الرد على من استدل بقوله تعالى ما المسيح ابن مريم
اللجنة الدائمة
س7: مع هذه المسألة نصوص يستدل بها القاديانيون على موت عيسى ودفنه أرجو بيان تلك النصوص للرد عليهم؟ الآية الأولى: قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ الآية.
ج7: القصد من هذه الآية الرد على من قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، ومن قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ، ومن قال: إنه ابن الله - ببيان أن عيسى المسيح عليه السلام ليس ربًّا ولا إلها يعبد، بل رسول كرّمه الله بالرسالة، شأنه شأن الرسل الذين مضوا من قبله أجله محدود لكن لم تبين هذه الآية متى يموت، وقد بينت الأدلة الماضية من الكتاب والسنة أنه رفع حيًّا، وأنه سينزل حكمًا عدلاً، ثم يموت بعد نزوله آخر الزمان وحكمه بين الناس، ثم ذكر تعالى أن عيسى وأمه عليهما السلام كان يأكلان الطعام فدل بذلك على أنهما ليسا إلهين مع الله لحاجتهما إلى ما يحفظ عليهما حياتهما من الطعام، والله تعالى فرد صمد له الغنى المطلق يحتاج إليه كل ما عداه ولا يحتاج هو إلى أحد سواه، يؤيد أن المراد بالآية هو ما ذكر سابقها ولاحقها من الآيات، فقد سبقها آية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، وآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ، وقد ذكر بعدهما النهي عن الغلو في الدين وإنكار عبادة غير الله ولعن من فعل ذلك أو سكت عنه ولم ينكره، ويوضح ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة
الأنعام: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ الآية. الآية الثانية: قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ الآية. ج: القصد من الآية الرد على من كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لزعمه أن الرسول إنما يكون من الملائكة لا من البشر، فرد الله عليهم زعمهم ببيان أن سننه سبحانه في إرسال رسل إلى البشر أن يصطفيهم من البشر، وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق شأنهم في ذلك شأن البشر، وليس في الآية تحديد لأجل عيسى عليه السلام، وقد بينت الآيات الأخرى والأحاديث رفعه حيًّا ثم نزوله وحكمه بعد نزوله آخر الزمان ثم موته كما تقدم. الآية الثالثة: قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ . ج: ليس في هذه الآية أي دلالة على موت عيسى عليه السلام حينما تآمر اليهود على قتله وصلبه، وإنما فيها الدلالة على أن الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى ليسوا أجسادًا لا تأكل، بل
يأكلون كما يأكل الناس، وفيها الحكم بأنهم لا يخلدون في الدنيا، وأهل السنة يؤمنون بذلك، وأن عيسى كغيره من المرسلين يأتي عليه الموت كغيره إلاَّ أن الكتاب والسنة دلا على أن ذلك بالنسبة له لا يكون إلاَّ بعد نزوله من السماء حكمًا عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، كما تقدم. الآية الرابعة: قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا . ج: هذه الجملة وإن كانت عامة إلاَّ أنها خصصت بالآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي رسله وكانت حجة لهم على أممهم في إثبات الرسالة؛ كانفلاق البحر لموسى اثني عشر طريقًا يبسًا بضربة عصا، وكإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى بإذن الله إلى غير هذا مما هو كثير معلوم، فرفع عيسى حيًّا وإبقاؤه قرونًا ونزوله بعد ذلك مما استثني من هذا العموم كغيره من خوارق العادات التي هي سنة الله مع رسله ولا غرابة في ذلك. الآية الخامسة: قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ . ج: هذه الآية تثبت العبودية لعيسى عليه السلام، وأن الله
أنعم عليه بالرسالة وليس ربًّا ولا إلهًا، وأنه آية على كمال قدرة الله، ومثل أعلى في الخير يقتدى به ويهتدى بهديه، فهي شبيهة في مغزاها بالآية الأولى وليس فيها أي دلالة على تحديد لأجل عيسى عليه السلام، وإنما يؤخذ بيان ذلك وتحديده من نصوص أخرى، كما تقدم. الآية السادسة: قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا الآية. ج: جاء في صدر الآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، فكان قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الآية: ردًّا على زعمهم أن عيسى عليه السلام هو الله ببيان أن عيسى وأمه عبدان ضعيفان كسائر خلق الله ولو شاء الله أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعًا من المخلوقات لفعل ولكنه لم يعمهم بالهلاك، بل أجرى فيهم سنته بالإِهلاك في مواقيت محدودة اقتضتها حكمته سبحانه، وكان من حكمته أنه لم يهلك عيسى عليه السلام حينما تآمر عليه اليهود ولا بعد رفعه وإنما رفعه حيًّا وأبقاه حيًّا حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يميته بعد ذلك، كما تقدم.
الآية السابعة: قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ . ج: حمل مريم بعيسى عليهما السلام بلا أب على خلاف السنة الكونية في غيرهما - من الآيات البينات الدالات على كمال قدرة الله سبحانه وقد آواهما الله إلى ربوة مكان مرتفع خصيب فيه استقرار وماء معين ظاهر تراه العيون، والمراد بذلك بيت المقدس من فلسطين رحمة من الله بهما ونعمة من الله عليهما، وكان ذلك في فلسطين لا في بلد من بلاد باكستان ، وكان ذلك قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسمائة عام لا بعد هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من اثني عشر قرنًا، فمن حمل الربوة على مكان بباكستان أو تأول ابن مريم على غلام أحمد فقد حرف الآية وافترى على الله كذبًا وخرج عن واقع التاريخ. الآية الثامنة: قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. ج: استدلال القاديانيين بهذه الآية على موت عيسى عليه السلام فيما مضى مبني على تفسير التوفي بالإِماتة، وهو مخالف
لما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله رسوله عيسى عليه السلام من الأرض ورفعه إليه حيًّا وتخليصه بذلك من الذين كفروا جمعًا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الدالة على رفعه حيًّا وعلى نزوله آخر الزمان وعلى إيمان أهل الكتاب جميعًا وغيرهم به حين نزوله، أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير التوفي هنا بالإِماتة فلم يصح سنده لانقطاعه، إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه وعلي لم يسمع منه ولم يره ولم يصح أيضًا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإِماتة؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق عمن لم يسمهم عن وهب بن منبه ، وابن إسحاق مدلس وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالاً في معنى التوفي فإنه قد فسر بمعانٍ، ففسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنًا وروحًا ورفعه إليه حيًّا، وفسر بأنه أنامه ثم رفعه، وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان، إذ الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط، وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى، جمعًا بين الأدلة، وردًّا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقانا الله شرهم.
الآية التاسعة: قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ الآية. ج: الاستدلال بالآية على موت عيسى عليه السلام قبل رفعه إلى السماء أو بعد رفعه وقبل نزوله آخر الزمان مبني على تفسير التوفي بالإِماتة كما سبق في الكلام على الآية الثامنة، وقد تقدم أن هذا التفسير غير صحيح، وأنه على خلاف ما فسره به السلف جمعًا بين نصوص الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة. الآية العاشرة : قوله تعالى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . ج: هذه الكلمة مما حكاه الله سبحانه في القرآن من كلام عيسى عليه السلام في المهد وفيها أنه سبحانه أمره بالصلاة والزكاة ما دام حيًّا وليس فيها تحديد لحياته ولا بيان لوقت مماته، وقد بينت ذلك الأدلة التي تقدم ذكرها، فيجب حمل المجمل على المفصل من النصوص، وألا يضرب بعضها ببعض ولا يوقف منها عند المتشابه، فإن جميع ذلك من عند الله يبين بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا. الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
ج: هذه كالتي قبلها فيها إثبات السلام والأمن له من الله في كل أحواله وليس فيها تحديد لمدة حياته ولا لوقت موته، فيجب الرجوع إلى النصوص الأخرى التي تبين ذلك، كما تقدم بيانه. الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ الآية. ج: هذه الآية سيقت للرد على من عبد غير الله من الملائكة وعزير وعيسى واللات والعزى ومناة ولبيان أنهم لا يخلقون شيئًا ما ولو ذبابًا، بل هم مخلوقون مربوبون أموات غير أحياء، لكن الأدلة الأخرى دلت على بقاء عيسى عليه السلام حيًّا حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يموت. الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . ج: هذه الآية أمر الله فيها بالإِيمان بجميع الأنبياء وما أنزل
إليهم من ربهم، وبين أنه سبحانه لا يفرق بينهم في وجوب الإِيمان بهم وبما أنزل إليهم من الله، وفي هذا رد على اليهود والنصارى الذين قالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا، وبيان لما أجمل من الرد عليهم في قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وليس المراد الأمر بعدم التفريق بينهم في الموت والحياة، فإن هذا لا يرشد إليه سياق الكلام، بل يرشد إلى ما ذكرنا، كما أن ذلك مما لم تدع إليه الرسل، فحمل الآية عليه تحريف لها عما سيقت له من المعنى، وعلى تقدير حمل قوله: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ على عمومه حتى يشمل عدم التفريق بينهم في جنس الموت والحياة - فدليل الواقع والنصوص يدل على التفاوت بينهم في كثير من صفات الموت والحياة وأنواعها وزمنها ومكانها وطول العمر وقصره إلى غير ذلك، فلتكن حياة عيسى وامتدادها طويلاً ومكانها وموته بعد ذلك مما اختلف فيه عن إخوانه النبيين بدليل النصوص السابقة. الآية الرابعة عشر: قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ج: القصد من هذه الآية بيان أن كل إنسان مجزي بعمله لا يتجاوزه إلى غيره ولا يسأل عنه سواه، كما في قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ، وقوله: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، فعليه أن يسعى جهده في كسب الخير واجتناب الشر، وألا يتعلق على غيره فخرًا به أو أملاً في النجاة من العذاب يوم القيامة بقرابته منه أو صلته به وتعظيمه له في دنياه. وعيسى عليه السلام وإن دخل في عموم الأمة الماضية إلاَّ أن الأدلة من الكتاب والسنة قد خصصته برفعه إلى السماء وإبقائه حيًّا ثم إنزاله آخر الزمان إلى آخر ما تقدم بيانه، ومن الأصول المعلومة في الشريعة الإِسلامية أن النصوص الخاصة يقضى بها على النصوص العامة فتخصصها، والنصوص التي نحن بصددها من ذلك. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا
ج: تقدم الكلام على هاتين الآيتين في الكلام على الآية الأولى والثانية والثالثة والرابعة. وبالجملة فما يتعلق به القاديانيون من الآيات القرآنية لإِثبات ما زعموا من أن عيسى عليه السلام قد مات ودفن: 1- إما عمومات خصصتها أدلة أخرى من الآيات والأحاديث دلت على رفع عيسى عليه السلام حيًّا وبقائه كذلك حتى ينزل آخر الزمان ويحكم بشريعة القرآن، ووقف القاديانيون عند عموم الآيات بعد تخصيصها، وذلك باطل؛ لمخالفته للقواعد والأصول الإِسلامية. 2- وإما آيات مجملة فسرتها نصوص أخرى يجب المصير إليها، فوقف القاديانيون عند المجمل يتعللون به لباطلهم دون أن يرجعوا إلى المحكم الذي فسره؛ وهذا شأن من في قلوبهم زيغ ونفاق، الذين يتبعون ما تشابه من نصوص الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على ما يوافق هواهم. 3- وإما كلمات اعتمدوا في تفسيرها على آثار لم تصح نسبتها إلى السلف، وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام على الآية الثامنة: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
ففرح هؤلاء بهذه الآثار لموافقتها لهواهم وموّهوا بها على الجهال ولم ينظروا إلى أسانيدها إما لجهلهم وإما تدليسًا وخداعًا وترويجًا لباطلهم، وما ذلك إلاَّ لزيفهم ورغبتهم في الفتنة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ، وروى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ، إلى قوله: أُولُو الأَلْبَابِ قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم . وعلى هذا يتضح للسائل بأن يرجع فيما بقي من الآيات إلى ما مضى شرحه منها من جنسها والكلام فيها على نسق ما تقدم. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
ج7: القصد من هذه الآية الرد على من قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، ومن قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ، ومن قال: إنه ابن الله - ببيان أن عيسى المسيح عليه السلام ليس ربًّا ولا إلها يعبد، بل رسول كرّمه الله بالرسالة، شأنه شأن الرسل الذين مضوا من قبله أجله محدود لكن لم تبين هذه الآية متى يموت، وقد بينت الأدلة الماضية من الكتاب والسنة أنه رفع حيًّا، وأنه سينزل حكمًا عدلاً، ثم يموت بعد نزوله آخر الزمان وحكمه بين الناس، ثم ذكر تعالى أن عيسى وأمه عليهما السلام كان يأكلان الطعام فدل بذلك على أنهما ليسا إلهين مع الله لحاجتهما إلى ما يحفظ عليهما حياتهما من الطعام، والله تعالى فرد صمد له الغنى المطلق يحتاج إليه كل ما عداه ولا يحتاج هو إلى أحد سواه، يؤيد أن المراد بالآية هو ما ذكر سابقها ولاحقها من الآيات، فقد سبقها آية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، وآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ، وقد ذكر بعدهما النهي عن الغلو في الدين وإنكار عبادة غير الله ولعن من فعل ذلك أو سكت عنه ولم ينكره، ويوضح ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة
الأنعام: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ الآية. الآية الثانية: قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ الآية. ج: القصد من الآية الرد على من كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لزعمه أن الرسول إنما يكون من الملائكة لا من البشر، فرد الله عليهم زعمهم ببيان أن سننه سبحانه في إرسال رسل إلى البشر أن يصطفيهم من البشر، وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق شأنهم في ذلك شأن البشر، وليس في الآية تحديد لأجل عيسى عليه السلام، وقد بينت الآيات الأخرى والأحاديث رفعه حيًّا ثم نزوله وحكمه بعد نزوله آخر الزمان ثم موته كما تقدم. الآية الثالثة: قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ . ج: ليس في هذه الآية أي دلالة على موت عيسى عليه السلام حينما تآمر اليهود على قتله وصلبه، وإنما فيها الدلالة على أن الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى ليسوا أجسادًا لا تأكل، بل
يأكلون كما يأكل الناس، وفيها الحكم بأنهم لا يخلدون في الدنيا، وأهل السنة يؤمنون بذلك، وأن عيسى كغيره من المرسلين يأتي عليه الموت كغيره إلاَّ أن الكتاب والسنة دلا على أن ذلك بالنسبة له لا يكون إلاَّ بعد نزوله من السماء حكمًا عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، كما تقدم. الآية الرابعة: قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا . ج: هذه الجملة وإن كانت عامة إلاَّ أنها خصصت بالآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي رسله وكانت حجة لهم على أممهم في إثبات الرسالة؛ كانفلاق البحر لموسى اثني عشر طريقًا يبسًا بضربة عصا، وكإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى بإذن الله إلى غير هذا مما هو كثير معلوم، فرفع عيسى حيًّا وإبقاؤه قرونًا ونزوله بعد ذلك مما استثني من هذا العموم كغيره من خوارق العادات التي هي سنة الله مع رسله ولا غرابة في ذلك. الآية الخامسة: قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ . ج: هذه الآية تثبت العبودية لعيسى عليه السلام، وأن الله
أنعم عليه بالرسالة وليس ربًّا ولا إلهًا، وأنه آية على كمال قدرة الله، ومثل أعلى في الخير يقتدى به ويهتدى بهديه، فهي شبيهة في مغزاها بالآية الأولى وليس فيها أي دلالة على تحديد لأجل عيسى عليه السلام، وإنما يؤخذ بيان ذلك وتحديده من نصوص أخرى، كما تقدم. الآية السادسة: قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا الآية. ج: جاء في صدر الآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، فكان قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الآية: ردًّا على زعمهم أن عيسى عليه السلام هو الله ببيان أن عيسى وأمه عبدان ضعيفان كسائر خلق الله ولو شاء الله أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعًا من المخلوقات لفعل ولكنه لم يعمهم بالهلاك، بل أجرى فيهم سنته بالإِهلاك في مواقيت محدودة اقتضتها حكمته سبحانه، وكان من حكمته أنه لم يهلك عيسى عليه السلام حينما تآمر عليه اليهود ولا بعد رفعه وإنما رفعه حيًّا وأبقاه حيًّا حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يميته بعد ذلك، كما تقدم.
الآية السابعة: قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ . ج: حمل مريم بعيسى عليهما السلام بلا أب على خلاف السنة الكونية في غيرهما - من الآيات البينات الدالات على كمال قدرة الله سبحانه وقد آواهما الله إلى ربوة مكان مرتفع خصيب فيه استقرار وماء معين ظاهر تراه العيون، والمراد بذلك بيت المقدس من فلسطين رحمة من الله بهما ونعمة من الله عليهما، وكان ذلك في فلسطين لا في بلد من بلاد باكستان ، وكان ذلك قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسمائة عام لا بعد هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من اثني عشر قرنًا، فمن حمل الربوة على مكان بباكستان أو تأول ابن مريم على غلام أحمد فقد حرف الآية وافترى على الله كذبًا وخرج عن واقع التاريخ. الآية الثامنة: قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. ج: استدلال القاديانيين بهذه الآية على موت عيسى عليه السلام فيما مضى مبني على تفسير التوفي بالإِماتة، وهو مخالف
لما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله رسوله عيسى عليه السلام من الأرض ورفعه إليه حيًّا وتخليصه بذلك من الذين كفروا جمعًا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الدالة على رفعه حيًّا وعلى نزوله آخر الزمان وعلى إيمان أهل الكتاب جميعًا وغيرهم به حين نزوله، أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير التوفي هنا بالإِماتة فلم يصح سنده لانقطاعه، إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه وعلي لم يسمع منه ولم يره ولم يصح أيضًا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإِماتة؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق عمن لم يسمهم عن وهب بن منبه ، وابن إسحاق مدلس وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالاً في معنى التوفي فإنه قد فسر بمعانٍ، ففسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنًا وروحًا ورفعه إليه حيًّا، وفسر بأنه أنامه ثم رفعه، وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان، إذ الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط، وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى، جمعًا بين الأدلة، وردًّا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقانا الله شرهم.
الآية التاسعة: قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ الآية. ج: الاستدلال بالآية على موت عيسى عليه السلام قبل رفعه إلى السماء أو بعد رفعه وقبل نزوله آخر الزمان مبني على تفسير التوفي بالإِماتة كما سبق في الكلام على الآية الثامنة، وقد تقدم أن هذا التفسير غير صحيح، وأنه على خلاف ما فسره به السلف جمعًا بين نصوص الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة. الآية العاشرة : قوله تعالى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . ج: هذه الكلمة مما حكاه الله سبحانه في القرآن من كلام عيسى عليه السلام في المهد وفيها أنه سبحانه أمره بالصلاة والزكاة ما دام حيًّا وليس فيها تحديد لحياته ولا بيان لوقت مماته، وقد بينت ذلك الأدلة التي تقدم ذكرها، فيجب حمل المجمل على المفصل من النصوص، وألا يضرب بعضها ببعض ولا يوقف منها عند المتشابه، فإن جميع ذلك من عند الله يبين بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا. الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
ج: هذه كالتي قبلها فيها إثبات السلام والأمن له من الله في كل أحواله وليس فيها تحديد لمدة حياته ولا لوقت موته، فيجب الرجوع إلى النصوص الأخرى التي تبين ذلك، كما تقدم بيانه. الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ الآية. ج: هذه الآية سيقت للرد على من عبد غير الله من الملائكة وعزير وعيسى واللات والعزى ومناة ولبيان أنهم لا يخلقون شيئًا ما ولو ذبابًا، بل هم مخلوقون مربوبون أموات غير أحياء، لكن الأدلة الأخرى دلت على بقاء عيسى عليه السلام حيًّا حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يموت. الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . ج: هذه الآية أمر الله فيها بالإِيمان بجميع الأنبياء وما أنزل
إليهم من ربهم، وبين أنه سبحانه لا يفرق بينهم في وجوب الإِيمان بهم وبما أنزل إليهم من الله، وفي هذا رد على اليهود والنصارى الذين قالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا، وبيان لما أجمل من الرد عليهم في قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وليس المراد الأمر بعدم التفريق بينهم في الموت والحياة، فإن هذا لا يرشد إليه سياق الكلام، بل يرشد إلى ما ذكرنا، كما أن ذلك مما لم تدع إليه الرسل، فحمل الآية عليه تحريف لها عما سيقت له من المعنى، وعلى تقدير حمل قوله: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ على عمومه حتى يشمل عدم التفريق بينهم في جنس الموت والحياة - فدليل الواقع والنصوص يدل على التفاوت بينهم في كثير من صفات الموت والحياة وأنواعها وزمنها ومكانها وطول العمر وقصره إلى غير ذلك، فلتكن حياة عيسى وامتدادها طويلاً ومكانها وموته بعد ذلك مما اختلف فيه عن إخوانه النبيين بدليل النصوص السابقة. الآية الرابعة عشر: قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ج: القصد من هذه الآية بيان أن كل إنسان مجزي بعمله لا يتجاوزه إلى غيره ولا يسأل عنه سواه، كما في قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ، وقوله: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، فعليه أن يسعى جهده في كسب الخير واجتناب الشر، وألا يتعلق على غيره فخرًا به أو أملاً في النجاة من العذاب يوم القيامة بقرابته منه أو صلته به وتعظيمه له في دنياه. وعيسى عليه السلام وإن دخل في عموم الأمة الماضية إلاَّ أن الأدلة من الكتاب والسنة قد خصصته برفعه إلى السماء وإبقائه حيًّا ثم إنزاله آخر الزمان إلى آخر ما تقدم بيانه، ومن الأصول المعلومة في الشريعة الإِسلامية أن النصوص الخاصة يقضى بها على النصوص العامة فتخصصها، والنصوص التي نحن بصددها من ذلك. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا
ج: تقدم الكلام على هاتين الآيتين في الكلام على الآية الأولى والثانية والثالثة والرابعة. وبالجملة فما يتعلق به القاديانيون من الآيات القرآنية لإِثبات ما زعموا من أن عيسى عليه السلام قد مات ودفن: 1- إما عمومات خصصتها أدلة أخرى من الآيات والأحاديث دلت على رفع عيسى عليه السلام حيًّا وبقائه كذلك حتى ينزل آخر الزمان ويحكم بشريعة القرآن، ووقف القاديانيون عند عموم الآيات بعد تخصيصها، وذلك باطل؛ لمخالفته للقواعد والأصول الإِسلامية. 2- وإما آيات مجملة فسرتها نصوص أخرى يجب المصير إليها، فوقف القاديانيون عند المجمل يتعللون به لباطلهم دون أن يرجعوا إلى المحكم الذي فسره؛ وهذا شأن من في قلوبهم زيغ ونفاق، الذين يتبعون ما تشابه من نصوص الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على ما يوافق هواهم. 3- وإما كلمات اعتمدوا في تفسيرها على آثار لم تصح نسبتها إلى السلف، وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام على الآية الثامنة: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
ففرح هؤلاء بهذه الآثار لموافقتها لهواهم وموّهوا بها على الجهال ولم ينظروا إلى أسانيدها إما لجهلهم وإما تدليسًا وخداعًا وترويجًا لباطلهم، وما ذلك إلاَّ لزيفهم ورغبتهم في الفتنة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ، وروى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ، إلى قوله: أُولُو الأَلْبَابِ قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم . وعلى هذا يتضح للسائل بأن يرجع فيما بقي من الآيات إلى ما مضى شرحه منها من جنسها والكلام فيها على نسق ما تقدم. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
الفتاوى المشابهة
- ما معنى وسبب تسمية "المسيح"؟ - ابن باز
- القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابل... - ابن عثيمين
- هل من الصواب أن نطلق على النصراني ونناديه بق... - ابن عثيمين
- سبب تسمية عيسى عليه السلام بالمسيح - اللجنة الدائمة
- الكلام حول النصارى وتعظيمهم للصليب وبيان عقي... - ابن عثيمين
- الرد على من قال بأن عيسى ابن الله - اللجنة الدائمة
- ما معنى قوله تعالى : " وقولهم إنا قتلنا المس... - ابن عثيمين
- عسى بن مريم مسيح هدى والمسيح الدجال مسيح ضلالة - ابن باز
- مذهب أهل السنة والجماعة في عيسى ابن مريم - اللجنة الدائمة
- تفسير قول الله تعالى : << لقد كفر الذين قالو... - ابن عثيمين
- الرد على من استدل بقوله تعالى ما المسيح... - اللجنة الدائمة