تفسير سورة الطور الآيات ( 29 - 36 ) وآيات اخرى مختارة وما يستفاد منها .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : نبتدئ هذا اللقاء بما كنا نبتدئ به اللقاءات السابقة، بالكلام بما تيسر في تفسير الآيات الكريمة التي انتهينا إليها في سورة الطور وهي قوله تبارك وتعالى:
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكِّر والمذكر محذوف، والتقدير: ذكر الناس، أو إن شئت فقل: ذكر من أرسلت إليهم من الجن والإنس.
فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ هذا نفي لما ادعاه المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن أو مجنون، قال الله تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ أي: بإنعام ربك عليك بما أنزل عليك من الوحي لست بكاهن ولا مجنون، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وكانت الكهانة في الجاهلية مشهورة، يكون للإنسان رَئيٌ من الجن يصحبه ويخدمه، ثم يصعد الجني إلى السماء يستمع ما يقال في السماء، وينزل به على هذا الكاهن، فيكون هذا علم غيبٍ عن أهل الأرض، لكن الكاهن يزيد عليه أشياء كثيرة يتخرصها، فإذا وقع ما سمعه من السماء صار عظيماً في قومه، لأنه أخبر عن شيء مستقبل فوقع.
فالكاهن إذن: هو الذي يخبر عن إيش؟ المغيبات في المستقبل، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء بالوحي رده المشركون وكذبوه، وقالوا: إنما جاء به محمد من الكهانة، لأن الكهان يخبرون عن الشيء فيقع، ولأن الكهان أيضاً يأتون بكلامٍ مسجوع يشبه القرآن، والقرآن كا تعلمون آيات مفصلة أتى بها النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في كلام حمل بن النابغة الذي قال: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع.
المهم أنهم يقولون إن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه كاهن، فنفى الله ذلك، ثم قالوا: إنه مجنون يأتي بما لا يُعرف، كذبهم الله فقال: مَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ هذه الجملة منفية مؤكدة بالباء الزائدة إعراباً المفيدة معنىً، بكاهن أصلها: فما أنت بنعمة ربك كاهناً ولا مجنوناً، لكن زيدت الباء توكيداً للنفي.
ثم قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ يعني: بل أيقولون، و أم هذه تسمى عند المعربين منقطعة، يعني لا عاطفة، لأن بل تأتي عاطفة وتأتي منقطعة، فهنا منقطعة، والتقدير: بل أيقولون شاعر، والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار عليهم.
وقوله: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ الشاعر : هو الذي يأتي بكلامٍ مقَفَّى، ويتضمن شعره أحياناً حكماً، ولهذا جاء في الحديث: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة فيقولون: إن محمداً شاعر.
نَتَرَبَّصُ بِهِ أي: ننتظر به، رَيْبَ الْمَنُونِ أي: حوادث الدهر وقوارعه فيهلك كما هلك الشعراء من قبله ولا يكون له أثر، انظروا والعياذ بالله كيف يترقبون موت الرسول عليه الصلاة والسلام، يقولون: هذا شاعر من جنس الشعراء يهلك وينتهي أمره.
وقوله: رَيْبَ الْمَنُونِ قيل: إن المنون هو الدهر، وقيل إن المنون هو: الموت، وهما متلازمان، والمراد بذلك حوادث الدهر المهلكة المبيدة.
قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ في جوابهم تَرَبَّصُوا والأمر هنا للتهديد والتحدي أيضاً، تربصوا بهذا الشاعر ريب المنون، وانظروا هل يموت وتموت دعوته، أو أنكم أنتم تموتون وتموت معارضتكم؟
إذن تربصوا نقول هذا فعل الأمر لإيش؟ للتحدي والتهديد أيضاً، تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ يعني: فأنا منتظر أيضاً، انتظروا أنتم وأنا أنتظر لمن تكون العاقبة، وصارت العاقبة والحمد لله للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ
قال تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أم هنا نقول إنها منقطعة، وأم المنقطعة تقدر يإيش؟ بـبل والهمزة، المعنى: بل أتأمرهم، وهذا انتقال من الأول إلى الثاني، أتأمرهم أحلامهم أي: عقولهم بهذا، فيقولون: إنه مجنون إنه كاهن إنه شاعر، هل عقولهم تأمرهم بهذا؟
الجواب: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ، أي: بل لا تأمرهم عقولهم بهذا، وكثيرٌ منهم يعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حق لكن غلبتهم الكبرياء -والعياذ بالله- فأنكروا وكذبوا، ولهذا قال: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي: معتدون ظالمون، وأصل الطغيان مجاوزة الحد، كما في قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ أي طغا الماء يعني إيش؟ يعني: زاد وارتفع عن عادته، حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ .
بل هم قوم طاغون ويش بعدها ؟ أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم ظاغون
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ هذا أيضاً اضراب آخر، و أم هنا منقطعة بمعنى: بل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون تقوله، أيقولون تقوله أي: اختلقه وكذب به، يعني قسم منهم قالوا: محمد - عليه الصلاة والسلام - تقوَّل هذا القرآن واختلقه من عنده، وبعضهم يقول: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ يعني: بل هم لا يؤمنون، ولو آمنوا لعلموا أن القرآن لا يمكن أن يتقوله بشر، لأن كلام الله عز وجل لا يشبهه أي كلام.
ثم تحداهم، فقال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ يعني: إذا كنت أنت تقولته فأنت مثلهم، بشر تتكلم كما يتكلمون، وتخطب كما يخطبون، وتقول كما يقولون، فإذا كنت متقولاً له وهو من عندك فليأتوا بحديث مثله، لأن البشر يمكن أن يأتي بكلامٍ يشبه كلام البشر الآخر، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم تقوله فهاتوا مثله، فليأتوا واللام هنا للأمر، والمقصود به إيش؟ التحدي والتعجيز، فَلْيَأتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ وهذا غاية التحدي، عجزوا ما استطاعوا أن يأتوا بحديثٍ مثله مع أنهم أمراء البلاغة وسلاطين الفصاحة لكن عجزوا، فماذا يدل عجزهم عليه؟ يدل على أن القرآن ليس من كلام البشر بل هو من كلام الله عز وجل، ولهذا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ومع قوة المعارضة وقوة البلاغة والفصاحة عجزوا أن يأتوا بحديثٍ مثله، ما استطاعوا، فدل ذلك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتقوله، ولم يستطع أن يأتي بمثله.
وفي قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ كلمة: حديث نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، لكن جاء في آية أخرى أن الله قال: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وجاء في آية أخرى الإخبار بأنه لن يستطيع أحدٌ أن يعارض القرآن، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ حتى ولو تعاونوا؟ نعم ولو تعاونوا ولهذا قال: وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً تبين الآن بطلان قولهم: إنه تقوله لماذا ؟ أن الله تحداهم أن يأتوا بمثله ولكن عجزوا، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ أنك تقولته يعني: إن كانوا صادقين في دعواهم أنك تقولته فليأتوا بحديثٍ مثله.
ثم قال الله تعالى مستدلاً بربوبيته على ألوهيته قال: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أم نقول فيها ما سبق، بمعنى: بل والهمزة، بل أخلقوا من غير شيء، أي: من غير خالق، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
والجواب : لا، لا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون، أما كونهم لم يخلقوا من غير خالق فلأن القاعدة العقلية الحسية التي أجمع عليها العقلاء: " أن كل مُحْدَث لا بد له من مُحْدِث " " كل محدث لا بد له من محدث " هذه قاعدة اتفق عليها العقلاء، فإذا كان كل حادثٍ لا بد له من محدث نظرنا في أنفسنا: نحن حادثون أليس كذلك؟ قال الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً الواحد منا الذي عمره عشرون سنة، هو قبل اثنين وعشرين سنة ليس شيئاً مذكوراً، ولا يُعرف ولا يدرى عنه، إذن نحن حادثون، كل حادث يا إخواني لا بد له من محدث، فهل أنتم خلقتم من غير محدث؟ الجواب: لا، هذا جواب عقلي لا ينكر، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ الجواب: لا ولا نعم ؟ لا، لأنهم قبل أن يوجدوا عدماً، وكيف يمكن للعدم أن يخلق؟ ما يمكن هذا، فإذا تبين أنهم لم يخلقوا من غير خالق، وأنهم لم يخلقوا أنفسهم تعين أن يكون لهم خالق قادر على إيجادهم، من؟ الله عز وجل، لا يستطيع أحدٌ منهم أن يقول: إن الذي خلقني أبي أو أمي، لا يستطيع أحد ذلك أن يقول هذا فإذا لم يكن كذلك تعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى، وإذا كان لهم خالق وهم مخلوقون مربوبون مدبرون فالواجب أن يخضعوا لهذا الخالق وأن يعبدوه وحده كما أنه هو الخالق وحده.
هذه الآية سمعها جُبير بن مطعم وكان قد قدم على المدينة وهو مشرك، قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الفداء لأسرى بدر، أظنه لا يخفى كثيراً منكم أن بدراً انتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والحمد لله ونصرهم نصر لنا، قتلوا من قريش سبعين رجلاً وأسروا سبعين رجلاً وجاءوا بهم إلى المدينة، وانقسموا إلى أقسام: منهم من أطلقه النبي عليه الصلاة والسلام ومنَّ عليه، ومنهم من فداه بمال، ومنهم من فداه بأسير إن كان هناك أسير لا أدري، ومنهم من فداه بتعليم أهل المدينة الكتابة.
جبير بن مطعم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب فداء أسرى بدر، لأنه من صميم قريش والأسرى أيضاً من قريش، ويظهر لي والله أعلم: أن جبير أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له لأنكم تعرفون قصة جبير حين رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الطائف أجاره، وصار يمشي معه من حين دخل مكة إلى أن وصل إلى الكعبة، وأمر أبناءه وهم متقلدو السيوف أن يقف كل واحد منهم على ركن من أركان الكعبة حتى لا يعتدي على الرسول أحد، فهو أحسن إلى النبي عليه الصلاة والسلام أبوه.
هذا الإحسان قال النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أوفى الناس عليه الصلاة والسلام بكرمه، قال: لو كان المطعم بن عدي حياً فكلمني في هؤلاء النتنى من هم النتنى؟ الأسرى، ووصفهم بأنهم نتنى لأن المشركين نجس، والنتن: هو الرائحة الكريهة، في هؤلاء النتنى لتركتهم له.
جبير ابنه فعله والله أعلم لعله سمع بهذه المقالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب فداء الأسرى، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بسورة الطور لما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ قال جبير: كاد قلبي يطير، لأن هذه حجة ملزمة لا يمكن أن يتخلص منها أحد، قال: ووقر الإيمان في قلبي، يعني معناه أنه دخل الإيمان في قلبه، سبحان الله! انظر تأثير القرآن الكريم مع أنه ما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة لكن سمع هذه الآية العجيبة العظيمة فكاد قلبه يطير، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
الجواب بكل سهولة إيش؟ لا في الأمرين، لا خلقوا من غير شيء، ولا هم الخالقون، بل لهم خالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يمكن أن ينكر هاتين المقدمتين، كلها حجة قطعية تدمغ كل كافر، لأنه إذا قال: نعم وله خالق خلقه قلنا: إذن لماذا لا تعبده لأنك عبدٌ له مملوكٌ له؟
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ انتقل من الأدنى إلى الأعلى، خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فانتقل من الأدنى إلى الأعلى، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
الجواب : لا، لأن أم هنا مثل سابقاتها، بل أخلقوا السماوات والأرض، والجواب: لا، حتى هم يقرون بهذا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ يقرون بهذا، لكن مع ذلك ما يعترفون بالرسالة، ولهذا قال: بَلْ لا يُوقِنُونَ يعني: ليس عندهم إيقان في خلق السماوات والأرض أن الذي خلقهم هو الله، لأنه لو كان عندهم يقين لحملهم هذا اليقين على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار برسالته.
ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على ما تبقى من هذه الإلزامات العظيمة التي ألزم الله بها قريشاً كل هذا من أجل إقامة الحجة عليهم، ولو شاء سبحانه وتعال0ى لعاقبهم بدون أن يكون هذه المجادلة أو هذه المناقشة.
نبدأ الآن بالأسئلة من الجانب الأيمن .
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكِّر والمذكر محذوف، والتقدير: ذكر الناس، أو إن شئت فقل: ذكر من أرسلت إليهم من الجن والإنس.
فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ هذا نفي لما ادعاه المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن أو مجنون، قال الله تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ أي: بإنعام ربك عليك بما أنزل عليك من الوحي لست بكاهن ولا مجنون، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وكانت الكهانة في الجاهلية مشهورة، يكون للإنسان رَئيٌ من الجن يصحبه ويخدمه، ثم يصعد الجني إلى السماء يستمع ما يقال في السماء، وينزل به على هذا الكاهن، فيكون هذا علم غيبٍ عن أهل الأرض، لكن الكاهن يزيد عليه أشياء كثيرة يتخرصها، فإذا وقع ما سمعه من السماء صار عظيماً في قومه، لأنه أخبر عن شيء مستقبل فوقع.
فالكاهن إذن: هو الذي يخبر عن إيش؟ المغيبات في المستقبل، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء بالوحي رده المشركون وكذبوه، وقالوا: إنما جاء به محمد من الكهانة، لأن الكهان يخبرون عن الشيء فيقع، ولأن الكهان أيضاً يأتون بكلامٍ مسجوع يشبه القرآن، والقرآن كا تعلمون آيات مفصلة أتى بها النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في كلام حمل بن النابغة الذي قال: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع.
المهم أنهم يقولون إن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه كاهن، فنفى الله ذلك، ثم قالوا: إنه مجنون يأتي بما لا يُعرف، كذبهم الله فقال: مَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ هذه الجملة منفية مؤكدة بالباء الزائدة إعراباً المفيدة معنىً، بكاهن أصلها: فما أنت بنعمة ربك كاهناً ولا مجنوناً، لكن زيدت الباء توكيداً للنفي.
ثم قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ يعني: بل أيقولون، و أم هذه تسمى عند المعربين منقطعة، يعني لا عاطفة، لأن بل تأتي عاطفة وتأتي منقطعة، فهنا منقطعة، والتقدير: بل أيقولون شاعر، والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار عليهم.
وقوله: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ الشاعر : هو الذي يأتي بكلامٍ مقَفَّى، ويتضمن شعره أحياناً حكماً، ولهذا جاء في الحديث: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة فيقولون: إن محمداً شاعر.
نَتَرَبَّصُ بِهِ أي: ننتظر به، رَيْبَ الْمَنُونِ أي: حوادث الدهر وقوارعه فيهلك كما هلك الشعراء من قبله ولا يكون له أثر، انظروا والعياذ بالله كيف يترقبون موت الرسول عليه الصلاة والسلام، يقولون: هذا شاعر من جنس الشعراء يهلك وينتهي أمره.
وقوله: رَيْبَ الْمَنُونِ قيل: إن المنون هو الدهر، وقيل إن المنون هو: الموت، وهما متلازمان، والمراد بذلك حوادث الدهر المهلكة المبيدة.
قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ في جوابهم تَرَبَّصُوا والأمر هنا للتهديد والتحدي أيضاً، تربصوا بهذا الشاعر ريب المنون، وانظروا هل يموت وتموت دعوته، أو أنكم أنتم تموتون وتموت معارضتكم؟
إذن تربصوا نقول هذا فعل الأمر لإيش؟ للتحدي والتهديد أيضاً، تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ يعني: فأنا منتظر أيضاً، انتظروا أنتم وأنا أنتظر لمن تكون العاقبة، وصارت العاقبة والحمد لله للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ
قال تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أم هنا نقول إنها منقطعة، وأم المنقطعة تقدر يإيش؟ بـبل والهمزة، المعنى: بل أتأمرهم، وهذا انتقال من الأول إلى الثاني، أتأمرهم أحلامهم أي: عقولهم بهذا، فيقولون: إنه مجنون إنه كاهن إنه شاعر، هل عقولهم تأمرهم بهذا؟
الجواب: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ، أي: بل لا تأمرهم عقولهم بهذا، وكثيرٌ منهم يعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حق لكن غلبتهم الكبرياء -والعياذ بالله- فأنكروا وكذبوا، ولهذا قال: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي: معتدون ظالمون، وأصل الطغيان مجاوزة الحد، كما في قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ أي طغا الماء يعني إيش؟ يعني: زاد وارتفع عن عادته، حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ .
بل هم قوم طاغون ويش بعدها ؟ أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم ظاغون
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ هذا أيضاً اضراب آخر، و أم هنا منقطعة بمعنى: بل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون تقوله، أيقولون تقوله أي: اختلقه وكذب به، يعني قسم منهم قالوا: محمد - عليه الصلاة والسلام - تقوَّل هذا القرآن واختلقه من عنده، وبعضهم يقول: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ يعني: بل هم لا يؤمنون، ولو آمنوا لعلموا أن القرآن لا يمكن أن يتقوله بشر، لأن كلام الله عز وجل لا يشبهه أي كلام.
ثم تحداهم، فقال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ يعني: إذا كنت أنت تقولته فأنت مثلهم، بشر تتكلم كما يتكلمون، وتخطب كما يخطبون، وتقول كما يقولون، فإذا كنت متقولاً له وهو من عندك فليأتوا بحديث مثله، لأن البشر يمكن أن يأتي بكلامٍ يشبه كلام البشر الآخر، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم تقوله فهاتوا مثله، فليأتوا واللام هنا للأمر، والمقصود به إيش؟ التحدي والتعجيز، فَلْيَأتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ وهذا غاية التحدي، عجزوا ما استطاعوا أن يأتوا بحديثٍ مثله مع أنهم أمراء البلاغة وسلاطين الفصاحة لكن عجزوا، فماذا يدل عجزهم عليه؟ يدل على أن القرآن ليس من كلام البشر بل هو من كلام الله عز وجل، ولهذا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ومع قوة المعارضة وقوة البلاغة والفصاحة عجزوا أن يأتوا بحديثٍ مثله، ما استطاعوا، فدل ذلك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتقوله، ولم يستطع أن يأتي بمثله.
وفي قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ كلمة: حديث نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، لكن جاء في آية أخرى أن الله قال: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وجاء في آية أخرى الإخبار بأنه لن يستطيع أحدٌ أن يعارض القرآن، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ حتى ولو تعاونوا؟ نعم ولو تعاونوا ولهذا قال: وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً تبين الآن بطلان قولهم: إنه تقوله لماذا ؟ أن الله تحداهم أن يأتوا بمثله ولكن عجزوا، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ أنك تقولته يعني: إن كانوا صادقين في دعواهم أنك تقولته فليأتوا بحديثٍ مثله.
ثم قال الله تعالى مستدلاً بربوبيته على ألوهيته قال: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أم نقول فيها ما سبق، بمعنى: بل والهمزة، بل أخلقوا من غير شيء، أي: من غير خالق، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
والجواب : لا، لا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون، أما كونهم لم يخلقوا من غير خالق فلأن القاعدة العقلية الحسية التي أجمع عليها العقلاء: " أن كل مُحْدَث لا بد له من مُحْدِث " " كل محدث لا بد له من محدث " هذه قاعدة اتفق عليها العقلاء، فإذا كان كل حادثٍ لا بد له من محدث نظرنا في أنفسنا: نحن حادثون أليس كذلك؟ قال الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً الواحد منا الذي عمره عشرون سنة، هو قبل اثنين وعشرين سنة ليس شيئاً مذكوراً، ولا يُعرف ولا يدرى عنه، إذن نحن حادثون، كل حادث يا إخواني لا بد له من محدث، فهل أنتم خلقتم من غير محدث؟ الجواب: لا، هذا جواب عقلي لا ينكر، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ الجواب: لا ولا نعم ؟ لا، لأنهم قبل أن يوجدوا عدماً، وكيف يمكن للعدم أن يخلق؟ ما يمكن هذا، فإذا تبين أنهم لم يخلقوا من غير خالق، وأنهم لم يخلقوا أنفسهم تعين أن يكون لهم خالق قادر على إيجادهم، من؟ الله عز وجل، لا يستطيع أحدٌ منهم أن يقول: إن الذي خلقني أبي أو أمي، لا يستطيع أحد ذلك أن يقول هذا فإذا لم يكن كذلك تعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى، وإذا كان لهم خالق وهم مخلوقون مربوبون مدبرون فالواجب أن يخضعوا لهذا الخالق وأن يعبدوه وحده كما أنه هو الخالق وحده.
هذه الآية سمعها جُبير بن مطعم وكان قد قدم على المدينة وهو مشرك، قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الفداء لأسرى بدر، أظنه لا يخفى كثيراً منكم أن بدراً انتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والحمد لله ونصرهم نصر لنا، قتلوا من قريش سبعين رجلاً وأسروا سبعين رجلاً وجاءوا بهم إلى المدينة، وانقسموا إلى أقسام: منهم من أطلقه النبي عليه الصلاة والسلام ومنَّ عليه، ومنهم من فداه بمال، ومنهم من فداه بأسير إن كان هناك أسير لا أدري، ومنهم من فداه بتعليم أهل المدينة الكتابة.
جبير بن مطعم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب فداء أسرى بدر، لأنه من صميم قريش والأسرى أيضاً من قريش، ويظهر لي والله أعلم: أن جبير أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له لأنكم تعرفون قصة جبير حين رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الطائف أجاره، وصار يمشي معه من حين دخل مكة إلى أن وصل إلى الكعبة، وأمر أبناءه وهم متقلدو السيوف أن يقف كل واحد منهم على ركن من أركان الكعبة حتى لا يعتدي على الرسول أحد، فهو أحسن إلى النبي عليه الصلاة والسلام أبوه.
هذا الإحسان قال النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أوفى الناس عليه الصلاة والسلام بكرمه، قال: لو كان المطعم بن عدي حياً فكلمني في هؤلاء النتنى من هم النتنى؟ الأسرى، ووصفهم بأنهم نتنى لأن المشركين نجس، والنتن: هو الرائحة الكريهة، في هؤلاء النتنى لتركتهم له.
جبير ابنه فعله والله أعلم لعله سمع بهذه المقالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب فداء الأسرى، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بسورة الطور لما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ قال جبير: كاد قلبي يطير، لأن هذه حجة ملزمة لا يمكن أن يتخلص منها أحد، قال: ووقر الإيمان في قلبي، يعني معناه أنه دخل الإيمان في قلبه، سبحان الله! انظر تأثير القرآن الكريم مع أنه ما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة لكن سمع هذه الآية العجيبة العظيمة فكاد قلبه يطير، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
الجواب بكل سهولة إيش؟ لا في الأمرين، لا خلقوا من غير شيء، ولا هم الخالقون، بل لهم خالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يمكن أن ينكر هاتين المقدمتين، كلها حجة قطعية تدمغ كل كافر، لأنه إذا قال: نعم وله خالق خلقه قلنا: إذن لماذا لا تعبده لأنك عبدٌ له مملوكٌ له؟
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ انتقل من الأدنى إلى الأعلى، خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فانتقل من الأدنى إلى الأعلى، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
الجواب : لا، لأن أم هنا مثل سابقاتها، بل أخلقوا السماوات والأرض، والجواب: لا، حتى هم يقرون بهذا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ يقرون بهذا، لكن مع ذلك ما يعترفون بالرسالة، ولهذا قال: بَلْ لا يُوقِنُونَ يعني: ليس عندهم إيقان في خلق السماوات والأرض أن الذي خلقهم هو الله، لأنه لو كان عندهم يقين لحملهم هذا اليقين على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار برسالته.
ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على ما تبقى من هذه الإلزامات العظيمة التي ألزم الله بها قريشاً كل هذا من أجل إقامة الحجة عليهم، ولو شاء سبحانه وتعال0ى لعاقبهم بدون أن يكون هذه المجادلة أو هذه المناقشة.
نبدأ الآن بالأسئلة من الجانب الأيمن .
الفتاوى المشابهة
- تفسير سورة الحجرات الآية (1) وآيات اخرى مختا... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الطور الآيات ( 20 - 28 ) وآيات اخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة (ق) الآيات (10- 13) وآيات اخرى مخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة (ق) الآيات (6- 9) وآيات اخرى مختا... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الطور الآيات (17- 19) وآيات اخرى... - ابن عثيمين
- تفسير سورة (ق) الآيات (15- 18) وآيات اخرى مخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الطور الآيات (9- 16) وآيات اخرى م... - ابن عثيمين
- تفسير سورة (ق) الآيات (36- 45) وآيات اخرى مخ... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الطور الآيات ( 1- 8 ) وآيات اخرى... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الطور الآيات ( 37- الى نهاية السو... - ابن عثيمين
- تفسير سورة الطور الآيات ( 29 - 36 ) وآيات اخ... - ابن عثيمين