فوائد حديث ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحوم الغنم ...).
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : ففي هذا الحديث فوائد كثيرة :
منها : حرص الصحابة رضي الله عنهم على تعلم العلم ، ولهذا لا يدعون صغيرة ولا كبيرة يحتاجون إليها في الدين إلا سألوا عنها، ومن تتبع الأسئلة الواردة من الصحابة على النبي عليه الصلاة والسلام تبين له أن قول بعض الجهال : إن الصحابة رضي الله عنهم لم يتعمقوا في العلم ولا في السؤال عنه قول باطل ، لكنهم لم يتعمقوا تعمق المتأخرين الذين يضربون الأمثال ويصورون الصور البعيدة الوقوع ، بل الممتنعة الوقوع ، الصحابة رضي الله عنهم يأتون الأمور بظاهرها ولا يتعمقون لكنهم موفقون للعلم الصحيح .
ومن فوائد هذا الحديث : أن لحم الغنم لا يجب الوضوء منه سواء كان نياً أو مطبوخًا، وجه الدلالة : الإطلاق، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل والسائل لم يستفصل، فمن أكل لحم غنم نيئا كان أو مطبوخا لم يجب عليه الوضوء.
فإن قال قائل : أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : توضؤوا مما مست النار ؟
قلنا : بلى، لكن هذا الحديث ورد ما يدل على أنه ليس بواجب ، أعني : الوضوء مما مست النار لقول جابر أظنه جابراً : كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار : تركَ الوضوء ، وهذا الترك لبيان الجواز ، وعليه فيكون قوله : إن شئت عاماً للحم المطبوخ واللحم النيء .
ومن فوائد هذا الحديث : إثبات المشيئة للعبد ، وأن العبد له مشيئة تامة ، لقوله : إن شئت ، وفي هذا رد على طائفة مبتدعة مخالفة للمعقول والمنقول والمحسوس ، ألا وهي : الجبرية الذين يقولون : الإنسان ليس له مشيئة، وإنما يعمل اضطرارًا لا اختيارًا، ولما قيل لهم : إن هذا يستلزم أن يكون الله تعالى ظالما إذا عاقبه على معصية لم يردها ، قالوا : إن هذا ظلم لو كان الفاعل يتصرف في غير ملكه ، أما إذا كان يتصرف في ملكه فليس بظلم ، وهذا لا شك أنه قول باطل لأن الله سبحانه وتعالى قال عن نفسه : ولا يظلم ربك أحدًا ، وقال في الحديث القدسي : إني حرمت الظلم على نفسي : وفي هذا دليل على إمكانه ، لو شاء لظلم ، لكنه عز وجل لا يظلم، فدل ذلك على أن قولهم هذا باطل ، وأن الإنسان له مشيئة.
ولكننا ننكر قولا آخر مضادا له ألا وهو : قول القدرية الذين يقولون : إن الإنسان مستقل بإرادته ومشيئته ، لأننا نعلم أن إرادة العبد ومشيئته من إرادة الله عز وجل ، أي : تابعة لإرادة الله ، وليس مستقلا ، والإنسان يريد الشيء ويعزم عليه ويؤكده ويأتيه مانع من الله عز وجل إما بصرف الهمة وإما بوجود مانع خارجي لا يستطيع معه أن يفعل ، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله ، وفائدة القول بأننا نقول: أنها تابعة لمشيئة الله : أننا نعلم أن العبد متى شاء شيئا فقد شاءه الله عز وجل ، فإذا وقع تحققنا ذلك ، أما مجرد مشيئة العبد فالعبد قد يشاء ومشيئته هذه لا شك أنها من مشيئة الله لكن قد يقع وقد لا يقع ، لأنه قد تحصل موانع تمنع الإنسان من فعل ما أراد.
وفي هذا أيضا دليل على أن الشيء يكون جائزا شرعا فلا يسمى الفاعل مبتدعا ولكنه لا يطلب من الإنسان، الرسول عليه الصلاة والسلام قال له : إن شئت ، وهذا الذي قلته أنا له دليل :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلا على سرية فجعل يقرأ لأصحابه ويختم بـــــ قل هو الله أحد ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم ينكر عليه ، فدل ذلك على أن مثل هذا الفعل لا يسمى بدعة في دين الله، ولا يأثم به الإنسان ، لكن هل نقول : إنه سنة ، وأنه ينبغي للإنسان إذا قرأ في الصلاة أن يختم بـــــ قل هو الله أحد ؟
لا نقول هذا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولم يأمر به الأمة ، غاية ما هنالك أنه أقر هذا الرجل على هذا الفعل فيكون مباحًا ، وكذلك سعد بن عبادة سأله أيتصدق بمخرافه أي : ببستانه ونخله على أمه بعد موتها ؟ قال : نعم ، لكن هل نقول : إن هذا سنة ؟
لا ، ولهذا لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بر الوالدين بعد موتهما ما ذكر الصدقة : ذكر الدعاء والاستغفار وإكرام الصديق وصلة الرحم ، ولم يذكر الصدقة ، ولو كانت الصدقة عن الأموات مشروعة بمعنى أنها مطلوبة من المكلَّف لثبت ذلك بالسنة القولية أو الفعلية ، لكن لا نقول لمن تصدق عن والديه : إنك مبتدع ، بل نقول : هذا شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا بأس به .
ففرق بين أن نقول : هذا سنة مشروع للأمة أن تقوم به ، وبين أن نقول : إن هذا لو فعله الفاعل فهو جائز.
إذًا نأخذ من هذا الحديث ومن أحاديث أخرى ما قررناه الآن .
ومن فوائد هذا الحديث : وجوب الوضوء من لحم الإبل ، لقوله : نعم . فإن قال قائل : إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام : نعم تعطي الرخصة من وضوء الإبل ، لأن الرجل سأل أتوضأ قال : نعم ، يعني ما في بأس أليس كذلك ؟
الطالب : بلى .
الشيخ : متأكدون ؟
نعم هذا مقتضى اللفظ لو قدرناه من منفصل عن الأول : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم يعني ما فيه مانع ، لكن إذا قارنا قول : نعم بقوله في لحم الغنم : إن شئت دل ذلك على أن المعنى أنه ليس راجعا إلى مشيئتك، بل يجب أن تتوضأ، وهو كذلك، ويؤيده أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحم الإبل، فقد أمر بالوضوء من لحم الإبل، فإذا اجتمع هذا وهذا علمنا أنه أي : لحم الإبل ناقض للوضوء، وأن من أكل وجب عليه الوضوء. يبقى النظر هل هذا يشمل النيء والمطبوخ ؟
الجواب : نعم ، يشمل النيء والمطبوخ .
فإذا قال قائل : هذا الحديث منسوخ بحديث جابر : كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ؟
قلنا : سبحان الله النسخ لا يمكن أن يقام إلا بشرطين :
العلم بالتاريخ ، وتعذر الجمع ، وهنا لا علم لنا بالتاريخ ولا يتعذر الجمع ، لأن الأول ترك الوضوء مما مست النار ناسخ لقوله : توضؤوا مما مست النار هذا هو الذي يقابل هذا ، وكلمة مست النار يشمل اللحم ، لحم الإبل والغنم والبقر والطيور بل والخبز ، لكن الله خفف والحمد لله على الأمة ونُسخ هذا .
أما أن ينسخ شيئا خاصا فهذا ليس بصواب ، فالحديث محكم ثابت.
فإن قال قائل : اللحم هل يشمل اللحم الأحمر والأبيض والأسود كالكبد وغير ذلك ؟
فالجواب : نعم .
فإذا قال قائل : هذا خلاف العرف لأنك لو قلت للخادم : خذ هذا اشتر به لحما وأتى إليك بمصران امتثل أو لم يمتثل ؟
ما يمتثل ، لا يمتثل ، إذًا المصران لا تدخل في اللحم .
لو أتى إليك بكبد ؟
لم يمتثل ، فيقال : الحقائق الشرعية ليست هي الحقائق العرفية .
الشاة عندنا في العرف ما هي ؟
الأنثى من الضأن ، وفي الشرع تشمل الأنثى من الضأن والمعز والذكر من الضأن والمعز ، ففرق بين الحقائق الشرعية والعرفية ، فرق بينهما ، والشارع يحمل كلامه على الحقائق الشرعية ، لأنه يتكلم بلسان الشارع فيكون شاملا. ثم نقول : هل تقولون إن لحم الخنزير في قوله : ولحم الخنزير خاص باللحم الأحمر ؟
فسيقولون : لا، عام، وهذا أيضًا مثله عام، ولا فرق.
ثالثًا : نقول : لا يوجد في الشريعة الإسلامية حيوان تتبعض أحكامه بحسب أجزائه أبدًا، هذا وجد في الشريعة اليهودية، حرم الله عليهم سبحانه وتعالى بعض الحيوان، بعض أجزاء الحيوان لظلمهم : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وبين ذلك في قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظُفُر هذه واضحة ، حرم كل الحيوان، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم :
فهذا حيوان واحد اختلفت أحكامه بحسب أجزائه لكن في الشريعة الإسلامية لا يمكن ، فلو قلنا بما قال به بعض العلماء رحمهم الله إنه لا ينقض من لحم الإبل إلا اللحم الأحمر ، لزم من ذلك تبعض الأحكام في حيوان واحد ، فهذا إذا أكل من الكبد نقول : صل بلا وضوء ما دمت على وضوئك الأول ، والثاني الذي أكل من اللحم الأحمر توضأ وهو حيوان واحد يسقى بماء واحد ويتغذى بغذاء واحد فلا فرق .
فإن قال قائل : يلزم على قياسكم هذا على لحم الخنزير أن توجبوا الوضوء من المرق ومن اللبن ؟
فالجواب : التزم بهذا بعض العلماء ، وقال : يجب الوضوء من مرق لحم الإبل ومن ألبان الإبل ، وهذا اللزوم يدفع الاعتراض الذي اعترض به من منع القياس على لحم الخنزير .
لكن نقول : إنه قد دل الدليل على أن الوضوء من ألبان الإبل ليس بواجب في قصة العرنيين الذين اجتووا المدينة وأصابهم مرض فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها ولم يقل : توضؤوا ، مع أن المقام يقتضي أن يقوله لو كان الوضوء واجبا إذ أنهم قوم جهال بالشريعة يحتاجون إلى بيان ، فهذا هو الذي منعنا أن نوجب الوضوء من ألبان الإبل والمرق من باب أولى لا يجب .
فإن قال قائل : إذا أكل شيئا يسيرا إذا أكل شيئا يسيرا كرأس العصفور يتوضأ أو لا ؟
الطالب : يتوضأ .
الشيخ : يتوضأ ؟ نعم يتوضأ ، هل يمكن أن نقول : إذا أكل ما يفطر به الصائم توضأ يعني بمعنى ولو يسيرا حتى لو كان خلال الأسنان ؟
الجواب : هذا هو الظاهر ، الجواب حتى هذا ما دام أكل شيئا له جرم يصل إلى المعدة فإنه يجب عليه أن يتوضأ.
فإن قال قائل : فهمنا الحكم وسلمنا ورضينا وقلنا : لله تعالى أن يحكم بما شاء فهل تلحقون بلحم الإبل لحم البقر لأن كلا منهما يجزئ عن سبع شياه ؟
فالجواب : لا ، لا نلحقه به لأن هذا حكم خاص في الإبل فلا نلحق البقر بذلك.
طيب هل تلحقون بذلك اللحم الحرام كما لو اضطر الإنسان إلى أكل لحم الخنزير فأكل ؟
الجواب : لا، لأنه ليست العلة نجاسة لحم الإبل حتى نلحق هذا بهذا .
فإن قال قائل : ما العلة إذًا ؟
نقول : عندنا علة لا أحد ينكرها وهي: أن هذا حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذه هي العلة، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم هو العلة وهو الحكمة، ولهذا استدلت عائشة رضي الله عنها بهذا الدليل نفسه حين سألتها المرأة : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، إذًا الحكم وهو وجوب الوضوء من لحم الإبل يعتبر من الأحكام التعبدية التي ليس للإنسان فيها إلا التسليم والانقياد بقطع النظر عن كونه يعرف أو لا يعرف، أفهمتم؟ مع أن بعض العلماء -رحمهم الله- أراد أن يستنبط علة هي في الحقيقة عميقة، فقال : إنه ثبت أن الإبل خلقت من الشياطين ، يعني أن طبيعتها الشيطنة، وليس المعنى أن الشيطان أب لها أو أم لها، لا، كقوله : خلق الإنسان من عجل المعنى: أن طبيعته العجلة، هذا أيضًا مثله: خلقت الإبل من الشياطين يعني: أن طبيعتها الشيطنة، وصاحبها يكون عنده الفخر والخيلاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل ، هذه الطبيعة التي فيها قد توجب للإنسان أن يكتسب من هذا، يكتسب من هذا الفخر والعلو والزهو، والماء يبرد الجسم ويخفف الحرارة، ولهذا أُمر الإنسان إذا غضب أن يتوضأ لإطفاء حرارة الغضب، فإن كانت العلة هذه، فهذه العلة تعتبر كسباً، وإن لم تكن إياها فالعلة أَمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
منها : حرص الصحابة رضي الله عنهم على تعلم العلم ، ولهذا لا يدعون صغيرة ولا كبيرة يحتاجون إليها في الدين إلا سألوا عنها، ومن تتبع الأسئلة الواردة من الصحابة على النبي عليه الصلاة والسلام تبين له أن قول بعض الجهال : إن الصحابة رضي الله عنهم لم يتعمقوا في العلم ولا في السؤال عنه قول باطل ، لكنهم لم يتعمقوا تعمق المتأخرين الذين يضربون الأمثال ويصورون الصور البعيدة الوقوع ، بل الممتنعة الوقوع ، الصحابة رضي الله عنهم يأتون الأمور بظاهرها ولا يتعمقون لكنهم موفقون للعلم الصحيح .
ومن فوائد هذا الحديث : أن لحم الغنم لا يجب الوضوء منه سواء كان نياً أو مطبوخًا، وجه الدلالة : الإطلاق، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل والسائل لم يستفصل، فمن أكل لحم غنم نيئا كان أو مطبوخا لم يجب عليه الوضوء.
فإن قال قائل : أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : توضؤوا مما مست النار ؟
قلنا : بلى، لكن هذا الحديث ورد ما يدل على أنه ليس بواجب ، أعني : الوضوء مما مست النار لقول جابر أظنه جابراً : كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار : تركَ الوضوء ، وهذا الترك لبيان الجواز ، وعليه فيكون قوله : إن شئت عاماً للحم المطبوخ واللحم النيء .
ومن فوائد هذا الحديث : إثبات المشيئة للعبد ، وأن العبد له مشيئة تامة ، لقوله : إن شئت ، وفي هذا رد على طائفة مبتدعة مخالفة للمعقول والمنقول والمحسوس ، ألا وهي : الجبرية الذين يقولون : الإنسان ليس له مشيئة، وإنما يعمل اضطرارًا لا اختيارًا، ولما قيل لهم : إن هذا يستلزم أن يكون الله تعالى ظالما إذا عاقبه على معصية لم يردها ، قالوا : إن هذا ظلم لو كان الفاعل يتصرف في غير ملكه ، أما إذا كان يتصرف في ملكه فليس بظلم ، وهذا لا شك أنه قول باطل لأن الله سبحانه وتعالى قال عن نفسه : ولا يظلم ربك أحدًا ، وقال في الحديث القدسي : إني حرمت الظلم على نفسي : وفي هذا دليل على إمكانه ، لو شاء لظلم ، لكنه عز وجل لا يظلم، فدل ذلك على أن قولهم هذا باطل ، وأن الإنسان له مشيئة.
ولكننا ننكر قولا آخر مضادا له ألا وهو : قول القدرية الذين يقولون : إن الإنسان مستقل بإرادته ومشيئته ، لأننا نعلم أن إرادة العبد ومشيئته من إرادة الله عز وجل ، أي : تابعة لإرادة الله ، وليس مستقلا ، والإنسان يريد الشيء ويعزم عليه ويؤكده ويأتيه مانع من الله عز وجل إما بصرف الهمة وإما بوجود مانع خارجي لا يستطيع معه أن يفعل ، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله ، وفائدة القول بأننا نقول: أنها تابعة لمشيئة الله : أننا نعلم أن العبد متى شاء شيئا فقد شاءه الله عز وجل ، فإذا وقع تحققنا ذلك ، أما مجرد مشيئة العبد فالعبد قد يشاء ومشيئته هذه لا شك أنها من مشيئة الله لكن قد يقع وقد لا يقع ، لأنه قد تحصل موانع تمنع الإنسان من فعل ما أراد.
وفي هذا أيضا دليل على أن الشيء يكون جائزا شرعا فلا يسمى الفاعل مبتدعا ولكنه لا يطلب من الإنسان، الرسول عليه الصلاة والسلام قال له : إن شئت ، وهذا الذي قلته أنا له دليل :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلا على سرية فجعل يقرأ لأصحابه ويختم بـــــ قل هو الله أحد ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم ينكر عليه ، فدل ذلك على أن مثل هذا الفعل لا يسمى بدعة في دين الله، ولا يأثم به الإنسان ، لكن هل نقول : إنه سنة ، وأنه ينبغي للإنسان إذا قرأ في الصلاة أن يختم بـــــ قل هو الله أحد ؟
لا نقول هذا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولم يأمر به الأمة ، غاية ما هنالك أنه أقر هذا الرجل على هذا الفعل فيكون مباحًا ، وكذلك سعد بن عبادة سأله أيتصدق بمخرافه أي : ببستانه ونخله على أمه بعد موتها ؟ قال : نعم ، لكن هل نقول : إن هذا سنة ؟
لا ، ولهذا لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بر الوالدين بعد موتهما ما ذكر الصدقة : ذكر الدعاء والاستغفار وإكرام الصديق وصلة الرحم ، ولم يذكر الصدقة ، ولو كانت الصدقة عن الأموات مشروعة بمعنى أنها مطلوبة من المكلَّف لثبت ذلك بالسنة القولية أو الفعلية ، لكن لا نقول لمن تصدق عن والديه : إنك مبتدع ، بل نقول : هذا شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا بأس به .
ففرق بين أن نقول : هذا سنة مشروع للأمة أن تقوم به ، وبين أن نقول : إن هذا لو فعله الفاعل فهو جائز.
إذًا نأخذ من هذا الحديث ومن أحاديث أخرى ما قررناه الآن .
ومن فوائد هذا الحديث : وجوب الوضوء من لحم الإبل ، لقوله : نعم . فإن قال قائل : إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام : نعم تعطي الرخصة من وضوء الإبل ، لأن الرجل سأل أتوضأ قال : نعم ، يعني ما في بأس أليس كذلك ؟
الطالب : بلى .
الشيخ : متأكدون ؟
نعم هذا مقتضى اللفظ لو قدرناه من منفصل عن الأول : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم يعني ما فيه مانع ، لكن إذا قارنا قول : نعم بقوله في لحم الغنم : إن شئت دل ذلك على أن المعنى أنه ليس راجعا إلى مشيئتك، بل يجب أن تتوضأ، وهو كذلك، ويؤيده أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحم الإبل، فقد أمر بالوضوء من لحم الإبل، فإذا اجتمع هذا وهذا علمنا أنه أي : لحم الإبل ناقض للوضوء، وأن من أكل وجب عليه الوضوء. يبقى النظر هل هذا يشمل النيء والمطبوخ ؟
الجواب : نعم ، يشمل النيء والمطبوخ .
فإذا قال قائل : هذا الحديث منسوخ بحديث جابر : كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ؟
قلنا : سبحان الله النسخ لا يمكن أن يقام إلا بشرطين :
العلم بالتاريخ ، وتعذر الجمع ، وهنا لا علم لنا بالتاريخ ولا يتعذر الجمع ، لأن الأول ترك الوضوء مما مست النار ناسخ لقوله : توضؤوا مما مست النار هذا هو الذي يقابل هذا ، وكلمة مست النار يشمل اللحم ، لحم الإبل والغنم والبقر والطيور بل والخبز ، لكن الله خفف والحمد لله على الأمة ونُسخ هذا .
أما أن ينسخ شيئا خاصا فهذا ليس بصواب ، فالحديث محكم ثابت.
فإن قال قائل : اللحم هل يشمل اللحم الأحمر والأبيض والأسود كالكبد وغير ذلك ؟
فالجواب : نعم .
فإذا قال قائل : هذا خلاف العرف لأنك لو قلت للخادم : خذ هذا اشتر به لحما وأتى إليك بمصران امتثل أو لم يمتثل ؟
ما يمتثل ، لا يمتثل ، إذًا المصران لا تدخل في اللحم .
لو أتى إليك بكبد ؟
لم يمتثل ، فيقال : الحقائق الشرعية ليست هي الحقائق العرفية .
الشاة عندنا في العرف ما هي ؟
الأنثى من الضأن ، وفي الشرع تشمل الأنثى من الضأن والمعز والذكر من الضأن والمعز ، ففرق بين الحقائق الشرعية والعرفية ، فرق بينهما ، والشارع يحمل كلامه على الحقائق الشرعية ، لأنه يتكلم بلسان الشارع فيكون شاملا. ثم نقول : هل تقولون إن لحم الخنزير في قوله : ولحم الخنزير خاص باللحم الأحمر ؟
فسيقولون : لا، عام، وهذا أيضًا مثله عام، ولا فرق.
ثالثًا : نقول : لا يوجد في الشريعة الإسلامية حيوان تتبعض أحكامه بحسب أجزائه أبدًا، هذا وجد في الشريعة اليهودية، حرم الله عليهم سبحانه وتعالى بعض الحيوان، بعض أجزاء الحيوان لظلمهم : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وبين ذلك في قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظُفُر هذه واضحة ، حرم كل الحيوان، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم :
فهذا حيوان واحد اختلفت أحكامه بحسب أجزائه لكن في الشريعة الإسلامية لا يمكن ، فلو قلنا بما قال به بعض العلماء رحمهم الله إنه لا ينقض من لحم الإبل إلا اللحم الأحمر ، لزم من ذلك تبعض الأحكام في حيوان واحد ، فهذا إذا أكل من الكبد نقول : صل بلا وضوء ما دمت على وضوئك الأول ، والثاني الذي أكل من اللحم الأحمر توضأ وهو حيوان واحد يسقى بماء واحد ويتغذى بغذاء واحد فلا فرق .
فإن قال قائل : يلزم على قياسكم هذا على لحم الخنزير أن توجبوا الوضوء من المرق ومن اللبن ؟
فالجواب : التزم بهذا بعض العلماء ، وقال : يجب الوضوء من مرق لحم الإبل ومن ألبان الإبل ، وهذا اللزوم يدفع الاعتراض الذي اعترض به من منع القياس على لحم الخنزير .
لكن نقول : إنه قد دل الدليل على أن الوضوء من ألبان الإبل ليس بواجب في قصة العرنيين الذين اجتووا المدينة وأصابهم مرض فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها ولم يقل : توضؤوا ، مع أن المقام يقتضي أن يقوله لو كان الوضوء واجبا إذ أنهم قوم جهال بالشريعة يحتاجون إلى بيان ، فهذا هو الذي منعنا أن نوجب الوضوء من ألبان الإبل والمرق من باب أولى لا يجب .
فإن قال قائل : إذا أكل شيئا يسيرا إذا أكل شيئا يسيرا كرأس العصفور يتوضأ أو لا ؟
الطالب : يتوضأ .
الشيخ : يتوضأ ؟ نعم يتوضأ ، هل يمكن أن نقول : إذا أكل ما يفطر به الصائم توضأ يعني بمعنى ولو يسيرا حتى لو كان خلال الأسنان ؟
الجواب : هذا هو الظاهر ، الجواب حتى هذا ما دام أكل شيئا له جرم يصل إلى المعدة فإنه يجب عليه أن يتوضأ.
فإن قال قائل : فهمنا الحكم وسلمنا ورضينا وقلنا : لله تعالى أن يحكم بما شاء فهل تلحقون بلحم الإبل لحم البقر لأن كلا منهما يجزئ عن سبع شياه ؟
فالجواب : لا ، لا نلحقه به لأن هذا حكم خاص في الإبل فلا نلحق البقر بذلك.
طيب هل تلحقون بذلك اللحم الحرام كما لو اضطر الإنسان إلى أكل لحم الخنزير فأكل ؟
الجواب : لا، لأنه ليست العلة نجاسة لحم الإبل حتى نلحق هذا بهذا .
فإن قال قائل : ما العلة إذًا ؟
نقول : عندنا علة لا أحد ينكرها وهي: أن هذا حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذه هي العلة، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم هو العلة وهو الحكمة، ولهذا استدلت عائشة رضي الله عنها بهذا الدليل نفسه حين سألتها المرأة : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، إذًا الحكم وهو وجوب الوضوء من لحم الإبل يعتبر من الأحكام التعبدية التي ليس للإنسان فيها إلا التسليم والانقياد بقطع النظر عن كونه يعرف أو لا يعرف، أفهمتم؟ مع أن بعض العلماء -رحمهم الله- أراد أن يستنبط علة هي في الحقيقة عميقة، فقال : إنه ثبت أن الإبل خلقت من الشياطين ، يعني أن طبيعتها الشيطنة، وليس المعنى أن الشيطان أب لها أو أم لها، لا، كقوله : خلق الإنسان من عجل المعنى: أن طبيعته العجلة، هذا أيضًا مثله: خلقت الإبل من الشياطين يعني: أن طبيعتها الشيطنة، وصاحبها يكون عنده الفخر والخيلاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل ، هذه الطبيعة التي فيها قد توجب للإنسان أن يكتسب من هذا، يكتسب من هذا الفخر والعلو والزهو، والماء يبرد الجسم ويخفف الحرارة، ولهذا أُمر الإنسان إذا غضب أن يتوضأ لإطفاء حرارة الغضب، فإن كانت العلة هذه، فهذه العلة تعتبر كسباً، وإن لم تكن إياها فالعلة أَمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
الفتاوى المشابهة
- ما حكم صلاة من لم يتوضأ من لحم البعير؟ - ابن باز
- ما الحكمة في أن لحم الإبل ينقض الوضوء - ابن باز
- الجمع بين: الوضوء من لحوم الإبل، وترك الوضوء مم... - ابن باز
- حكم الوضوء من أكل لحم الإبل - ابن باز
- الأدلة على وجوب الوضوء من لحم الجزور - ابن باز
- هل هناك دليل على أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء.؟ - ابن عثيمين
- ما العلة أو ما السبب في أن أكل لحم الإبل ينق... - ابن عثيمين
- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه :( أن رجلاً سأ... - ابن عثيمين
- مراجعة ومناقشة تحت حديث ( أن رجلاً سأل النبي... - ابن عثيمين
- تتمة شرح حديث ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله... - ابن عثيمين
- فوائد حديث ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله علي... - ابن عثيمين