحن تعلَّمنا منك التفريق بين الصورتين ، فربتَ الشيخ على كتف تلميذه ، وقال له : بارك الله لك ، فقد صرت فقيهًا .
هذا فقه العصر الحاضر ، الجمود على الظواهر دون النظر إلى المقاصد ، إذا علمنا أنه لا فرق بين الصور اليدوية والصور الفوتوغرافية ، وبالتالي لا فرق بين الصور الفوتوغرافية والصور التلفزيونية إذا صحَّ التعبير ، كل ذلك يدخل في عموم : كل مصور في النار ، من صور صورة لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ، إذا عرفنا هذه الحقيقة نعود لنقول : ألا يوجد لهذا العصر متنفسًا لإباحة بعض الصور ، وبخاصَّة إذا كانت الضرورة العلمية تُوجبها ، أو الحاجة الملحَّة تقتضيها ؟ أقول أنا : نعم ، هذا موجود ، ودليلنا على ذلك حديث عائشة في بناتها في الصور التي كانت تلعب بها هي وجاراتها من البنات ، فقد جاء في أكثر من حديث عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يسرِّب بنات جيران عائشة إليها ليلعبوا معها بلُعَبِ البنات ، ومرَّة دخل - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها فوجد بين لعبها فرسًا ، صورة فرس له جناحان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا عائشة ، فرس له جناحان ؟! قالت : " يا رسول الله ، ألم يبلغك أن خيل سليمان كانت لها أجنحة " ، فضحك - عليه الصلاة والسلام - .
أخذنا من هذا الحديث رخصة في لُعَبِ البنات ، وأنها - هذه الرُّخصة - مستثناة منها من عموم تلك الأحاديث ؛ سواء ما كان منها شاملًا لكل مصوِّر ، أو ما كان منها شاملًا لكل صورة ؛ تمنع من دخول الملائكة ، فإذا كان هذا معروفًا وثابتًا في " الصحيحين " وقد كنت فصَّلت القول في هذه المسألة بعض التفصيل في كتابي " آداب الزفاف في السنة المطهرة " ؛ محذِّرًا من اقتناء الصور بمناسبة الزواج في العصر الحاضر ، ثم تعرَّضت للُعَبِ السيدة عائشة ، فقلت : إنها مُستثناة من تلك الأدلة العامة ، إذا كان هذا واردًا في السنة الصحيحة فيمكن الاستفادة من هذا الاستثناء لنشر الصور التي لا بدَّ منها ، وتكون هناك حاجة ملحَّة لعرضها ، أما هذا التوسع الذي عمَّ وطمَّ البلاد حتى المجلات العلمية الإسلامية المحضة تُذكر هناك صور بأدنى مناسبة ، صورة مثلًا كاتب المقال ، صورة من سُئل وأجاب ، لماذا هذه الصورة ؟ ما هي الضرورة ؟ علمًا بأن مثل هذه الصور قد تُبطل أعمال المصوَّرين فضلًا عن أعمال المصوِّرين ، أما أنها قد تبطل أعمال المصوَّرين من هؤلاء الأشخاص ؛ فذلك لما هو معلوم وأشرت إليه الليلة بعد صلاة العشاء أن هذا يعرِّض نفسه لإبطال عمله ؛ لأن لا يكتب وأن لا يجيبَ إلا حبًّا في الظهور ، وحبُّ الظهور يقطع الظهور . هذا جوابي على ذاك السؤال .
...
هذا السؤال الحقيقة - أيضًا - من بلاء هذا العصر الحاضر ، يقول السائل : إن بعضهم يقول : إن التصوير الفوتوغرافي ليس فيه تلك العلَّة التي جاء التنصيص عليها في بعض الأحاديث الصحيحة ؛ ألا وهي المضاهاة لخلق الله ... .
... بهذه الأدلة من هذا الحديث الصحيح : يضاهون بخلق الله ، ويقولون : إن المضاهاة إنما تحصل الصورة أو التصوير اليدوي ، أما في التصوير الفوتوغرافي فلا مضاهاة ، وأنا أتعجَّب كل العجب من هذه المغالطة ، وأتساءل في نفسي ؛ يا ترى هل هم واهمين أم هم يتظاهرون بالوهم ويعرفون أنه خلاف ما يظنُّون ؟ ذلك لأنَّ من صفات الله - تبارك وتعالى - ما قاله في غير ما آية في القرآن الكريم : إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون ، فأيُّ الصورتين أقرب شبهًا ومضاهاةً لخلق الله ؛ آلصورة التي يظلُّ عليها المصوِّر ليل نهار يخطئ من ههنا فيصحِّح من ههنا ؛ لا يكاد يمضي عليه لحظات أو ساعات ، فيدخل على ما صحَّحه تعديلًا ، وهكذا حتى تستقيم الصورة في نظره ، هذا أشدُّ مضاهاة لله في قوله للشيء كن فيكون أم ضغطة على الزر ؛ وإذا الصورة ظهرت في أحسن ما تكون تصويرًا ؟
لا شك أن هذا أبلغ بأن يكون مضاهاةً لخلق الله - تبارك وتعالى - ، هذا شيء ، والشيء الآخر المصور حتى المصور للصَّنم للتّمثال المجسم ، ما الذي يصور ؟ هو يصور الظاهر من الإنسان ، أما الباطن ؛ أي : الدماغ ، والعروق ، والشعيرات ، و و إلى آخر ما هنالك من خلق الله الدقيق ؛ القلب ، المعدة ، إلى آخره ؛ كل هذه الأشياء لا يستطيعون أن يصوروها ؛ فهم إذًا يصورون هذا الظاهر ، فالمضاهاة التي ذكرها الرسول - عليه السلام - في الحديث إنما يعني هذه الصورة الظاهرة ، وليست المضاهاة الحقيقية ، فلن يستطيع البشر مطلقًا أن يصلوا إليها ، فإذا انتبهنا لهذه النُّكتة حينئذٍ المضاهاة تكون لهذه الصورة الفوتوغرافية أقوى بكثير من الصورة اليدوية ، أو النحت بالإزميل والشاكوش ونحو ذلك ، هذا من جهة ، من جهة ثانية خَفِيَ على هؤلاء الذين وقفوا عند هذه العلَّة وهي علة المضاهاة ، نحن نعتقد أن هناك علَّة أخرى ، ونستطيع أن نكونَ مدقِّقين أكثر فيما إذا قلنا أن هناك حكمةً أخرى في تحريم الشارع الحكيم للتصوير والصور ؛ ألا وهي أنها كانت سببًا لعبادة غير الله - تبارك وتعالى - ، كما جاء في كتب التفسير تحت قوله - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام - حكى عنهم فقال : وقالوا لا تذرُنَّ آلهتكم ولا تذرنَّ ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا ، قال - تعالى - : وقد أضلوا كثيرًا ...
... أذهانكم أبد الدهر فإذا دفنتموهم مع جماهير الموتى لم تبقَ ذكراهم في بالكم ، ولذلك أوحى إليهم إبليس بأن يجعلوا قبورهم في أفنية دورهم ففعلوا ، ثم تركهم جيلًا من الزمان ، ثم جاءهم ، وقال لهم : أنصحكم بأن تتَّخذوا لهؤلاء الصالحين الخمسة أصنامًا ؛ لتظلَّ ذكراهم متركِّزة وثابتة في خواطركم ؛ لأن هذه القبور قد تأتيها عواصف من السماء أو أمطار أو السيول فتذهب ، ثم لا يبقى لها أيُّ أثر ، فقبلوا - أيضًا - نصيحته ، وما نصح الشيطان إنسانًا أبدًا ، فصنعوا ونحتوا أصنامًا لهؤلاء الخمسة ، وتركهم جيلًا آخر ، ثم جاءهم فقال لهم : يجب أن تتخذوا لهذه الأصنام مكانًا منزلًا يتناسب مع منزلتهم ، وثقتكم بهم ، فاتخذوا بيتًا للأصنام ، فوضعوها في مكان رفيعٍ ، ترك هؤلاء ، وانقضى ، ثم جاء الجيل الجديد ، وأوحى إليهم أنَّ هذه الأصنام التي وُضعت في هذا المكان إنما وُضعت لأنَّها تستحق العظمة والعبادة ، فأخذوا يسجدون لها ، ويعبدونها من دون الله - تبارك وتعالى - ، فأرسل الله - عز وجل - نوحًا - عليه السلام - إلى هذا الجيل الذي وقع في الشرك وفي عبادة هؤلاء الخمسة ، فماذا كان موقفهم ؟ كما سمعتم في الآية السابقة : لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودًّا إلى آخره ؛ إذًا الأصنام والتمثيل كانت سببًا لعبادة غير الله ، فلما حرَّم الرسول - عليه السلام - الصور والتماثيل لم تكن الحكمة فقط محصورة بأنها مضاهاة لخلق الله ، بل ولأنها - أيضًا - كانت سببًا لعبادة غير الله والإشراك بالله - تبارك وتعالى - ، ولذلك ولو سلَّمنا جدلًا بزعم هؤلاء أنه لا مضاهاة لخلق الله بالتصوير الشمسي تبقى العلة الثانية قائمة مستمرَّة .
ثم بهذه المناسبة - أيضًا - : يقول البعض بأنه لم يبق الناس الآن ؛ تثقَّفوا وتيقَّظوا ولم يعودوا يقعون في شيء من هذا الشرك الذي وقع فيه الأقوام السابقون ، وهذه مكابرة أخرى ! فمن درس لا أقول أحوال بعض المشركين في روسيا مثلًا ؛ حيث كان إلى عهد قريب قبر لينين ، وقبر استالين يطوف المسلمون حولَهم كما يطوف المسلمون حول الكعبة المشرفة ، وهل العبادة تكون أكثر من هذا ؟!
لكن أقول : لا نتحدث عن الكفار - فليس بعد الكفر ذنب - ، لكن ما بالنا نكابر ونقول لم يبق أحد يشرك بالله - عز وجل - ؛ ونحن لا نزال نجد في كثير من بلاد المسلمين ؛ في مصر ، في سورية ، في غيرها لا يزال الكفر يعمل عمله في بيوت الله - تبارك تعالى - ؛ حيث يُقصد المسجد الذي فيه قبر للصلاة فيه ، يفضِّلوا الصلاة فيه على المسجد الذي ليس فيه قبر ، تُقصد المقابر التي يُزعم أن قبورها أو المقبورين فيها كانوا من عباد الله الصالحين ، فيُستنجد بهم ، ويُستغاث بهم من دون الله - تبارك وتعالى - ، هذا كله واقع ومعروف في كثير من البلاد ، وإن كانت بلادكم بفضل الله - تبارك وتعالى - أولًا ، ثم بفضل دعوة محمد بن عبد الوهاب ثانيًا قد طَهُرَت من أدران الشرك ، لكن هذا الشرك لا يزال ذارًّا قرنَه في كثير من البلاد التي أشرت إليها ، وفي غيرها - أيضًا - .
نحن نعلم أن في حلب - وهي العاصمة الثانية لسورية بعد دمشق - كان فيها قبرٌ يكفيكم اسمه عن أن تتعرَّفوا على ما كان يجري فيه من أضرار ومن وثنية ، اسمه القبر " قاضٍ الحاجات " !! القبر اسمه : " قاضي الحاجات " !! وكان الناس يقصدونه بالنذور له ، ومن عجبٍ ومن ضلال بعض النساء أن المرأة العقيم التي كانت قد مضى عليها زمن من الزواج ولم تُرزق ولدًا زيَّن الشيطان لهنَّ فقال لهنَّ : إن هذا القبر قاضي الحاجات ، إذا جاءت المرأة وجلست على سنام القبر ، القبر معروف ؛ فإذا هي ركبت القبر واحتكَّت هكذا قليلًا ، وإذا هي تذهب حبلى ، ذلك هو الضلال البعيد ، ثم انكشف الأمر ؛ كان السَّادن عند هذا القبر خبيثًا ؛ كان يزيِّن للمرأة أن تباتَ تلك الليلة عندهم حتى يحضر عليها روح " قاضي الحاجات " ، فهو يكون هو القاضي لحاجته !! فتذهب منه حبلى !! وهكذا يعني أمر غريب وعجيب جدًّا !! ومع ذلك يتفلسف بعض الناس ويقول : لم يبق هناك خوف أن يُصاب المسلمون بشيءٍ من الشرك ؛ لأن المسلمين الآن - ما شاء الله ! - استيقظوا ، وقد صحَّ جاء في " صحيح البخاري " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول صنم لهم يقال له : ذو الخُلَيصة ، هذا حديث في " صحيح البخاري " ، فمعنى هذا أن المسلمين أمامهم شرك مجسَّد مكبَّر ، فلذلك فعلينا أن نتمسَّك بكل الأحكام الشرعية التي منها منع التصوير من باب سدِّ الذريعة ، ليس فقط من باب مشابهة خلق الله ، بل ومن باب سدِّ الذريعة بين المسلمين وبين وصولهم إلى تعظيم غير ربِّ العالمين .
هذا ما عندي جوابًا عن هذا السؤال .
وزعم بعضهم مرَّة روى قصة خيالية لتقريب هذا المسألة التي ابتُلينا بها في العصر الحاضر ، قال : زعموا أن عالمًا فاضلًا زار تلميذًا له في داره ، فلما جلس وإذا به يرى صورته أمامه معلقةً على الجدار ، يرى الشيخ صورته معلقة على الجدار ، فقال لتلميذه : يا بني ، كم مرَّة أنا درَّست عليكم بأن التصوير حرام ؛ فما بالك جعلت صورتي في صدر المكان ؟ قال : يا فضيلة الشيخ ، أنا فعلتُ ذلك حبًّا فيك ، وذكرى لعلمك وخلقك ، و و إلى آخره ، قال : لا ، هذا لا يجوز ، وهذا حرام - بارك الله فيك - ، والملائكة لا تدخل بيتك . فسارع التلميذ البار وأنزل الصورة ، وراحت أيَّام وجاءت أيام ، ثم عاد الشيخ فزار تلميذه مرَّة أخرى ، وإذا هو يرى الصورة في مكانها ! قال له : ما لك يا فلان ؟ ألستُ قد نصحتك وذكَّرتك ، وقبلت النصيحة ، وأنزلت الصورة ؟ قال : يا سيدي ، هذه الصورة صورة فوتوغرافية ، وتلك كانت صورة يدوية ، ونحن تعلَّمنا منك التفريق بين الصورتين ، فربتَ الشيخ على كتف تلميذه ، وقال له : بارك الله لك ، فقد صرت فقيهًا .
هذا فقه العصر الحاضر ، الجمود على الظواهر دون النظر إلى المقاصد ، إذا علمنا أنه لا فرق بين الصور اليدوية والصور الفوتوغرافية ، وبالتالي لا فرق بين الصور الفوتوغرافية والصور التلفزيونية إذا صحَّ التعبير ، كل ذلك يدخل في عموم : كل مصور في النار ، من صور صورة لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ، إذا عرفنا هذه الحقيقة نعود لنقول : ألا يوجد لهذا العصر متنفسًا لإباحة بعض الصور ، وبخاصَّة إذا كانت الضرورة العلمية تُوجبها ، أو الحاجة الملحَّة تقتضيها ؟ أقول أنا : نعم ، هذا موجود ، ودليلنا على ذلك حديث عائشة في بناتها في الصور التي كانت تلعب بها هي وجاراتها من البنات ، فقد جاء في أكثر من حديث عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يسرِّب بنات جيران عائشة إليها ليلعبوا معها بلُعَبِ البنات ، ومرَّة دخل - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها فوجد بين لعبها فرسًا ، صورة فرس له جناحان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا عائشة ، فرس له جناحان ؟! قالت : " يا رسول الله ، ألم يبلغك أن خيل سليمان كانت لها أجنحة " ، فضحك - عليه الصلاة والسلام - .
أخذنا من هذا الحديث رخصة في لُعَبِ البنات ، وأنها - هذه الرُّخصة - مستثناة منها من عموم تلك الأحاديث ؛ سواء ما كان منها شاملًا لكل مصوِّر ، أو ما كان منها شاملًا لكل صورة ؛ تمنع من دخول الملائكة ، فإذا كان هذا معروفًا وثابتًا في " الصحيحين " وقد كنت فصَّلت القول في هذه المسألة بعض التفصيل في كتابي " آداب الزفاف في السنة المطهرة " ؛ محذِّرًا من اقتناء الصور بمناسبة الزواج في العصر الحاضر ، ثم تعرَّضت للُعَبِ السيدة عائشة ، فقلت : إنها مُستثناة من تلك الأدلة العامة ، إذا كان هذا واردًا في السنة الصحيحة فيمكن الاستفادة من هذا الاستثناء لنشر الصور التي لا بدَّ منها ، وتكون هناك حاجة ملحَّة لعرضها ، أما هذا التوسع الذي عمَّ وطمَّ البلاد حتى المجلات العلمية الإسلامية المحضة تُذكر هناك صور بأدنى مناسبة ، صورة مثلًا كاتب المقال ، صورة من سُئل وأجاب ، لماذا هذه الصورة ؟ ما هي الضرورة ؟ علمًا بأن مثل هذه الصور قد تُبطل أعمال المصوَّرين فضلًا عن أعمال المصوِّرين ، أما أنها قد تبطل أعمال المصوَّرين من هؤلاء الأشخاص ؛ فذلك لما هو معلوم وأشرت إليه الليلة بعد صلاة العشاء أن هذا يعرِّض نفسه لإبطال عمله ؛ لأن لا يكتب وأن لا يجيبَ إلا حبًّا في الظهور ، وحبُّ الظهور يقطع الظهور . هذا جوابي على ذاك السؤال .
...
هذا السؤال الحقيقة - أيضًا - من بلاء هذا العصر الحاضر ، يقول السائل : إن بعضهم يقول : إن التصوير الفوتوغرافي ليس فيه تلك العلَّة التي جاء التنصيص عليها في بعض الأحاديث الصحيحة ؛ ألا وهي المضاهاة لخلق الله ... .
... بهذه الأدلة من هذا الحديث الصحيح : يضاهون بخلق الله ، ويقولون : إن المضاهاة إنما تحصل الصورة أو التصوير اليدوي ، أما في التصوير الفوتوغرافي فلا مضاهاة ، وأنا أتعجَّب كل العجب من هذه المغالطة ، وأتساءل في نفسي ؛ يا ترى هل هم واهمين أم هم يتظاهرون بالوهم ويعرفون أنه خلاف ما يظنُّون ؟ ذلك لأنَّ من صفات الله - تبارك وتعالى - ما قاله في غير ما آية في القرآن الكريم : إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون ، فأيُّ الصورتين أقرب شبهًا ومضاهاةً لخلق الله ؛ آلصورة التي يظلُّ عليها المصوِّر ليل نهار يخطئ من ههنا فيصحِّح من ههنا ؛ لا يكاد يمضي عليه لحظات أو ساعات ، فيدخل على ما صحَّحه تعديلًا ، وهكذا حتى تستقيم الصورة في نظره ، هذا أشدُّ مضاهاة لله في قوله للشيء كن فيكون أم ضغطة على الزر ؛ وإذا الصورة ظهرت في أحسن ما تكون تصويرًا ؟
لا شك أن هذا أبلغ بأن يكون مضاهاةً لخلق الله - تبارك وتعالى - ، هذا شيء ، والشيء الآخر المصور حتى المصور للصَّنم للتّمثال المجسم ، ما الذي يصور ؟ هو يصور الظاهر من الإنسان ، أما الباطن ؛ أي : الدماغ ، والعروق ، والشعيرات ، و و إلى آخر ما هنالك من خلق الله الدقيق ؛ القلب ، المعدة ، إلى آخره ؛ كل هذه الأشياء لا يستطيعون أن يصوروها ؛ فهم إذًا يصورون هذا الظاهر ، فالمضاهاة التي ذكرها الرسول - عليه السلام - في الحديث إنما يعني هذه الصورة الظاهرة ، وليست المضاهاة الحقيقية ، فلن يستطيع البشر مطلقًا أن يصلوا إليها ، فإذا انتبهنا لهذه النُّكتة حينئذٍ المضاهاة تكون لهذه الصورة الفوتوغرافية أقوى بكثير من الصورة اليدوية ، أو النحت بالإزميل والشاكوش ونحو ذلك ، هذا من جهة ، من جهة ثانية خَفِيَ على هؤلاء الذين وقفوا عند هذه العلَّة وهي علة المضاهاة ، نحن نعتقد أن هناك علَّة أخرى ، ونستطيع أن نكونَ مدقِّقين أكثر فيما إذا قلنا أن هناك حكمةً أخرى في تحريم الشارع الحكيم للتصوير والصور ؛ ألا وهي أنها كانت سببًا لعبادة غير الله - تبارك وتعالى - ، كما جاء في كتب التفسير تحت قوله - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام - حكى عنهم فقال : وقالوا لا تذرُنَّ آلهتكم ولا تذرنَّ ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا ، قال - تعالى - : وقد أضلوا كثيرًا ...
... أذهانكم أبد الدهر فإذا دفنتموهم مع جماهير الموتى لم تبقَ ذكراهم في بالكم ، ولذلك أوحى إليهم إبليس بأن يجعلوا قبورهم في أفنية دورهم ففعلوا ، ثم تركهم جيلًا من الزمان ، ثم جاءهم ، وقال لهم : أنصحكم بأن تتَّخذوا لهؤلاء الصالحين الخمسة أصنامًا ؛ لتظلَّ ذكراهم متركِّزة وثابتة في خواطركم ؛ لأن هذه القبور قد تأتيها عواصف من السماء أو أمطار أو السيول فتذهب ، ثم لا يبقى لها أيُّ أثر ، فقبلوا - أيضًا - نصيحته ، وما نصح الشيطان إنسانًا أبدًا ، فصنعوا ونحتوا أصنامًا لهؤلاء الخمسة ، وتركهم جيلًا آخر ، ثم جاءهم فقال لهم : يجب أن تتخذوا لهذه الأصنام مكانًا منزلًا يتناسب مع منزلتهم ، وثقتكم بهم ، فاتخذوا بيتًا للأصنام ، فوضعوها في مكان رفيعٍ ، ترك هؤلاء ، وانقضى ، ثم جاء الجيل الجديد ، وأوحى إليهم أنَّ هذه الأصنام التي وُضعت في هذا المكان إنما وُضعت لأنَّها تستحق العظمة والعبادة ، فأخذوا يسجدون لها ، ويعبدونها من دون الله - تبارك وتعالى - ، فأرسل الله - عز وجل - نوحًا - عليه السلام - إلى هذا الجيل الذي وقع في الشرك وفي عبادة هؤلاء الخمسة ، فماذا كان موقفهم ؟ كما سمعتم في الآية السابقة : لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودًّا إلى آخره ؛ إذًا الأصنام والتمثيل كانت سببًا لعبادة غير الله ، فلما حرَّم الرسول - عليه السلام - الصور والتماثيل لم تكن الحكمة فقط محصورة بأنها مضاهاة لخلق الله ، بل ولأنها - أيضًا - كانت سببًا لعبادة غير الله والإشراك بالله - تبارك وتعالى - ، ولذلك ولو سلَّمنا جدلًا بزعم هؤلاء أنه لا مضاهاة لخلق الله بالتصوير الشمسي تبقى العلة الثانية قائمة مستمرَّة .
ثم بهذه المناسبة - أيضًا - : يقول البعض بأنه لم يبق الناس الآن ؛ تثقَّفوا وتيقَّظوا ولم يعودوا يقعون في شيء من هذا الشرك الذي وقع فيه الأقوام السابقون ، وهذه مكابرة أخرى ! فمن درس لا أقول أحوال بعض المشركين في روسيا مثلًا ؛ حيث كان إلى عهد قريب قبر لينين ، وقبر استالين يطوف المسلمون حولَهم كما يطوف المسلمون حول الكعبة المشرفة ، وهل العبادة تكون أكثر من هذا ؟!
لكن أقول : لا نتحدث عن الكفار - فليس بعد الكفر ذنب - ، لكن ما بالنا نكابر ونقول لم يبق أحد يشرك بالله - عز وجل - ؛ ونحن لا نزال نجد في كثير من بلاد المسلمين ؛ في مصر ، في سورية ، في غيرها لا يزال الكفر يعمل عمله في بيوت الله - تبارك تعالى - ؛ حيث يُقصد المسجد الذي فيه قبر للصلاة فيه ، يفضِّلوا الصلاة فيه على المسجد الذي ليس فيه قبر ، تُقصد المقابر التي يُزعم أن قبورها أو المقبورين فيها كانوا من عباد الله الصالحين ، فيُستنجد بهم ، ويُستغاث بهم من دون الله - تبارك وتعالى - ، هذا كله واقع ومعروف في كثير من البلاد ، وإن كانت بلادكم بفضل الله - تبارك وتعالى - أولًا ، ثم بفضل دعوة محمد بن عبد الوهاب ثانيًا قد طَهُرَت من أدران الشرك ، لكن هذا الشرك لا يزال ذارًّا قرنَه في كثير من البلاد التي أشرت إليها ، وفي غيرها - أيضًا - .
نحن نعلم أن في حلب - وهي العاصمة الثانية لسورية بعد دمشق - كان فيها قبرٌ يكفيكم اسمه عن أن تتعرَّفوا على ما كان يجري فيه من أضرار ومن وثنية ، اسمه القبر " قاضٍ الحاجات " !! القبر اسمه : " قاضي الحاجات " !! وكان الناس يقصدونه بالنذور له ، ومن عجبٍ ومن ضلال بعض النساء أن المرأة العقيم التي كانت قد مضى عليها زمن من الزواج ولم تُرزق ولدًا زيَّن الشيطان لهنَّ فقال لهنَّ : إن هذا القبر قاضي الحاجات ، إذا جاءت المرأة وجلست على سنام القبر ، القبر معروف ؛ فإذا هي ركبت القبر واحتكَّت هكذا قليلًا ، وإذا هي تذهب حبلى ، ذلك هو الضلال البعيد ، ثم انكشف الأمر ؛ كان السَّادن عند هذا القبر خبيثًا ؛ كان يزيِّن للمرأة أن تباتَ تلك الليلة عندهم حتى يحضر عليها روح " قاضي الحاجات " ، فهو يكون هو القاضي لحاجته !! فتذهب منه حبلى !! وهكذا يعني أمر غريب وعجيب جدًّا !! ومع ذلك يتفلسف بعض الناس ويقول : لم يبق هناك خوف أن يُصاب المسلمون بشيءٍ من الشرك ؛ لأن المسلمين الآن - ما شاء الله ! - استيقظوا ، وقد صحَّ جاء في " صحيح البخاري " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول صنم لهم يقال له : ذو الخُلَيصة ، هذا حديث في " صحيح البخاري " ، فمعنى هذا أن المسلمين أمامهم شرك مجسَّد مكبَّر ، فلذلك فعلينا أن نتمسَّك بكل الأحكام الشرعية التي منها منع التصوير من باب سدِّ الذريعة ، ليس فقط من باب مشابهة خلق الله ، بل ومن باب سدِّ الذريعة بين المسلمين وبين وصولهم إلى تعظيم غير ربِّ العالمين .
هذا ما عندي جوابًا عن هذا السؤال .
الفتاوى المشابهة
- حكم التصوير وما يحل منه وما يحرم - ابن باز
- سؤال عن حكم التصوير ؟و هل يعلم الأطفال في المد... - الالباني
- بيان حكم التصوير المجسم وغيره. - الالباني
- فائدة في بيان حكم التصوير بأنواعه وضوابطه. - ابن عثيمين
- ما حكم التصوير الفوتوغرافي واليدوي.؟ وهل إجازة... - الالباني
- حكم التصوير - اللجنة الدائمة
- الحكمة من تحريم التصوير . - الالباني
- ما حكم التصوير الفتوغرافي ؟ - ابن عثيمين
- حكم الصور والتصوير - ابن باز
- ما هو حكم التصوير الفتغرافي ؟ - الالباني
- بيان حكم التصوير . - الالباني