هذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله- للصدق فقال : " باب الصدق " ، وذكر آيات سبق الكلام عليها
أما الأحاديث فقال : " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة" " : عليكم بالصدق أي : الزموا الصدق ، والصدق مطابقة الخبر للواقع ، يعني أن تخبر بشيء فيكون الخبر مطابقا للواقع ، مثال ذلك إذا قلت : لمن سألك أي يوم هذا ؟ فقلت : اليوم يوم الأربعاء ، هذا صدق ، ولو قلت : اليوم يوم الثلاثاء لكان كذبا ، فالصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد سبق في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه ما يدل على فضيلة الصدق ، وحسن عاقبته ، وأن الصادق هو الذي له العاقبة ، والكاذب هو الذي يكون عمله هباء ، ولهذا يذكر أن بعض العامة قال : " إن الكذب ينجي فقال له أخوه : الصدق أنجى وأنجى " ، وهذا صحيح ، واعلم أن الخبر يكون باللسان ويكون بالأركان ، أما باللسان : فهو القول ، وأما بالأركان فهو الفعل ، ولكن كيف يكون الكذب بالفعل ؟! إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله ، فالمنافق مثلا كاذب ، لأنه يظهر للناس أنه مؤمن يصلي مع الناس ويصوم مع الناس ويتصدق ولكنه بخيل وربما يحج ، فمن رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح ، ولكن هذه الأفعال لا تنبئ عما في الباطن ، فهي كذب ولهذا نقول : الصدق يكون باللسان ويكون بالأركان ، فمتى طابق الخبر الواقع فهو صدق ويكون باللسان ، ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق وهذا صدق بالأفعال ، ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام لما أمر بالصدق ، بين عاقبته قال : "فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة" : البر كثرة الخير ، ومنه مِن أسماء الله البَرّ : أي كثير الخير والإحسان عز وجل ، فالبر يعني كثرة الخير وهو من نتائج الصدق ، "وإن البر يهدي إلى الجنة" : فصاحب البر نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم ، هذا يهديه بره إلى الجنة ، والجنة هي غاية كل مطلب ، لو سألت أي إنسان لماذا تعمل صالحا ؟ قال : للجنة ، نعم ، ولهذا يُؤمر الإنسان أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
ثم قال : "وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً" ، وفي رواية : "ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا" : أتدرون ما الصديق ؟ الصديق في المرتبة الثانية من مراتب الخلق الذين أنعم الله عليهم كما قال الله تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } ، فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقا ، ومعلوم أن الصديقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس ، وتكون في الرجال وتكون في النساء ، قال الله تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } ، وأفضل الصديقين على الإطلاق أصدقهم وهو أبو بكر رضي الله عنه ، عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة ، الذي استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام ، ولم يحصل عنده أي تردد وأي توقف ، بمجرد ما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أسلم ، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه ، صدقه حين تحدث عن الإسراء والمعراج وكذبه الناس وقالوا : كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة ثم تقول إنك صعدت إلى السماء ، هذا لا يمكن !! ثم ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له : أما تسمع ما قال صاحبك ؟ قال : ماذا قال ؟ قالوا : إنه قال كذا وكذا وكذا ، قال : إن كان قد قال ذلك فقد صدق ، فمن ذلك اليوم سمي الصديق رضي الله عنه ، أما الكذب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "وإياكم والكذب" : إياكم هذه للتحذير ، يعني : احذروا الكذب ، والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل ، فإذا قال لك قائل : ما اليوم ؟ فقلت : اليوم يوم الخميس ، أو يوم الثلاثاء فهذا كذب ، لأنه لا يطابق الواقع .
والمنافق كاذب لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر فهو كاذب بفعله ، "إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور" الفجور : الخروج عن طاعة الله ، لأن الإنسان ينشق ويتعدى طَوره ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته ، وأعظم الفجور الكفر والعياذ بالله ، فإن الكفرة فجرة كما قال تعالى : { أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } ، وقال تعالى : { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } ، وقال تعالى : { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } ، { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } ، "فالكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار" نعوذ بالله منها ، "وإن الرجل ليكذب" وفي لفظ : "ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" : وهذا والعياذ بالله الكذب من الأمور المحرمة ، بل قال بعض العلماء : " إنه من كبائر الذنوب ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يكتب عند الله كذابا " ، ومن أعظم الكذب ما يفعله بعض الناس اليوم : يأتي بالمقالة كاذبا ، يعلم أنها كذب لكن من أجل أن يضحك الناس ، وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا : "ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم ، ويل له ، ثم ويل له" : وهذا وعيد على أمر سَهُل عند كثير من الناس ، فالكذب كله حرام كله يهدي إلى الفجور ولا يستثنى منه شيء .
ورد في الحديث أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها ، ولكن بعض أهل العلم قال : إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح ، قال : والتورية قد تسمى كذبا كما في حديث إبراهيم أن النبي عليه الصلاة والسلام : "أنه كذب ثلاث كذبات" وهو لم يكذب ، وإنما ورى تورية هو فيها صادق ، وسواء كان هذا أو هذا فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم ، وبعض العلماء يقول : الكذب لا يجوز مطلقا لا مزحا ولا جدا ، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا ، وأشد شيء من الكذب أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل ، مثل أن يُدعى عليه بحق عليه ثابت فينكر ، ويقول : والله ما لك علي حق ، أو يدعي ما ليس له فيقول : لي عندك كذا وكذا وهو كاذب ، فهذا إذا حلف على دعواه وكذب فإن ذلك هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ، ثم تغمسه في النار ، والعياذ بالله ، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : "مَن حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" . فالحاصل أن الكذب حرام ولا يجوز للإنسان أن يكذب لا هازلا ولا جادا ، إلا في المسائل الثلاثة على خلاف بين العلماء في المعنى الوارد فيها ، والله أعلم .