تم نسخ النصتم نسخ العنوان
فصل الترغيب في البكاء من خشية الله - تبارك وتع... - الالبانيالشيخ : نحن الآن في فصل الترغيب في البكاء من خشية الله - تبارك وتعالى - .هو يقول في الحديث الرابع : وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سمعتُ رسول الل...
العالم
طريقة البحث
فصل الترغيب في البكاء من خشية الله - تبارك وتعالى - ، شرح حديث ابن عباس : ( عَينانِ لا تَمَسُّهما النارُ : عينٌ بكَتْ مِن خشيَةِ الله ، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله ) .
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : نحن الآن في فصل الترغيب في البكاء من خشية الله - تبارك وتعالى - .
هو يقول في الحديث الرابع : وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : عَينانِ لا تَمَسُّهما النارُ : عينٌ بكَتْ مِن خشيَةِ الله ، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله . رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب .
هذا الحديث واضح الدلالة على فضل بكاء الإنسان ليس حزنًا ولا شفقةً ولا حرصًا على مالٍ أو فقدِ شيء عزيز لديه ، وإنما كان بكاؤه من خشية الله - تبارك وتعالى - ؛ ذلك لأنَّ مثل هذه الخشية تدل على قوَّة إيمان صاحبها ، وإلا فكثير من الناس لا يعرفون البكاء إلا بين الناس ؛ فهذا بكاء المنافقين الذين يتصنَّعون ويتكلَّفون البكاء ، فهم ليسوا من الذين يشمَلُهم هذا الحديث : عَينان لا تَمَسُّهما النارُ : عينٌ بكَتْ مِن خشيَةِ الله ، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله .
عينٌ بكَتْ من خشية الله كالحديث السابق في الدرس الأسبق الذي فيه : سبعة يظلُّهم الله - تبارك وتعالى - تحت ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه وذكر منهم : ورجلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه . خاليًا ليس لديه حتى يُظن أو حتى هو يبكي بإيحاء الشيطان له وهو لا يحسُّ ولا يشعر لِيُقال : فلان من البكَّائين من خشية الله - تبارك وتعالى - ، فهذا الوهم أو الإيهام من الشيطان للإنسان بالبكاء لا يُتصوَّر مطلقًا حينما يبكي الباكي خاليًا ليس لديه أحد ؛ لذلك كان من هؤلاء السبعة الذين يظلُّهم الله تحت ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه كان منهم رجلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه .
هذا البكاء يصدر من المؤمن الخائف من الله - تبارك وتعالى - ، وإلا فلا يُتصوَّر البكاء إلا في حالة نادرة يكون هذا البكاء فرحًا ، لكن بالنسبة لِمَن يذكر الله خاليًا فالغالب أنه يكون بكاؤه من خشية الله - تبارك وتعالى - ، من خوفه من عذاب ربِّه ، فإذا لاحَظْنا هذه الفضيلة لهذا الباكي من خشية الله - عز وجل - خاليًا تذكَّرنا أنه ليس من الإسلام في شيء ما يُنقل عن " رابعة العدوية " أنها كانت تناجي ربَّها فتقول في مناجاتها إياه - عز وجل - : " ما عبدْتُك طَمَعًا في جنَّتك ولا خوفًا من نارك ، وإنما عبدْتُك لأنك تستحقُّ العبادة " ؛ فهذا الكلام كلام شعري خيالي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ! ذلك لأن المؤمن الصادق كلما كان إيمانه المتضمِّن معرفته لله - عز وجل - قويًّا كلما ازداد خوفًا من الله - تبارك وتعالى - من جهة ، وكلما ازداد طَمَعًا ورغبةً فيما عند الله - عز وجل - من نعيم مقيم من جهة أخرى ، فإنسان نتصوَّر فيه هذا الإيمان القوي لا يمكن أن يصدر منه " لا أعبدك طمعًا في جنَّتك ولا خوفًا من عذابك " ؛ لأنُّو معنى هذا أن المتكلم لم يعرف ربَّه ، والإيمان يستلزم المعرفة ، أما المعرفة فلا تستلزم الإيمان .
كل مؤمن عارف ، وهذه نقطة يجب عليكم جميعًا أن تتنبَّهوا لها حتى لا تتأثَّروا بكثير من الآراء الفلسفية التي قد تقرؤونها في الكتب أو تسمعونها منقولة عنها ، كلُّ مؤمن فهو عارف بالله - عز وجل - ، لكن العكس ليس كذلك ؛ ليس كل عارف هو مؤمن ؛ ولذلك فمن الأخطاء الشائعة إذا أرادوا مدح رجل عالم فاضل مؤمن بالله - عز وجل - حقَّ الإيمان وصفوه بأنه العارف بالله ، ربنا - عز وجل - وصف الكفار في كثير من المواضع بالمعرفة ، ولكن نفى عنهم الإيمان . الله - عز وجل - يقول في حقِّ أهل الكتاب ومعرفتهم بصدق نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - قال فيهم : يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ، ما قال عنهم : يؤمنون به ؛ لأن المعرفة شيء والإيمان شيء آخر ، كل مؤمن لا بد أنه عرف ما آمن به ، لكن ليس كل مَن عرف شيئًا آمن به ، فهؤلاء هم اليهود والنصارى عرفوا النبي - عليه السلام - وأنه هو الذي بُشِّر به في كتبهم ؛ ومع ذلك كذَّبوه وما صدَّقوه ولا آمنوا به .
كذلك : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ، هذا الاستيقان هو عين المعرفة ، ولكن لم يقترن معه الإيمان فلم يُفِدْهم شيئًا ؛ إذًا إذا عرف المؤمن ربَّه بأنه غفور رحيم ، وأنه شديد العقاب ، وكانت هذه المعرفة معرفةً جازمةً آمَنَ بها صاحبُها إيمانًا جازمًا لا يمكن هذا الإنسان أن يعبُدَ الله دون أن يطمع فيما عنده من نعيم ، ودون أن يخشى ما عنده من جحيم ؛ لو أن إنسانًا عاديًّا عاش تحت حكم ملك من البشر ، وكان هذا الملك جبَّارًا بطَّاشًا يظلم الناس لا بد أن يخشاه وأن يخاف منه ؛ لأنه يرى دائمًا وأبدًا ينتقم من الناس بغير حقٍّ ؛ فهو لعلمه بهذا الواقع يأخذ حذره ويخشاه ، وبالعكس ؛ لو كان هناك ملك كريم سخيّ يجود على الناس بعطائه بدون حساب وبدون سؤال لا يمكن أن يعيش الإنسان تحت راية هذا الملك ولا يرغب فيما عنده مجَّانًا ، طبيعة الإنسان هكذا ؛ فماذا يقول بالنسبة لربِّ العالمين ملك الملوك ؟! قلوب الملوك كلها بيده - تبارك وتعالى - ، إذا عرفناه أنه غفور رحيم ، وأنه ذو الفضل العظيم ؛ كيف نتصوَّر أننا نؤمن به حقَّ الإيمان ثم لا نطمع فيما عنده - تبارك وتعالى - من خير ومن فضل ومن ثواب ومن جنة عرضها السماوات والأرض ؟! هكذا لا يمكن أن يُتصوَّر إلا من إنسان إما أنه غير مؤمن أو غافل .
كذلك إذا عرفناه أنه عزيز ذو انتقام ، وأنه جبَّار كيف نعيش نتعبَّد الله - عز وجل - ولا نخافه ولا نخشاه ؟! من هنا تفهمون السِّرَّ في قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض الأحاديث الصحيحة : أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله ، ومن هنا تفهمون السِّرَّ في وصف الله - عز وجل - بعض عباده المصطفين الأخيار بقوله : "" يعبدوننا رغبًا "" هكذا الآية ؟ رَغَبًا وَرَهَبًا .

الحاضرون : ... .

الشيخ : "" يعبدوننا "" رَغَبًا وَرَهَبًا ؛ يطمعوا فيما عند الله ويخشون ما عند الله ، كيف نتصوَّر إنسانًا يقوم بحقِّ هذه العبودية التي أثنى بها الله - عز وجل - على هؤلاء العباد المصطفين الأخيار ؛ كيف نتصوَّر أن فردًا منهم يقول : " ما عبدتك طمعًا في جنَّتك ، ولا خوفًا من عذابك " ؟!! هذا كلام هراء ، أو كلام إنسان جاهل ، أو غير مؤمن بالله - عز وجل - .
البحث في هذا طويل ، لكن هناك نكتة : في الأحاديث الصحيحة تفسيرًا لمثل قول ربِّنا - تبارك وتعالى - : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ جاء في الحديث الصحيح في تفسير : وَزِيَادَةٌ قال - عليه الصلاة والسلام - : هي رؤية الله في الآخرة ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى الجنة ، وَزِيَادَةٌ أي : رؤية الله - عز وجل - في الآخرة . وجاء في أحاديث أخرى أنَّ المؤمنين في الجنة حينما ينظرون إلى ربِّهم - تبارك وتعالى - ينسَون كلَّ نعيم رأوه وأحسُّوا به في جنة ربهم - تبارك وتعالى - ؛ حين ذاك كيف نتصوَّر إنسانًا مؤمنًا وعالمًا بمثل هذه النصوص وغيرها يعرف أن في الجنة رؤية الله - عز وجل - ؟! كيف يقول : " ما عبدتك طمعًا في جنتك " وهو يعلم أنه لا سبيل إلى رؤية الله - عز وجل - إلا في الجنة ؟! لهذا وهذا وكثير مما لم يذكر لا بد للمؤمن حقًّا أن يخشى الله - عز وجل - كما جاء في هذا الحديث : عينان لا تمسُّهما النار : عينٌ بكَتْ من خشية الله ؛ فهذا البكاء إنما هو أثر لهذا الإيمان المتسلِّط على هذا الباكي ، وهذا لا يكون إلا بمعرفته لربِّه - عز وجل - وفهمه لصفاته التي اتَّصف بها ربُّنا - تبارك وتعالى - .
بَقِيَ بيان بسيط للجملة الثانية ؛ وهي قوله - عليه السلام - : وعينٌ حرسَتْ في سبيل الله .
يجب أن نتذكَّر أن هذه الجملة مضاف ومضاف إليه سبيل الله إذا أُطلِقَت في القرآن الكريم وفي الأحاديث الصحيحة يجب أن تُفسَّر في الجهاد في سبيل الله ؛ يعني في القتال في سبيل الله ، أقول هذا لأسباب ؛ منها أن هذه الجملة أحيانًا تأتي لمعنى أعم من ذلك ، في سبيل الله تأتي أحيانًا بمعنى أكثر من القتال في سبيل الله قتال الكفار ؛ أن يعمل الإنسان عملًا لله - عز وجل - أيَّ عمل كان ؛ حتى ولو كان في سبيل الضرب في الأرض والسفر من أجل الحصول على رزقه وعلى رزق عياله وأطفاله من طريق الحلال ، هذا - أيضًا - يُطلق عليه أحيانًا في الشرع " في سبيل الله " ، لكن يكون هناك قرينة كمثل الحديث الذي رواه الطبراني وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان جالسًا يومًا وحوله أصحابه حينما مَرَّ بهم رجلٌ شابٌّ جلد صاحب قوَّة وفتوَّة ، أُعجِبَ الصحابة به حينما رأوه ، فتمنَّوا أن يكون ذلك في سبيل الله ، إيش معنى قولهم : في سبيل الله ؟ الأصل الجهاد في سبيل الله ، فقال لهم - عليه الصلاة والسلام - : إن كان هذا خَرَجَ يسعى على أبوَين شيخَين كبيرَين له وعلى أطفال صغار له ؛ فهو في سبيل الله ، هذه الجملة بيَّنت لنا أن الرسول - عليه السلام - عنى هنا في سبيل الله المعنى العام ، لكن لأنُّو وجدت هذه القرينة جواب الرسول على الصحابة " لو كان هذا في سبيل الله " فوضَّح لنا أنه عنى أن هذا الانطلاق في السعي وراء الرزق على أبوَيه وعلى أولاده وعلى نفسه - أيضًا - فهو في سبيل الله ؛ فَهِمْنا بهذه المناسبة أنُّو هنا في سبيل الله يعني في مرضاة الله - عز وجل - ، فهو بمعنى أعم مما يأتي عادة في مثل هذا النَّصِّ وفي غيره ، ومن ذلك قول الصحابة : " لو كان هذا في سبيل الله " .
إذًا حينما تردنا أو ترد أمامنا مثل هذه الجملة ؛ ما هو المعنى الذي ينبغي أن نستفيدَه منها ؟! أَهُو المعنى الأعم أم المعنى الخاص ؟ المعنى الخاص في سبيل الله يعني في الجهاد ؛ يعني في قتال الكفار في سبيل الله - عز وجل - ، والواقع أني أهدف من وراء هذا البيان إلى لفت النَّظر إلى تفسير حديث ، والأحسن أن أقول : إلى تفسير مُحدَث ؛ أي : مُبتدع في تفسير آية مصاريف الزكاة : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ إلى آخر الآية ، وفي آخرها : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فكيف نفسِّر هذه الجملة ؟ وكيف نفهم هذا المصرف في سبيل الله ؟ عرفتم القاعدة عند الإطلاق ؛ أي : في الجهاد في سبيل الله - عز وجل - ، ولا يجوز التعميم إلا لقرينة كقصَّة ذلك الشاب الجلد القوي إلى آخره .
هنا لا توجد قرينة مطلقًا ، بل القرينة في نفس الآية ، بل قرائن في الآية نفسها تؤكِّد أن قوله - تعالى - : فِي سَبِيلِ اللَّهِ هنا على القاعدة ؛ أي : في الجهاد في سبيل الله ؛ لماذا ؟ لأن الله - عز وجل - صدَّر هذه المصارف بقوله : إِنَّمَا ، أداة حصر ، كأنه يقول : مصارف الزكاة محصورة في هذه الأنواع الثمانية ، ثم سَرَدَها واحدةً بعد أخرى ، فلو فسَّرنا الآية : فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالمعنى العام لَألغَينا هذا الحصر ، ولم يكن هناك فائدة من العدِّ واحد اثنين ثلاثة أربعة ثمانية ؛ لأنُّو سبيل الله يدخل في هذا المعنى لو كان المقصود به المعنى العام الأشمل الأنواع السبعة ، والسبعين وسبع مئة ما شئتم ؛ يعني كل سبل الخير تدخل في سبيل الله ؛ حين ذلك عطَّلنا بلاغة القرآن وفصاحة القرآن إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .
ولما زُيِّن لبعض المعاصرين اليوم بأمر نعرفه أن يفسِّروا هذا النص بالمعنى الأعم والأشمل ؛ سواء انتبهوا لهذا المحظور الذي ذكَّرنا به أو ما انتبهوا فعلوا ذلك لكي يُظهروا الإسلام بمظهر يستحسنه و ... الكفار هؤلاء الأوروبيون الذين اغترَّ بهم كثير من الكُتَّاب المسلمين ، وشُغِفوا بدراسة حضارتهم ومدنيَّتهم ، وتأثَّر كثير من هؤلاء الكُتَّاب الإسلاميين بحضارتهم ، واعتبروا المسلمين متأخِّرين فعلًا ، الكفار يسمُّوننا رجعيِّين ، وهم معهم بتعبير ألطف : " متخلِّفين " ، في ماذا المسلمون متخلِّفون ؟ فيما ينفعهم في دنياهم هذا بلا شك ، وحينما ننقم على هؤلاء الناس أن يسموا المسلمين بالمتخلِّفين والمتأخِّرين لا نعني أنه ينبغي أن يظلَّ المسلمون هكذا ، ولكن نعني أن الخطر الأكبر الذي ألمَّ بالمسلمين اليوم ليس هو هذا التخلُّف الحضاري المدني الأوروبي ، وإنما هو التأخُّر عن العمل بكتاب الله وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ هذا التأخُّر أو هذا التخلف الحقيقي عن العمل بالشرع على ضوء الكتاب والسنة هو الذي يُفسِح المجال لبعض الكُتَّاب الإسلاميين أن يهتموا بكلام الأوروبيين وآرائهم في دينهم في إسلامنا ؛ فما استحسنوه أولئك يستحسن هؤلاء ، فإذا لم يجدوا نصًّا صريحًا فيما يرغبهم الكفار حاولوا أن يتأوَّلوا نصًّا ليس صريحًا فيما يريدون لِيُظهروا للأوروبيين انظروا إلى ديننا .
هذه الآية لها ارتبط وثيق بما يسمونه بـ " الضمان الاجتماعي " و " تحقيق العدالة الاجتماعية " ، فيقولون : ها هو الإسلام فرض نصيبًا معيَّنًا واجبًا يأثم مَن لا يقوم به أن يُنفق ماله في كلِّ سبل الخير ، فالمدرسة - مثلًا - التي بلا شك يحضُّ الإسلام عليها ، لكن مو على حساب هذه المصارف الثمانية ، هم أدخلوا بناء المدراس ، من باب أولى أدخلوا بناء المساجد ، بل أدخلوا في هذه الآية تعبيد الطريق وإقامة الجسور وما شابه ذلك من المرافق العامة ، كلُّ هذا لِيظهروا أمام الناس بأن الإسلام قد أمر بهذه الأشياء أمرًا تعبُّديًّا دينيًّا ، والإسلام بلا شك يأمر بذلك ، لكن لا نريد أن نخلط باب التطوُّع بباب الفريضة ، ولا نريد أن نفسِّر القرآن بما لم يفسِّره السلف الصالح ؛ فهنا الآية في سبيل الله ، كقوله - تعالى - : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ كقوله - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث : وعينٌ حرسَتْ في سبيل الله .
ومن هنا أُلفِتَ النظر إلى أنه كما لا يحسن التوسُّع في الآية السابقة في تفسير وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ في الآية السابقة لما ذكرنا ؛ كذلك لا يحسن التوسُّع كما سمعت من بعض الشباب المسلم في تفسير وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ في هذا الحديث بمعنى أنُّو طائفة من الشباب من الكشَّافة - مثلًا - كما اصطلحوا اليوم - ولا أرى هذا الاصطلاح لأنه أجنبي - خرجوا لرحلة ، وخطَّطوا أن يقيموا - مثلًا - ليالي معدودة في العراء ، فمن باب التمرُّن - ولا بأس - على الجهاد الذي أُغلِقَ سبيله مع الأسف على المسلمين جميعًا لأسباب معروفة غير مجهولة ، فهم يريدون أن يتمرَّنوا على مثل هذه المقدمات الضحلة البسيطة التي تتقدَّم الجهاد الحقيقي في سبيل الله - عز وجل - ، فينصبون الخيام ، ويقيمون حرَّاسًا ، هذا كله حسن لا يفهمنَّ أحد استنكاري لذلك ، لكن هذا الحارس الذي يقوم ويحرس إخوانه من باب التمرُّن هذا لا يدخل في هذا الحديث ، هو خير ، هو تمرُّن ، هو استعداد مثل - مثلًا - حمل الأثقال والركض وما شابه ذلك ؛ فهذا كله مقدمات لتقوية بدن الإنسان المسلم ليكونَ كما ينبغي حينما يتحقَّق الجهاد في سبيل الله .
لكن هذا الحديث : وعينٌ حرسَتْ في سبيل الله إنما تعني الحراسة في الجهاد في سبيل الله - عز وجل - كحراسة ذاك الرجل الصحابي المجاهد حقًّا الذي وكَّله الرسول - عليه السلام - لحراسة الجيش وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ حينما نزلوا في وادٍ بعد معركةٍ قاتلوا فيها جماعةً من المشركين في بلدتهم في قريتهم ، وكانوا أصابوا في هجومهم على القرية امرأةً كان زوجها غائبًا عن القرية ، فلما جاء وأُخبِرَ الخبر بأن زوجتك قتلَها أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - تتبَّعَ آثار الجيش المسلم حتى أدرَكَ الجيش الظلام والمساء في واد فنزلوا فيه ، فقال - عليه الصلاة والسلام - تطبيقًا لنظام الحراسة الليلية : مَن يكلؤنا الليلة ؟! ؛ من يحرسنا الليلة ، فقام شابَّان من الأنصار أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج قالا : نحن يا رسول الله . قال لهما : كونا على فم الشِّعْب طريق في الجبل ، فانطلقا ، ويبدو أنهما اتَّفقا على الحراسة مناوبةً ؛ نصف الليل هذا والنصف الثاني آخر ، فوضع أحدهما جنبه هناك ، وقام الآخر يحرس ، ثم بدا له أن يضمَّ إلى حراسته هذه في سبيل الله عبادةً أخرى لعلها من نوع ورجلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضَتْ عيناه ؛ فكأنه قال : أنا أحرس فأستطيع أن أجمع إلى حراستي عبادتي وصلاتي لربي ، فانتصب قائمًا يصلي ، وكان المشرك حينما تتبَّع الأثر يترقَّب فرصة تسمح له ليأخذ بثأر زوجته ، وإذا به يرى هذا الرجل الصحابي الجليل يقف منتصبًا يصلي ، فما كان منه إلا أن أخرَجَ من كنانته حربةً فرَمَاهُ بها ، فوَضَعَها في ساقه .
هكذا يعبِّر الراوي - وهو جابر بن عبد الله الأنصاري - ؛ يقول : فوَضَعَها في ساقه . وهذا مبالغة في دقة الرماية كأنه وضعها وضعًا مش رماه رمية ، فما كان من هذا الصحابي المتعبِّد إلا أن أخَذَها ورَمَاها أرضًا وكأنما ينزع من بدنه شوكة ، واستمر يصلي ، فلما رأى المشرك أن الهدف لا يزال قائمًا عرف أنه لم يصِبْ منه مقتلًا ، فرماه بالثانية فوضعها في ساقه فرماها أرضًا ، وهكذا ثلاث مرات في ثلاث حراب ، كلِّ مرة يصيبه في مكان في الساق . أخيرًا : يقول الراوي : إما استيقظ صاحبه النائم وإما هو صلى ركعتين وأيقَظَه ، فهالَهُ ما بصاحبه من جراح ، قال : ما هذا ؟ قال : لقد كنْتُ في سورةٍ أقرؤها ، والذي نفسي بيده لو لا أني أني خشيتُ أن أضيِّع ثغرًا وَضَعَني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على حراسته لَكانت نفسي فيها .
يعني هذا رجل قام يصلي ، فلما ضَرَبَه ورماه ثلاث رميات كان هو يتمنَّى أن يستمر في صلاته ، ويستمر المشرك في رميه حتى يكون هلاكه في هذه الصلاة ، ولا يبالي بالموت للذَّة المناجاة وحلاوة دعائه ووقوفه بين يدي الله - تبارك وتعالى - ما يبالي بالموت ، ولكنه يتذكَّر أن الرسول - عليه السلام - قد أقامَه على وظيفة على حراسة الجيش النائم الراجع من الجهاد تَعِبًا ، ولذلك فهو لا يريد أن يضيِّع وظيفةً أمَرَه الرسول - عليه السلام - بالقيام عليها في سبيل إشباع ماذا نسمِّي هذه الرغبة الروحية السامية ؟ ولو أن يموت ويستمرَّ المشرك في رميته ؟ لا ، عليه أن يقنع بالمقدار الماضي من حلاوة المناجاة ليبقى حيًّا حتى يؤدِّي ما أمره الرسول - عليه السلام - من وظيفة ؛ فلذلك قال : لو لا أني خشيتُ أني أضيِّع ثغرًا وَضَعَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حراسته لَكانت نفسي - أي : هلاك نفسي - في هذه الصلاة . هذه هي الحراسة في سبيل الله - عز وجل - التي هي النوع الثاني من النوعين المذكورين في الحديث ممَّن لا تمسُّهما النار ؛ عينان لا تمسُّهما النار : عينٌ بكت من خشية الله ، وعينٌ حرست في سبيل الله .
ولَئِن كان قد فاتنا أن ننال النوع الثاني من الحراسة في سبيل الله بالمعنى الحقيقي الذي فسَّرناه آنفًا فلا يفوتنَّ أحدًا منَّا أن ننال النوع الأول ؛ ألا وهو البكاء خاليًا من خشية الله - تبارك وتعالى - . نرجو الله - عز وجل - أن نكون من الخاشعين المخلصين لربِّ العالمين ، والحمد لله وحده ، والصلاة على مَن لا نبيَّ بعده .

Webiste