تم نسخ النصتم نسخ العنوان
تفسير الآية : (( تلك حدود الله ومن يطع الله... - ابن عثيمينأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال الله تبارك وتعالى:  تلك حدود الله ...  هذه مكونة من مبتداء والخبر ، المبتداء اسم إشارة  تلك  والخبر  حدود الله  ، وال...
العالم
طريقة البحث
تفسير الآية : (( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم )) .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال الله تبارك وتعالى: تلك حدود الله ... هذه مكونة من مبتداء والخبر ، المبتداء اسم إشارة تلك والخبر حدود الله ، والمشار إليه ما سبق من مواريث في الآية ، ويحتمل أن يكون المشار إليه كل ما سبق من الأحكام قبل هذه الجملة ، وذلك أن القرآن وإن كان آيات مفصلات لكنه في الحقيقة كلام واحد من حيث المعنى والسياق ، ومعنى قولنا كلام واحد أن بعضه ينبني على بعض ، ولهذا اعتنى بعض المفسرين ببيان تناسب الآيات كما اعتنى بعضهم بتناسب السور ، وهذا بحث جيد ، ولكن لو قال قائل: إن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور على حسب القاعدة ، أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور وكذلك الإشارة تعود إلى أقرب مذكور ، كان المراد بالمشار إليه هنا ما ذكر في هذه الآية: ولكم نصف ما ترك أزواجكم ، وقوله: حدود الله هي جمع حد ، والحد هو الشيء الفاصل بين شيئين ، ومنه حدود الأرض بعضها عن بعض ، وحدود الله عزوجل تنقسم إلى قسمين: حدود واجبات وحدود محرمات ، أما حدود الواجبات فهي ما أوجبه الله على عباده بشروطها وأركانها وواجباتها ، وأما حدود النواهي فهي ما حرمه الله على عباده كالزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، قتل النفس ، وغيرها ، قال أهل العلم: وإذا قال الله: تلك حدود الله فلا تعتدوها فهي من حدود الأوامر ، وإذا قال: تلك حدود الله فلا تقربوها فهي من حدود النواهي ، فالزنا مثلا نقول هو حد من حدود الله لا تقربوه ، والصلاة حد من حدود الله لا تعتدي يعني لا تجاوز ولا تعتدي ، قال: تلك حدود الله الآية هنا من حدود الأوامر أو النواهي ؟ من حدود الأوامر . ثم قال: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار الجملة هذه شرطية ، اسم الشرط فيها " من " وفعل الشرط يطع وهو مجزوم بالسكون كما هو ظاهر ، وأصل يطع أصلها " يطيع " لكنها حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، لأن العين استحقت السكون بالشرط وهي ساكنة ، وقد قال ابن مالك في الكافية:
إن ساكنان التقى يكسر ما سبق وإن يكن لينا فحذفه استحق
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق ، وإن يكن لينا يعني حرف من حروف اللينة الثلاثة فحذفه استحق ، على أي نوع تنطبق الآية ؟ على الثاني ، إلا في قوله: يطع الله كسر العين فتكون على الأول ، إذا الآية جمعت بين الوجهين ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار فما هي الطاعة ؟ الطاعة قال العلماء هي موافقة الأمر وتكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي ، فتارك شرب الخمر امتثالا ... الله عزوجل يقال إنه مطيع ، والمصلي يقال إنه مطيع ، هذا إذا أفردت الطاعة فإنها تشمل فعل الأوامر وترك المعاصي ، وأما إذا قرنت بالمعصية فقيل مثلا " من أطاع الله ومن عصى الله " كانت الطاعة في الأوامر خاصة والمعصية في النواهي ، والآية التي معنا الآن من النوع الثاني أو الأول ؟ أول ، ما هو الثاني وما هو الأول ؟ مقرونة بيعصي ، إذا المراد بها القيام بالأوامر ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار يطع الله ورسوله عطف اسم الرسول عليه الصلاة والسلام أو وصفه على اسمه تعالى ، لأن طاعة الرسول من طاعة الله ، كما قال تعالى: ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وقوله: ورسوله المراد به حين نزول القرآن رسول معين وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما حين قيام الشرائع السابقة فالمراد بالرسول من كانت شريعته قائمة ، ففي عهد المسيح يكون المراد بالرسول عيسى ، وفي عهد موسى يكون المراد بالرسول موسى ، وهلم جرا ، لكن بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يكون المراد بالرسول محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار يدخله هذه جواب الشرط ، وهي مجزومة بالسكون ، ومقتضى الدلالة العقلية أن الشرط يترتب على المشروط ، فالمشروط هنا هو الطاعة أو الشرط الطاعة والمشروط الجزاء والثواب ، فالمشروط يترتب على الشرط ترتبا عقليا ، فهنا يكون قوله: يدخله هو ... الذي اشترطه الله عزوجل لمن أطاعه ، فيكون نتيجة حتمية ضرورة صدق المخبر به وهو من ؟ الله عزوجل ، لأن المخبر به هو الله وهو أصدق القائلين ، والمخبر به قادر على فعله ، ولهذا تجدون أن الله تعالى يقول في القرآن: إن الله لا يخلف الميعاد لأنه كامل الصدق كامل القدرة ، وإخلاف الوعد يأتي من أحد أمرين ، إما الكذب أي كذب الوعد ، وإما العجز أي عدم القدرة ، والله عزوجل لا يخلف الميعاد ، يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار جنات جمع جنة وهي في الأصل: البستان الكثير الأشجار ، وسمي بذلك لأنه يستر من كان فيه لكثرة أشجاره ، وهذه المادة " الجيم والنون " تدل على الستر ، انظر إلى لفظ " الجنان " وهو القلب لأنه مستتر ، " الأجنة " وهي الأحمال في بطون الأمهات لأنها مستترة ، " الجن " لأنهم مستترون ، " الجنة " ما يستتر به المقاتل لأنها تستره ، فهذه المادة كلها تدور على هذه المعنى ، فالجنات هي البساتين الكثيرة الأشجار ، ولكنه لا يحسن أن نفسرها في هذا الموضع بهذا المعنى ، لأنك إذا فسرتها بهذا المعنى فكأنما حصرت مدلولها بما يعرفه الناس وسوف تقلل من أهمية الجنة الموعود بها ، ولهذا ينبغي أن يفسرها ـ أعني الجنات النعيم ـ بأنها الدار التي أعدها الله لأوليائه وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإذا فسرتها بهذا التفسير بقيت هيبتها في النفوس ، لكن لو تفسرها بالمعنى الأول توهم الإنسان وقال هذا كبستان فلان ابن فلان كثير الأشجار وكثير النخيل وما أشبه ذلك ، وهي أعظم مما في الدنيا بأضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله ، قال ابن عباس رضي الله عنهما " ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء : وإلا فالحقائق تختلف ، قال الله تعالى: وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وقال: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، وفي الحديث القدسي: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقوله: تجري من تحتها الأنهار تجري الجريان معروف وهو سير الماء على الأرض ، وقوله: من تحتها أي من تحت هذه الجنات يعني أشجار ... وظل وأنهار تجري ، لو تخيل الإنسان هذا النعيم لوجده أكبر نعيم ، وهذه الأنهار فسرها الله عزوجل في سورة القتال بقوله: فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ما هو عسل النحل ، عسل مصفى خلقه الله هكذا ، لبن ليس لبن البقر أو الغنم ، أنهار خلقها الله عزوجل ، كذلك أيضا الماء لا يأس أبدا مهما طالت مدته بخلاف ماء الأرض فإنه يأسن أي تتغير رائحته بطول المكث ، الخمر لذة لا فيه غول و لا هم عنها ينزفون ، وقوله: من تحتها الأنهار قال العلماء إنها تجري من تحتها لا تحتاج إلى بناء يمنع تسرب الماء ولا إلى حفر أخدود ، تسيل هكذا حيث ما أردت ، قال ابن القيم في النونية :
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
فهي أنهار لا تحتاج إلى حفر الشواطئ ولا إلى إقامة حدود ، تجري هكذا على الأرض ، وقال أهل العلم أيضا إنها تجري حيث ما أراد الإنسان بدلا من أن يأتي بمواد البناء والتوجيه، يريدها بالقلب أو يأمرها بلسانه ، ـ اللهم اجعلنا من أهلها ـ ، خالدين فيها وذك الفوز العظيم خالدين هذه حال ، حال من أين ؟ من ضمير يدخله ولكن يشكل عليه أن الحال كالنعت والنعت يتبع المنعوت في إفراده وتثنيته وجمعه ، وهنا صاحب الحال مفرد والحال جمع ، فكيف الجواب ؟ الجواب عن ذلك أن نقول: إن صاحب الحال عائد على "
من " الشرطية ، و" من " الشرطية يجوز فيها مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، فإن راعيت اللفظ أعدت الضمير إليها مفردا وإن راعيت المعنى أعدت الضمير إليها جمعا ، وكذلك ما يشبه الضمير من الحال والصفة وما أشبهها يجوز مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ ، فهنا يقول: يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها فاللفظ في قوله: يدخله والمعنى في قوله: خالدين ، ويجوز أن تراعي اللفظ والمعنى وتعود مرة ثانية لمراعاة اللفظ ، قال الله تعالى في آخر سورة الطلاق: ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا فراعى في الأول اللفظ ثم راعى المعنى ثم راعى للفظ ، وهذا جائز في اللغة العربية ، يقول: خالدين فيها قوله: خالدين فيها الخلود قال العلماء هو المكث الدائم إلا أن يدل دليل على أنه مؤقت فيراد به المكث الطويل وإلا فالأصل أن الخلود الدوام ، لكن إن وجد يدل على أن المراد به طول المكث عمل به ، خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ذلك المشار إليه ما ذكر من هذا الثواب الذي أعده الله لمن أطاعه ، الفوز العظيم الفوز معناه الربح ، يقال: فاز فلان ، بمعنى ربح ، والعظيم معناه ذو العظمة ، والعظمة هي ضخامة الشيء وجلالة الشيء وكثرة الشيء أيضا

Webiste