تم نسخ النصتم نسخ العنوان
تفسير قول الله تعالى : [ إلا حميما وغساقا )... - ابن عثيمينالشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:أما بعد: فإن هذا هو ال...
العالم
طريقة البحث
تفسير قول الله تعالى : [ إلا حميما وغساقا ) إلى قوله : ( جزاء وفاقا ] .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد: فإن هذا هو اللقاء الثاني لشهر جمادى الأولى، الحاصل يوم الخميس الحادي عشر من هذا الشهر، عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل في هذه اللقاءات بركة ونفعاً لنا وللمسلمين.
نُتمم ما نحن سائرون فيه من التفسير، وقد تكلمنا على قوله تعالى في سورة النبأ عن الطاغين، وأن جهنم كانت مآبهم، وأنهم لابثون فيها أحقاباً، لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً .
تكلمنا على قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً وقلنا: إن الله سبحانه وتعالى نفى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافُهم.
ثم قال تعالى: إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً وهذا الاستثناء منقطع عند النحويين، لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى: ليس لهم إلا هذا.
الحميم: وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة إلى ما ذكرناه سابقاً بأنهم يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه، وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ .
وغساقاً، قال المفسرون: إن الغساق هو: شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيُجمع لهم -والعياذ بالله- بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة، ليذوقوا العذاب من الناحيتين: من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا: إن المراد بالغسَّاق: صديد أهل النار وما يخرج من أجوافهم من النتن والعَرَق وغير ذلك.
وعلى كل حال فالآية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يقطِّع أمعاءهم من حرارته، ويفطِّر أكبادهم من برودته -نسأل الله العافية-، وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في إضعاف العذاب عليهم.
ثم قال تعالى: جَزَاءً وِفَاقاً ، أي: يجزون بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم من غير أن يظلموا، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ، فهذا الجزاء موافق ومطابق لأعمالهم.
ثم بين وجه الموافقة، أي: موافقة هذا العذاب للأعمال فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ، فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول، إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً أي: كانوا لا يأملون أن يحاسبوا، بل ينكرون الحساب ينكرون البعث، يقولون: إن هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ، فلا يرجون حساباً يحاسبون به، لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم.
أما ألسنتهم فيكذبون يقولون: هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك، كما تقرءون في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذبون رسلَ الله، كما قال عز وجل: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، وقال الله تعالى عن المكذبين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ، وقالوا إنه شاعر: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، وقالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، ولولا أن الله ثبَّت أقدام الرسل وصبَّرهم على قومهم، ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذبين لهم لم يقتصروا على هذا، بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذية العظيمة، بل آذوه بحمل السلاح عليه، فمن كانت هذه حالَه فجزاؤه جهنم جزاءً موافقاً مطابقاً لعمله، كما في هذه الآية الكريمة: جَزَاءً وِفَاقاً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً * وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً : كل شيء، يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير: كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً أي: ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف.
كِتَاباً يعني: كتباً، وقد ثبت في الحديث الصحيح: أن الله كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة ، ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يكتب، قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ : رقيب يعني: مراقب، والعتيد يعني: الحاضر.
دخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله، وهو مريض يئن من مرضه، فقال له: " يا أبا عبد الله! إن طاوساً -وهو أحد التابعين المشهورين- يقول: إن أنين المريض يكتب، فتوقَّف رحمه الله عن الأنين، خوفاً من أن يكتب عليه أنين مرضه "، فكيف بأقوال لساننا التي لا حد لها ولا ممسك لها، ألفاظٌ تترا طوال الليل والنهار، ولا نحسب لها الحساب -نسأل الله تعالى أن يعاملنا وإياكم بعفوه-.
كل شيء يكتب، حتى الهم يكتب إما لك وإما عليك، من هم بالسيئة فلم يعملها عاجزاً عنها فإنها تكتب عليه، وإن هم بها وتركها لله فإنها تكتب له، فلا يضيع شيء.
كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً : هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني: يقال لأهل النار: ذوقوا العذاب إهانة وتوبيخاً، فلن نزيدكم إلا عذاباً ولن نخفف عنكم، بل ولا نبقيكم على ما أنتم عليه، لا نزيدكم إلا عذاباً، في قوته، ومدته، ونوعه، وقد قرأتم آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ ، تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه:
أولاً: أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم، لماذا؟
لأن الله قال لهم: اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ : فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يسألوا الله ويدعوه، بل بواسطة.
ثم قالوا: ادْعُوا رَبَّكُمْ ولم يقولوا: ادعوا ربنا، لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتكلم أو تتحدث بإضافة ربوبية الله لهم، أي: بأن يقولوا: ربنا، عندهم من العار والخزي ما يرون أنهم ليسوا أهلاً لأن تضاف ربوبية الله إليهم بل قالوا: رَبَّكُمْ .
ثم انظروا أنهم لم يقولوا: يرفع عنا العذاب، بل قالوا: يخفف، لأنهم آيسون -نعوذ بالله- آيسون من أن يرفع عنهم.
ثم انظروا أيضاً هل قالوا: يخفف عنا العذاب دائماً؟ قالوا: يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ : يوماً واحداً، يتبين لكم إذا تصورتم هذه الحال، يتبين لكم ما هم عليه من العذاب والهوان والذل: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أعاذنا الله وإياكم منها.
ثم ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم، لأن القرآن مثاني، إذا ذكر فيه العقاب، ذكر فيه الثواب، وإذا ذكر الثواب، ذكر العقاب، وإذا ذكر أهل الخير، ذكر أهل الشر، وإذا ذكر الحق، ذكر الباطل، مثاني حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء، لأنه إن غلب عليه الرجاء، وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف، وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، لا الأمن من مكر الله، ولا القنوط من رحمة الله، لذلك تجدون القرآن يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تمل النفوس من ذكر حالٍ واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، ونقف إلى هذا الحد من أجل استغلال بقية الوقت في الأسئلة التي ربما يكون فيها فوائد كثيرة فنبدأ من اليمين.

Webiste