تم نسخ النصتم نسخ العنوان
تفسير سورة الكوثر . - ابن عثيمينالشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.أما بعد: فهذا هو اللقاء الخامس بعد المائة م...
العالم
طريقة البحث
تفسير سورة الكوثر .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الخامس بعد المائة من لقاء الباب المفتوح، الذي يتم في يوم كل خميس من كل أسبوع، وهذا الخميس هو الخامس والعشرون من شهر جمادى الأولى، عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نبتدئ هذا اللقاء بالكلام على ما تيسر على سورة: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }:
هذه السورة قيل: إنها مكية، وقيل: إنها مدنية.
والمكي: هو الذي نزل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، سواء نزل في مكة أو في المدينة أو في الطريق في السفر يعني، كل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني وما نزل قبلها فهو مكي، هذا القول الراجح من أقوال العلماء.
يقول الله عز وجل مخاطباً النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ }: والكوثر في اللغة العربية: هو الخير الكثير، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الله تعالى خيراً كثيراً في الدنيا والآخرة، فمن ذلك: أنه النهر العظيم الذي في الجنة والذي يَصُب منه ميزابان على حوضه المورود صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشدُّ بياضاً من اللبن، وأحلى مذاقاً من العسل، وأطيب رائحة مِن المسك، وهذا الحوض في عرصات القيامة يرده المؤمنون من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وآنيته كنجوم السماء كثرة وحُسناً، فمن كان وارداً على شريعته في الدنيا كان وارداً على حوضه في الآخرة، ومن لم يكن وارداً على شريعته فإنه محروم منه في الآخرة، نسأل الله أن يوردنا وإياكم حَوضه، ويسقينا منه.
ومِن الخيرات الكثيرة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُعطيت الشفاعة، وأُحلت لي المغانم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة": هذا من الخير الكثير، لأن بعثه إلى الناس عامة يستلزم أن يكون أكثر الأنبياء أتباعاً وهو كذلك، فهو أكثرُهم أتباعاً عليه الصلاة والسلام.
ومِن المعلوم أن الدالَّ على الخير كفاعل الخير، والذي دلَّ هذه الأمة العظيمة التي فاقت الأمم كثرة هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون للرسول عليه الصلاة والسلام مِن أجر كل واحد من أمته نصيب من الأجر، ومن يحصي الأمة إلا الله عز وجل.
ومن الخير الذي أُعطيه في الآخرة المقام المحمود، ومنه الشفاعة العظمى، فإن الناس في يوم القيامة يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيطلبون الشفاعة فيأتون إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم فيقوم ويشفع، ويقضي الله تعالى بين العباد بشفاعته، وهذا مقام يحمده عليه الأولون والآخرون، داخل في قوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً }.
إذاً الكوثر يعني: الخير الكثير، ومنه النَّهَر الذي في الجنة، فالنهر الذي في الجنة هو الكوثر لا شك، ويسمى كوثراً لكنه ليس هو فقط الذي أعطاه اللهُ نبيَه محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخير.
ولما ذكر منته عليه بهذا الخير الكثير قال: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }: شكراً لله على هذه النعمة العظيمة، أن تصليَ وتنحر لله، والمراد بالصلاة هنا جميع الصلوات، وأول ما يدخل فيها الصلاة المقرونة بالنحر وهي صلاة عيد الأضحى، لكن الآية شاملة عامة: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } الصلوات المفروضة والنوافل وصلوات العيد والجمعة.
{ وَانْحَرْ } أي: تقرب إليه بالنحر، والنحر يختص بالإبل، والذبح للبقر والغنم، لكنه ذكر النحر، لأن الإبل أنفع من غيرها بالنسبة للمساكين، ولهذا أهداها النبي صلى الله عليه وسلم في حجه أهدى مائة بعير، ونحر منها ثلاثاً وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب الباقي فنحرها، وتصدق بجميع أجزائها إلا بضعة واحدة من كل ناقة فأخذها وجعلت في قدر فطبخها، فأكل من لحمها وشرب من مرقها، وأمر بالصدقة حتى بجلابها وبجلودها عليه الصلاة والسلام، والأمر له أمر له وللأمة، فعلينا أن نخلص الصلاة لله وأن نخلص النحر لله، كما أُمر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }: هذا في مقابل إعطاء الكوثر قال: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }: شانئك أي: مبغضك، والشَّنَئان البغض، ومنه قوله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } أي: لا يحملنكم بغضهم أن تعتدوا.
وقال: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } أي: لا يحملنكم بغضهم على ترك العدل فقال سبحانه وتعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }.
فـ { شَانِئَكَ } في قوله: { إِنَّ شَانِئَكَ } يعني: مبغضك.
{ هُوَ الْأَبْتَرُ }: الأبتر اسم تفضيل، من بتر بمعنى قطع، يعني: هو الأقطع المنقطع من كل خير، وذلك أنَّ كفار قريش يقولون: محمد أبتر، لا خير فيه ولا بركة فيه، ولا في اتباعه، أبتر لما ماتَ ابنه القاسم رضي الله عنه قالوا: محمد أبتر، لا يولد له، ولو وُلد له فهو مقطوع النسل، فبين الله عز وجل أن الأبتر هو مُبغض الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو الأبتر المقطوع عن كل خير، الذي ليس فيه بركة وَحياته ندامة عليه، وإذا كان هذا في مبغضه فهو أيضاً في مبغض شرعه، فمن أبغضَ شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أبغض شَعيرة من شعائر الإسلام، أو أَبغض أيَّ طاعة مما يتعبد به الناس في دين الإسلام فإنه كافر، كافر خارج عن الدين، لقول الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }، ولا حبوط للعمل إلا بالكفر، فمن كره فرض الصلوات فهو كافر ولو صلى، ومن كره فرض الزكاة فهو كافر ولو صلّى، لكن مَن استثقلها مع عدم الكراهة فهذا فيه خصلة من خصلة النفاق لكنه لا يكفر، وفرق بين من استثقل الشيء ومن كره الشيء.
إذاً: هذه الآية تضمنت بياناً لنعمة الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعطائه الخير الكثير، ثم الأمر بالإخلاص لله عز وجل في الصلوات والنحر وكذلك في سائر العبادات، ثم بيان أن من أبغض الرسول عليه الصلاة والسلام أو أبغض شيئاً من شريعته فإنه هو الأقطع الذي لا خير فيه ولا بركة فيه.

Webiste