تم نسخ النصتم نسخ العنوان
شرح الشيخ للحديث الوارد في فضل صلاة الجماعة وت... - الالبانيالشيخ : الحديث الحادي عشر ، قال : وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته ف...
العالم
طريقة البحث
شرح الشيخ للحديث الوارد في فضل صلاة الجماعة وتفصيل القول في مسألة تكرار الجماعة الثانية .
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : الحديث الحادي عشر ، قال : وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعًا وعشرين درجة ؛ وذلك أن أحدهم إذا توضَّأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة ، لا ينهزه إلا الصلاة ، لا يدفعه إلا الصلاة ؛ لم يخطُ خطوةً إلا رُفِعَ له بها درجة ، وحُطَّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد ، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبِسُه ، والملائكة يصلُّون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلَّى فيه يقولون : اللهم ارحمه ، اللهم اغفر له ، اللهم تُبْ عليه ؛ ما لم يؤذِ فيه - في المسجد - ما لم يُحدِثْ فيه" . متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم .
وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : "ينهزه" هو بفتح الياء والهاء وبالزاي ؛ أي : يُخرِجُه ويُنهِضُه .
في هذا الحديث بيان فضيلة صلاة الجماعة ، وليس هذا فقط ؛ وفضيلة الخطوات التي يخطوها لصلاة الجماعة ، وليس هذا فقط ؛ بل والجلوس في المسجد ينتظر صلاة الجماعة ، في كلِّ هذه المقدِّمات بين يدي صلاة الجماعة هذه الفضائل وهذه الحسنات التي ذَكَرَها - عليه الصلاة والسلام - ، أما صلاة الجماعة نفسها ففضلُها سبع وعشرون درجة كما في بعض الأحاديث الصريحة ، وهذه تفسير للبِضْع المذكور في هذا الحديث ؛ حيث قال - عليه السلام - : "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه ، في محلِّه ، في دكَّانه ، في متجره ، وفي بيته إذا صلى وحده بضعًا وعشرين درجة" ، فالبضع هنا من حيث اللغة معلوم أنه ما دون العشرة ، فجاء تفسيره في حديث - أيضًا - البخاري ومسلم سبع وعشرين درجة ، وهذا العدد لا ينافي الرواية الأخرى خمس وعشرين درجة ؛ لأنه من القواعد المعروفة عند علماء الأصول وعلماء الحديث أنه دائمًا يُؤخذ بالزائد فالزائد من الأحكام ومن الأخبار ، فالخمس والعشرون داخلة في السبع والعشرين ، وكلٌّ من العددين الخمس والعشرون والسبع والعشرون مفسِّر للبضع من الناحية العربية ؛ ولذلك فالذي ينبغي اعتقاده أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد سواء صلَّاها في البيت أو صلَّاها في السوق بسبع وعشرين درجة .
ولا بد هنا من إلفات النظر إلى مسألة اختلف العلماء فيها قديمًا ، والذي جرى عليه السلف هو الذي يُحرِّر الخلاف ويرفعه ؛ ألا وهي فهم الجماعة التي لها هذه الفضيلة : "صلاة الرجل في جماعة" ، وفي اللفظ الآخر : "صلاة الجماعة تفضُلُ صلاةَ الفذِّ بسبع وعشرين درجة" ، صلاة الجماعة هذه هل هي كلُّ صلاة جماعة تُقام في كل مسجد وفي أيِّ وقت أم إنها جماعة واحدة لا تتكرَّر ولا تتعدَّد ؟
مسألة فيها خلاف ، والذي يترجَّح عندما تُراجَع أدلة المسألة أن الجماعة التي لها هذه الفضيلة إنما هي الجماعة الأولى والتي تصلَّى وراء الإمام الراتب ، فلا يكفي فقط أن تكون جماعة أولى ؛ فقد يأتي جماعة إلى المسجد على عجل ويفتاتون ويتقدَّمون ويعتدون على الإمام الراتب فيصلون جماعة ، ثم يُدبِرُون ، ثم تُقام صلاة الجماعة النظامية الرسمية ، فلا تكون الجماعة هذه هي الأولى وهي التي لها هذه الفضيلة ؛ لأنها جماعة باغية معتدية على الجماعة الراتبة ، فالجماعة التي لها هذه الفضيلة إنما هي الجماعة الأولى والجماعة المقَيَّدة بالإمام الذي جُعِل إمامًا لهذا المسجد .
فهذه الجماعة الأولى هي التي لها هذه الفضيلة سبع وعشرون درجة ، فليست هي الأولى التي تتقدَّم الجماعة الراتبة ولا هي الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو أكثر من ذلك التي تتأخَّر عن الجماعة الراتبة ، والدليل على هذا التقييد هو واقع الحياة العملية الجماعية في عهد النبوة والرسالة وفي عهد السلف الصالح .
فقد جاء في " مصنف ابن أبي شيبة " من رواية الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال : " كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دخلوا المسجد فوجدوا الإمام قد صلَّى صلوا فرادى " . وإلى هذه الرواية أشار الإمام الشافعي - رحمه الله - الذي بَسَطَ القول في هذه المسألة بسطًا لا نكاد نجده في كتاب آخر من المتقدمين ، فقد قال في الجزء الأول من كتابه " الأم " : " وإذا دخل جماعةٌ المسجدَ فوجدوا الإمام قد صلَّى صلَّوا فرادى ، وإن صلُّوا جماعة أجزأتهم صلاتهم ، ولكني أكره ذلك ؛ لأنه لم يكن من عمل السلف ، وقد كانوا قادرين على أن يجمِّعوا مرة أخرى ولكنهم لم يفعلوا ؛ لأنهم كرهوا أن يُجمِّعوا في مسجد مرَّتين " . فهذا النقل العام من الحسن البصري عن الصحابة الكرام أنهم كانوا لا يعدِّدون الجماعة في المسجد يُعطينا صورة الحياة التي كانوا يَحيَوْنها في مساجدهم من حيث الصلاة جماعة ، وهي أنهم كانوا حريصين على المحافظة على الجماعة الأولى ، فإذا ما فاتَتْهم لعذرٍ ما فضلًا عن غير عذر صلَّوا فرادى .
وهذا الذي يدل عليه أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكن بشيء من الاستنباط والتأمل ، من ذلك حديث أبي هريرة - أيضًا - الذي أخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : "لقد همَمْتُ أن آمُرَ رجلًا فيصلي بالناس ، ثم آمُرَ رجالًا فيحطبوا حطبًا ، ثم أُخالِفَ إلى أناس يَدَعُون الصلاة مع الجماعة فأحرِّق عليهم بيوتهم ، والذي نفس محمد بيده ؛ لو يعلم أحدهم أنه يجد في المسجد مرماتَين حسنتَين لَشَهِدَها" يعني صلاة العشاء .
في هذا الحديث دلالة صريحة في تحريم التخلُّف عن صلاة الجماعة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هَمَّ بتحريق بيوت المتخلِّفين عنها ، هذا واضح ، وليس لنا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما نحن فيه في صدده الآن ؛ ألا وهو تكرار الجماعة ؛ فما علاقة هذا الحديث بعدم مشروعية تكرار الجماعة ؟
لنتصوَّر الأمر الواقع اليوم في كثير من مساجد المسلمين من التكرار والتعدُّد ؛ تُرى هذا الوعيد الصريح في هذا الحديث على أيَّة جماعةٍ ينصَبُّ لو افترضنا أن هناك جماعات كثيرة ؟ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : "لقد همَمْتُ - طبعًا تلخيص الحديث - أن أحرِّق بيوت المتخلِّفين عن صلاة الجماعة" ؛ فلو أن الرسول - عليه السلام - فعلًا باشَرَ التحريق ، وخالف أولئك الجماعة في بيوتهم وهَمَّ بالتحريق ، ما هذا يا رسول الله ؟ إنَّكم تتأخرون عن صلاة الجماعة ، لا يا رسول الله ، نحن نصلي مع الجماعة الثانية ، مع الجماعة الثالثة ، مع الجماعة الخمسين ؛ أتكون حجَّة الرسول حين ذاك قائمة على هؤلاء المتخلِّفين أم الأمر بالعكس ؟
إذا لاحظنا هذا نفهم أن هذه الحُجَّة النبويَّة لا تكون قائمة على المتخلِّفين عن صلاة الجماعة إلا إذا استحضَرْنا تلك الحقيقة التي أنبَأَنا بها الحسن البصري أوَّلًا ، ثم أيَّده الإمام الشافعي في كلامه السابق آنفًا ، وإلا أُبطِلَت حجة الرسول - وحاشا من ذلك ! - بأن يقول قائلهم : يا رسول الله ، إن فاتَتْنا الصلاة معك فنصلي - مثلًا - مع معاذ في مسجده ، سنصلي مع أبيٍّ ، سنصلي مع فلان ممَّن نفترض أنهم كانوا يعدِّدون الجماعة في المسجد كما هو الشأن اليوم في المساجد الكبيرة والصغيرة ، أو يمكن أن يُقال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم : صحيح أنُّو فيه هناك جماعات عديدة ، لكن أنا يَهُمُّني الجماعة الأولى من بين كلِّ الجماعات ، هذا ممكن أن يقوله قائل - أيضًا - ، وسواء كان الاحتمال الأول أو الاحتمال الآخر فالحجة قائمة على أنَّ المسلم حينما يسمع نادِيَ الله يقول : " حي على الصلاة حي على الفلاح " فإنما يعني بذلك الجماعة الأولى ؛ لأن الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - هَمَّ بتحريق المتخلِّفين عنها .
فإذًا الجماعة الأولى هي الجماعة الواجب حضورها ، وليست الجماعات الأخرى التالية من بعدها حتى ولو سلَّمنا جدلًا أنها جائزة ، ولكن حاشا أن نتصوَّر هذا التصوُّر ؛ الجماعة الأولى هي الواجبة ، والجماعات التي بعدها جائزة ، ضدَّان لا يجتمعان ؛ لأن القول بجواز الجماعات التي تلي الجماعة الأولى يُناقض القول بوجوب الجماعة الأولى ؛ لأن الاعتقاد بشرعية الجماعة الثانية فما بعدها يؤدي - كما يقولون اليوم - " أتوماتيكيًّا " إلى التساهل عن الجماعة الأولى ، وأكبر مثال على هذا من حيث الواقع ومن حيث النَّقل أن الواقع اليوم أن المسلمين لا يتأخَّرون عن صلاة الجمعة ، من كان منهم عازمًا على صلاة الجمعة لا يتأخَّر عن صلاة الجمعة ؛ لماذا ؟ لأنه قد استقَرَّ في ذهنه واعتقد في علمه أنه لا جمعة بعد الجمعة الأولى ؛ ولذلك فهو يحرص حتى مَن كان متساهلًا بالصلوات الخمس وحريصًا على صلاة الجمعة لا يُفوِّت صلاة الجمعة إطلاقًا ؛ لأنه لم يقُمْ في نفسه ما يحمله على التهاون للجمعة ؛ لأنه يعلم أن لا جمعة إلا جمعة واحدة .
هذا دليل من حيث الواقع يدلُّنا على تأثير الرأي الخاطئ في صاحبه ، فلما قام في رأي كثير من الناس جواز الجماعة الثانية فما بعدها صَرَفَتْهم عن الاهتمام بأن تكون الصلاة مع الجماعة الأولى . بينما لمَّا لم يقُمْ مثل هذا الخطأ في أذهانهم تجاه صلاة الجمعة لم يكن لهم هذا التأثُّر الخاطئ ، فكلهم يصلون صلاة الجمعة في وقتها ، هذا من حيث الواقع .
ومن حيث النقل لقد وجدنا مع حديث أبي هريرة السابق الذي يقول في طرفه الأول : "لقد همَمْتُ" = -- استوص بجارك خيرًا -- = لقد وجدنا مع حديث أبي هريرة السابق : "لقد همَمْتُ أن آمُرَ رجلًا فيصلي بالناس" إلى آخر الحديث الذي فيه "لَشَهِدَها" يعني صلاة العشاء ؛ وجدنا مع هذا الحديث حديثًا يشبِهُه في صلاة الجمعة يرويه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن مسعود قال - عليه الصلاة والسلام - : "لقد همَمْتُ أن آمُرَ رجلًا فيصلي بالناس صلاة الجمعة ، ثم أحرِّق على أناسٍ بيوتَهم يتخلَّفون عن صلاة الجمعة" ، فمثل ما قال الرسول - عليه السلام - في صلاة الجماعة قال مثله تمامًا في صلاة الجمعة .
وهذا يدلنا عل شيئين اثنين ؛ الشيء الأول أن صلاة الجماعة فرض مثل صلاة الجمعة ، طبعًا المثليَّة هنا ليس من الضروري أن تكون بالمئة مئة ؛ لأنُّو زيد مثل الأسد يعني من زاوية معيَّنة ؛ ولذلك فأنا أعني أنُّو صلاة الجماعة مثل صلاة الجمعة من حيث الفرضية ، لكن الفرضية درجات ، هذا ما يدل عليه الحديث أوَّلًا، وثانيًا كما أن صلاة الجمعة لا تتكرَّر في المسجد الواحد ولذلك هَمَّ بتحريق المتخلفين عنها ؛ فكذلك صلاة الجماعة لا تتكرَّر ؛ ولذلك همَّ بتحريق المتخلِّفين عنها .
من هنا اتَّفق الأئمة الأربعة على عدم شرعية الجماعة الثانية ، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه ، اتفقوا كلهم على أن الجماعة الثانية غير مشروعة ، ويُطلق الحنفية الكراهة عليها وإنما يعنون الكراهة التحريمية ، لكن نصُّوا - وبخاصَّة منهم الإمام الشافعي - على أن المسجد الذي تُكره فيه تكرار الجماعة هو المسجد له إمام راتب و مؤذِّن راتب ؛ لأن تحقُّق هاتَين الصِّفتَين في المسجد هو الذي يجمع المسلمين في ذاك المسجد ؛ الإمام والمؤذِّن ، أما مسجد على قارعة الطريقة ليس له مؤذِّن يدعوهم ، وليس له إمام يجمَعُهم ؛ فلا تُكره تكرار الجماعة في هذا المسجد ، والفرق واضح جدًّا ، وهو الذي رمى إليه هؤلاء العلماء والفقهاء ؛ ذلك أن تكرار الجماعة في المسجد له إمام راتب ومؤذِّن راتب عاقبة ذلك تفريق الجماعة ، وما سُمِّيت صلاة الجماعة إلا للتجميع ، فأيُّ عمل عارَضَ المقصد من شرعية الجماعة وهو تفريق الجمع يكون طبعًا مخالفًا للشرع ؛ ولذلك فلا يُشرع اتِّخاذ أيُّ سبب أو أيُّ وسيلة يؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى .
أما المسجد الذي ليس له إمام راتب ولا مؤذِّن راتب فليس هناك جماعة تُفرَّق ، بل على العكس من ذلك ؛ هناك جماعات تُجمَّع ، كمثل - مثلًا - عيلة في الدار يُصلِّي جماعة منهم ، وناس منهم آخرون مشغولون أو غائبون ، ثم يعودون إلى الدار فيصلون جماعة ثانية ؛ لا أحد يقول بكراهة ذلك ؛ لأنه لا يؤدِّي إلى تفريق جماعة منتظمة ؛ لذلك قال أولئك العلماء بأن هذا الحكم حكم كراهة تكرار الجماعة إنما يختصُّ بالمسجد له إمام راتب ومؤذِّن راتب .
فإذًا حينما نسمع الأحاديث التي تُبيِّن أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة فلا ينبغي أن نفهم لفظة : " الجماعة " ، أو بعبارة أدق أن نفهم أن " أل " في الجماعة للاستغراق والشمول ، وإنما هي للعهد ، فنقول : صلاة الجماعة هي الجماعة الأولى ، وبالشرط السابق ؛ ما تكون جماعة معتدية على الجماعة الراتبة ، فصلاة الجماعة هي الجماعة الأولى ؛ فـ " أل " هنا ليست للاستغراق والشمول وإنما هي للعهد .
من أجل هذا الحديث وأمثاله نقول : يجب أن تُفسَّرَ نصوص الشريعة وأقوال الرسول - عليه الصلاة والسلام - على ضوء الواقع والحياة النبويَّة الكريمة .
فلا يجوز أن نأتي إلى نصٍّ مطلق فنُطبِّقه نحن اليوم على إطلاقه ؛ مع أننا نعلم أنه لم يُطبَّق في عهد النبوة والرسالة على إطلاقه ، كذلك لا يجوز أن نأتي إلى نصٍّ عامٍّ فنُطبِّقه على عمومه ونحن نعلم أنه لم يُطبَّق على عمومه ، ومراعاة هذه القاعدة يُخلِّص صاحبها من الانحراف ومن الوقوع في محدثات من الأمور يقع فيها جماهير الناس حينما يأتون إلى مثل هذه النصوص المطلقة أو العامة فيفسِّرونها بالتقيُّد فقط بالأسلوب العربي دون أن يعودوا في ذلك إلى ملاحظة ما فسَّرَه الرسول - عليه السلام - إما بقوله أو بفعله أو بتقريره .
ولعله مما يُوضِّح لكم هذه القاعدة الخطيرة الهامة بالإضافة إلى هذا الحديث الذي كنَّا في صدده أن نقرِّب لكم هذا الموضوع بالآية المعروفة : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، إذا أردنا أن نفسِّر هذه الآية اعتمادًا منَّا فقط على الأسلوب العربي لَفَهِمْنا من قوله - تعالى - : { وَالسَّارِقُ } أيَّ سارق كان ، أيَّ سارق كان ؛ سواء سرق قلمًا من رصاص أو قلمًا من ذهب ، هذا اسمه سارق وهذا اسمه سارق ؛ فهل هذا السارق وذاك كلاهما سواء من حيث أنهما يدخلان في عموم قوله - تعالى - : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } ؟ أما من حيث اللغة العربية فالجواب : نعم ، أما من حيث الواقع النبوي والتفسير النبوي فالجواب : لا ؛ لماذا ؟ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله سلم - كان يقول : "لا قطعَ إلا في ربع دينار فصاعدًا" ؛ إذًا ما دون الربع من المسروق لا يجوز قطع يد هذا السارق .
فإذًا كيف أخيرًا نفهم { وَالسَّارِقُ } ؟ { وَالسَّارِقُ } " أل " للعهد وليس للاستغراق والشمول ؛ أي : { وَالسَّارِقُ } الذي سرق ما قيمته ربع دينار فصاعدًا فهو الذي يستحقُّ القطع المذكور في تمام الآية ، كذلك السارقة . هذا من جهة السارق المطلق ذكرُه في الآية ، فَهِمنا أن هذا الإطلاق غير مقصود من بيان الرسول - عليه السلام - القولي .
ثم قال - تعالى - : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، تُرى اليد في اللغة هل هي محصورة في الكفِّ ولَّا بالذراع ولَّا هذه كلها يد ؟ هذه كلها يد ، تُرى مَن سرق ربع دينار فصاعدًا هل يجوز أن نقطع يده من ههنا ؟ أما لغةً ؛ فالجواب : نعم ؛ لأنها يد ، فحيثما قطعْتَ فقد قطعْتَ اليد ، لكن شرعًا هل يجوز أن تقطع يد السارق من هنا ؟ الجواب : لا . من أين أخذنا هذا ؟ من بيان الرسول - عليه السلام - الواقعي العملي ؛ فهو كان يقطع من هنا وليس من هنا ولا من هنا ، هذا مثال يجب أن تُلحق به أمثلة بالمئات ، وما أحوجنا نحن اليوم في العصر الحاضر إلى استحضار هذه القاعدة ؛ لأن كثيرًا من الناس يأتون إلى نصوص عامة لم يَجْرِ العمل عليها فيستدلون بها وبيقولوا : النَّصُّ العام حجة ، نقول : صحيح ، ولكن النَّصُّ العام إذا لم يَجْرِ العمل على عمومه فليس بحجَّة ، إذا لم يَجْرِ العمل على عمومه فليس بحجَّة .
مثلًا لو جاء شخص يدَّعي الفقه والفهم ، وهو من جهة أخرى يَرمي إلى تقريب وإلى ما يزعمونه من التسوية بين حقوق الرجال وحقوق النساء ، هذه الدَّعوة العارمة اليوم التي صرفَتْ كثيرًا من المسلمين عن العقيدة الإسلامية وعن الأحكام الإسلامية ؛ يقولون - مثلًا - أن المرأة صِنو الرجل ، وأن التفريق بين المرأة والرجل هذا جمود وهذه رجعيَّة ، فيجب أن نعامل المرأة معاملتنا للرجل ، وقد لا يعدمون بعض النصوص التي تؤيِّدهم في هذا الاتجاه ، مثلًا يقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - في " صحيح مسلم " : "يؤمُّ القومَ أقرَؤُهم لكتاب الله ؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" ، وكثيرًا ما ينعقد الاجتماع في دارٍ ما في عائلةٍ ما ، فيتَّفق أن تكون امرأة من بين هذا القوم أفقههم وأقرؤهم ؛ فهل يجوز لمتفقِّه يريد هذا التقريب بين النساء والرجال يقول : يا أخي ، الرسول يقول : "يؤمُّ القومَ أقرَؤُهم" ؛ فمن أقرؤنا ؟ فاطمة . قومي يا فاطمة صلِّي بنا إمامًا !!
هذا دليل تضحكون منه ولكم الحقُّ ، لكن لو لاحظتم أن استدلالهم بالعموم صحيح فهو صحيح ، ولكن الجواب لردِّ هذه الدعوة المزعومة صِحتها نقول : هل جرى عمل السلف الصالح على الاستدلال بهذا الحديث على عمومه بحيث تُقدَّم المرأة لِفقهها فتؤمُّ الرجال ؟ الجواب : لا ، كذلك - مثلًا - القضاء والإفتاء هل نَنْصِبُ امرأةً تفتي الناس ، تقضي بين الناس وهي فقيهة وقاضية ، وأُعطِيَت خصال قد لا توجد في كثير من الرجال ؟ الجواب : لا ؛ لم ؟ لأنه يخالف الحياة حياة السلف ؛ الصحابة فمَن بعدهم ، فقد كان فيهم كثير من الفقيهات وكثير من المحدِّثات ، ومع ذلك فبَقِيَ التفريق في الأحكام وفي المعاملات بين الرجال والنساء ماشيًا كما هو المعلوم اليوم عند جماهير المسلمين .
والأمثلة في هذا يعني كثيرة وكثيرة جدًّا ، لكني أخيرًا أختم التمثيل بمثال حسَّاس وواقعي ؛ اليوم توجد نغمة عند النساء المسلمات وليس النساء المتبرِّجات اللاتي لا يبالين بالحرام والحلال ، النغمة الجديدة عند النساء المسلمات هو أنه يبرز من بينهنَّ عدد منهنَّ يدَّعين أنهنَّ داعيات ، فتراهن ينطلقْنَ يمينًا ويسارًا ويسافرن في سبيل ماذا ؟ في سبيل الدعوة ، ويسمَّيْن بالداعيات ، مثل ما فيه دعاة فيه - أيضًا - داعيات ، هذه بدعة في الإسلام لا يعرفها المسلمون إطلاقًا ، وهذا معناه إفساح المجال للنساء أن يتولَّوا أحكام وخصائص الرجال .
ولا يبعد أن يأتي زمن أن نرى النساء تجلس وتنصب نفسها للإفتاء ، وتنصب نفسها للقضاء ؛ فما هي الحجة للرَّدِّ على هذه الاتجاهات التي بعضها قد ذَرَّ قرنه ، وبعضها يأتي - والله أعلم - فيما بعد ؟ الجواب : "وإيَّاكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار" .
هذه بعض الأمثلة لبيان أن النَّصَّ العام إذا لم يجرِ عليه العمل فلا يجوز الاعتماد على عمومه .

Webiste