تفسير سورة الحجرات الآيات (7-8) وآيات اخرى مختارة وما يستفاد من الآيات .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الرابع عشر بعد المائة من اللقاء المسمى: لقاء الباب المفتوح، الذي يتم كل خميس في كل أسبوع، وهذا هو يوم الخميس السادس من شهر شعبان عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نبتدئ هذا اللقاء بالكلام على ما تيسر من تفسير قول الله تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، هذه الآية كما تعلمون جاءت بعد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ
وسبب ما سبق: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه عن قوم ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكد من الأخبار إذا جاء بها من لا تعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ولكن العبرة بعموم اللفظ، وهو قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي: لشق عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا له أمثلة كثيرة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه في رمضان يصلي بهم صلاة القيام، فانصرف وقد بقي من الليل ما بقي، فقالوا: يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا يعني: طلبوا منه أن يقيم بهم كل الليل ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة ولم يوافقهم على طلبهم، لما في ذلك من العنت والمشقة.
ومنها: أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحثوا عن عمله في السر يعني: فيما لا يظهر للناس، وهو العمل الذي يفعله في بيته من العبادات فكأنهم تقالُّوها، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعني: وأما هم فلم يكن لهم ذلك فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني فحذرهم أن يعملوا عملاً يشق عليهم.
ومن ذلك أيضاً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أنه ليصومن النهار وليقومن الليل ما عاش، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنت قلت هذا؟ قال: نعم، قال: إنك لا تطيق ذلك ثم أرشده إلى ما هو أفضل وأهون.
والحاصل: أنه يوجد من الصحابة رضي الله عنهم من له همة عالية، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطيعهم في كثير من الأمر، لأن ذلك يشق عليهم لو أنه أطاعهم.
ثم قال : وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ قد يقول قائل: ما هو ارتباط قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ؟
والجواب : أنكم تطيعونه أي: الرسول عليه الصلاة والسلام، فيما يخالفكم فيه، لأن الله حبب إليكم الإيمان، فتقدمون طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما خالفكم فيه، لأن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وهذا استدراك من أبلغ ما يكون من الاستدراك، يعني: ولكن إذا خالفكم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه ولن تحملوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بسببه وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ أي: جعله محبوباً في قلوبكم وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني: جعلكم تحبونه، وزينه في قلوبكم بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به، وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبة عارضة لكن إذا زين له الشيء ثبتت المحبة ودامت، ولهذا قال: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ وهذا في القلب، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أيضاً في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب إلى الإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه.
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ كره إليكم الكفر الذي هو مقابل الإيمان، والفسوق الذي هو مقابل الاستقامة، والعصيان الذي هو مقابل الكمال، وهذا تدرج من الأعلى إلى ما دونه، الكفر أعظم من الفسق، والفسق أعظم من العصيان، فالكفر: هو الخروج من الإسلام بالكلية، وله أسباب معروفة في كتب أهل العلم ذكرها الفقهاء رحمهم الله في باب أحكام المرتد، وأما الفسق فهو دون الكفر لكنه فعل كبيرة، أن يفعل الإنسان كبيرة من الكبائر ولم يتب منها كالزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف وما أشبه ذلك، والعصيان دون هذا، العصيان هو الصغائر التي تكفر بالأعمال الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فالمؤمنون الخلص حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أولئك: المشار إليه من حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ يعني: الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يحسن الإنسان التصرف فيه، ولا يبذله في غير فائدة، والرشد في ولاية النكاح مثلاً: هو أن يكون الولي عارفاً بالكفء ومصالح النكاح، والرشد في الدين: هو الاستقامة على دين الله عز وجل، فهؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون.
وهنا تجدون هذه الأفعال كلها مضافة إلى الله ، حبب من ؟
الطالب : الله.
الشيخ : زينه؟ الله. كره؟ الله عز وجل، ولهذا قال بعدها: فَضْلاً مِنَ اللَّهِ يعني: أن الله أفضل عليكم فضلاً أي: تفضلاً منه وليس بكسبكم ولكنه من الله عز وجل، ولكن ليُعلم أن الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص، فمن علم الله منه حسن النية وحسن القصد والإخلاص حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإن الله تعالى يقول: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ويقول عز وجل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فالذنوب سبب للمخالفة والعصيان، فهؤلاء الذين تفضل الله عليهم وأنعم عليهم نعمة الدين هم الذين وفقوا للحق.
قال الله عز وجل: فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي: إنعاماً منه عليهم.
والنعمة نعمتان: نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخر.
فأما الكفار فهم منعمون في الدنيا كما قال الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ أي: تنعموا، فهؤلاء -أعني: الكفار- عليهم نعمة في الدنيا، لكن في الآخر عليهم العذاب واللعنة والعياذ بالله.
أما المؤمن فإنه يحصل على النعمتين جميعاً على نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، حتى وإن كان فقيراً أو مريضاً أو عقيماً أو لا نسب له، فإنه في نعمة لقول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
هنا قال: فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً المراد بالنعمة هنا نعمة الدين التي تتصل بنعمة الآخرة، وخلاصة الكلام في النعمة: أن هناك نعمتين: نعمة عامة لجميع الخلق، الكافر والمؤمن، والفاسق والمطيع، ونعمة خاصة للمؤمن، وهذه النعمة الخاصة تتصل بنعمة الدين والدنيا، وأما الأولى فإنها خاصة بنعمة الدنيا فقط لتقوم على الكفار الحجة.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هذان اسمان من أسماء الله، يقرن الله بينهما دائماً، العلم والحكمة، عليم بكل شيء قال الله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، والإنسان إذا علم أن علم الله محيط بكل شيء حتى ما يضمره في قلبه فإنه يخاف، ويرهب، ويهرب من الله إليه عز وجل، ولا يقول قولاً يغضب الله، ولا يفعل فعلاً يغضب الله، ولا يضمر عقيدة تغضب الله، لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك لا يخفى عليه.
وأما الحكيم، فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي: أن جميع ما يحكم به جل وعلا موافق مطابق للمصالح، ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة، قال الله تبارك وتعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ وقال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ، وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ هذا معنى الحكيم، أي: ذو الحكمة البالغة.
وله معنى آخر وهو: ذو الحكم التام، فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وقال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ولا أحد يحكم بهواه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ .
نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم برحمته وعفوه، وأن يجعلنا ممن علم وانتفع بعلمه إنه على كل شيء قدير، والآن إلى الأسئلة ونبدأ باليمين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الرابع عشر بعد المائة من اللقاء المسمى: لقاء الباب المفتوح، الذي يتم كل خميس في كل أسبوع، وهذا هو يوم الخميس السادس من شهر شعبان عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نبتدئ هذا اللقاء بالكلام على ما تيسر من تفسير قول الله تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، هذه الآية كما تعلمون جاءت بعد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ
وسبب ما سبق: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه عن قوم ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكد من الأخبار إذا جاء بها من لا تعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ولكن العبرة بعموم اللفظ، وهو قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي: لشق عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا له أمثلة كثيرة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه في رمضان يصلي بهم صلاة القيام، فانصرف وقد بقي من الليل ما بقي، فقالوا: يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا يعني: طلبوا منه أن يقيم بهم كل الليل ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة ولم يوافقهم على طلبهم، لما في ذلك من العنت والمشقة.
ومنها: أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحثوا عن عمله في السر يعني: فيما لا يظهر للناس، وهو العمل الذي يفعله في بيته من العبادات فكأنهم تقالُّوها، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعني: وأما هم فلم يكن لهم ذلك فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني فحذرهم أن يعملوا عملاً يشق عليهم.
ومن ذلك أيضاً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أنه ليصومن النهار وليقومن الليل ما عاش، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنت قلت هذا؟ قال: نعم، قال: إنك لا تطيق ذلك ثم أرشده إلى ما هو أفضل وأهون.
والحاصل: أنه يوجد من الصحابة رضي الله عنهم من له همة عالية، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطيعهم في كثير من الأمر، لأن ذلك يشق عليهم لو أنه أطاعهم.
ثم قال : وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ قد يقول قائل: ما هو ارتباط قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ؟
والجواب : أنكم تطيعونه أي: الرسول عليه الصلاة والسلام، فيما يخالفكم فيه، لأن الله حبب إليكم الإيمان، فتقدمون طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما خالفكم فيه، لأن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وهذا استدراك من أبلغ ما يكون من الاستدراك، يعني: ولكن إذا خالفكم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه ولن تحملوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بسببه وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ أي: جعله محبوباً في قلوبكم وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني: جعلكم تحبونه، وزينه في قلوبكم بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به، وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبة عارضة لكن إذا زين له الشيء ثبتت المحبة ودامت، ولهذا قال: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ وهذا في القلب، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أيضاً في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب إلى الإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه.
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ كره إليكم الكفر الذي هو مقابل الإيمان، والفسوق الذي هو مقابل الاستقامة، والعصيان الذي هو مقابل الكمال، وهذا تدرج من الأعلى إلى ما دونه، الكفر أعظم من الفسق، والفسق أعظم من العصيان، فالكفر: هو الخروج من الإسلام بالكلية، وله أسباب معروفة في كتب أهل العلم ذكرها الفقهاء رحمهم الله في باب أحكام المرتد، وأما الفسق فهو دون الكفر لكنه فعل كبيرة، أن يفعل الإنسان كبيرة من الكبائر ولم يتب منها كالزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف وما أشبه ذلك، والعصيان دون هذا، العصيان هو الصغائر التي تكفر بالأعمال الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فالمؤمنون الخلص حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أولئك: المشار إليه من حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ يعني: الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يحسن الإنسان التصرف فيه، ولا يبذله في غير فائدة، والرشد في ولاية النكاح مثلاً: هو أن يكون الولي عارفاً بالكفء ومصالح النكاح، والرشد في الدين: هو الاستقامة على دين الله عز وجل، فهؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون.
وهنا تجدون هذه الأفعال كلها مضافة إلى الله ، حبب من ؟
الطالب : الله.
الشيخ : زينه؟ الله. كره؟ الله عز وجل، ولهذا قال بعدها: فَضْلاً مِنَ اللَّهِ يعني: أن الله أفضل عليكم فضلاً أي: تفضلاً منه وليس بكسبكم ولكنه من الله عز وجل، ولكن ليُعلم أن الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص، فمن علم الله منه حسن النية وحسن القصد والإخلاص حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإن الله تعالى يقول: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ويقول عز وجل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فالذنوب سبب للمخالفة والعصيان، فهؤلاء الذين تفضل الله عليهم وأنعم عليهم نعمة الدين هم الذين وفقوا للحق.
قال الله عز وجل: فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي: إنعاماً منه عليهم.
والنعمة نعمتان: نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخر.
فأما الكفار فهم منعمون في الدنيا كما قال الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ أي: تنعموا، فهؤلاء -أعني: الكفار- عليهم نعمة في الدنيا، لكن في الآخر عليهم العذاب واللعنة والعياذ بالله.
أما المؤمن فإنه يحصل على النعمتين جميعاً على نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، حتى وإن كان فقيراً أو مريضاً أو عقيماً أو لا نسب له، فإنه في نعمة لقول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
هنا قال: فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً المراد بالنعمة هنا نعمة الدين التي تتصل بنعمة الآخرة، وخلاصة الكلام في النعمة: أن هناك نعمتين: نعمة عامة لجميع الخلق، الكافر والمؤمن، والفاسق والمطيع، ونعمة خاصة للمؤمن، وهذه النعمة الخاصة تتصل بنعمة الدين والدنيا، وأما الأولى فإنها خاصة بنعمة الدنيا فقط لتقوم على الكفار الحجة.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هذان اسمان من أسماء الله، يقرن الله بينهما دائماً، العلم والحكمة، عليم بكل شيء قال الله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، والإنسان إذا علم أن علم الله محيط بكل شيء حتى ما يضمره في قلبه فإنه يخاف، ويرهب، ويهرب من الله إليه عز وجل، ولا يقول قولاً يغضب الله، ولا يفعل فعلاً يغضب الله، ولا يضمر عقيدة تغضب الله، لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك لا يخفى عليه.
وأما الحكيم، فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي: أن جميع ما يحكم به جل وعلا موافق مطابق للمصالح، ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة، قال الله تبارك وتعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ وقال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ، وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ هذا معنى الحكيم، أي: ذو الحكمة البالغة.
وله معنى آخر وهو: ذو الحكم التام، فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وقال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ولا أحد يحكم بهواه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ .
نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم برحمته وعفوه، وأن يجعلنا ممن علم وانتفع بعلمه إنه على كل شيء قدير، والآن إلى الأسئلة ونبدأ باليمين.
الفتاوى المشابهة
- تفسير سورة (ق) الآيات (15- 18) وآيات اخرى مخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الذاريات الآيات( 20 - 22 ) وآيات... - ابن عثيمين
- تفسير سورة (ق) الآيات (36- 45) وآيات اخرى مخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الفاتحة الآيات (4-7) وآيات أخرى م... - ابن عثيمين
- تفسير سورة (ق) الآيات (10- 13) وآيات اخرى مخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الفاتحة الآيات (1-3) وآيات اخرى م... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الحجرات الآيات (3-6) وآيات اخرى م... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الحجرات الآيات ( 17- 18 ) وآيات ا... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الحجرات الآية (1) وآيات اخرى مختا... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الحجرات الآيات ( 15- 16 ) وآيات ا... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الحجرات الآيات (7-8) وآيات اخرى م... - ابن عثيمين