تفسير آخر سوة النجم وأوائل سورة القمر .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء الحادي والثّمانون بعد المائة من اللّقاءات المعروفة باسم لقاء الباب المفتوح الذي يتمّ كلّ يوم خميس من كلّ أسبوع، وهذا الخميس هو الثامن عشر من شهر محرّم عام 1419، نبتدأ هذا اللّقاء كجاري العادة بتفسير آيات من كتاب الله عزّ وجلّ، وقد اخترنا أن نبدأ بالمفصّل الذي يبتدأ من سورة ق إلى آخر القرآن، لأنّه هو الذي يكثر سماعه عند العامّة حيث إنّه يقرأ في الصّلوات المفروضة.
انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا : والخطاب هنا للمكذّبّين للرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، والاستفهام في قوله: أفمن هذا الحديث للإنكار والتّعجيب من هؤلاء المكذّبين للرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء بالآيات البيّنات، وأخبر عن الأمم السّابقة، وبيّن أنّ محمّدًا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نذير من النّذر الأولى، ويُخشى على من كذّبه أن يناله من العذاب ما نال المكذّبّين للنّذر الأولى.
يقول الله عزّ وجلّ: أفمن هذا الحديث تعجبون أيّها المكذّبون للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ومعنى تعجبون أي: ترونه عجبًا منكرًا ولهذا قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا * إنّ هذا لشيء عجاب ، وقال الله تعالى: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب * أإذا متنا وكنّا ترابًا ذلك رجع بعيد ، فهم يتّخذون ما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عجباً، والمراد عجب الإنكار والاستبعاد.
وتضحكون يعني: استهزاءً بهذا الحديث الذي هو القرآن، وكذلك يضحكون بشرائع هذا الحديث، حيث كانوا يضحكون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعباداته ويسخرون به، إذن تعجبون: إنكار، وتضحكون استهزاءً.
ولا تبكون يعني: لا تبكون من هذا الحديث خشية وخوفا وإنابة إلى الله عزّ وجلّ، بل هم أقسى النّاس قلوباً والعياذ بالله أو من أقسى النّاس قلوباً، لا تلين قلوبهم ولا يبكون من خشية الله.
وأنتم سامدون : سامدون أي: غافلون بما تمارسونه من اللّهو والغناء وغير ذلك، لأنّ منهم إذا سمعوا كلام الله عزّ وجلّ جعلوا يغنّون كما قال تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوا فيه لعلّكم تغلبون فسامدون قيل المعنى: مغنّون، وقيل المعنى: غافلون، والصّواب أنّ المراد غافلون عنه بالغناء وغيره ممّا تتلهّون به حتى لا تسمعوا كلام الله عزّ وجلّ، وهذا نظير ما قاله المكذّبون لأوّل رسول أرسل إلى بني آدم حيث قال الله تبارك وتعالى عن قوم نوح: وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم : حتى لا يسمعوا، واستغشوا ثيابهم أي: تغطّوا بها حتّى لا يبصروا، واستكبروا استكباراً فما كان في أوّل أمّة كان في آخر أمّة.
وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا : اسجدوا لله خضوعاً وذلاّ والمراد بالسّجود هنا الصّلوات كلّها وليس الرّكن الخاصّ الذي هو السّجود، وليس أيضًا سجود التّلاوة بل هو عامّ في كلّ الصّلوات.
واعبدوا : هذا عامّ لكلّ العبادات، وخصّ الصّلاة بالذّكر وقدّمها، لأنّها أهمّ العبادات البدنيّة الظّاهرة بعد الشّهادتين، وعلى هذا فيكون العطف في قوله: واعبدوا على قوله: فاسجدوا من باب عطف العامّ على الخاصّ، كما أنّ قوله تعالى: تنزّل الملائكة والرّوح فيها من باب عطف الخاصّ على العامّ.
انتهى الكلام على ما منّ الله به على هذه السّورة، سورة النّجم، أسأل الله تعالى أن ينفعني وإيّاكم به.
ثمّ قال الله تعالى: بسم الله الرّحمن الرّحيم اقتربت السّاعة :
البسملة آية مستقلة تفتتح بها كلّ سورة ما عدا سورة براءة، وهي أي: البسملة متعلّقة بمحذوف يقدّر فعلاً مناسباً لما ابتدأ به، فإذا قلنا بسم الله على القراءة كان تقدير الكلام: بسم الله أقرأ، وإذا كنّا نريد أن نأكل وقلنا بسم الله كان التّقدير بسم الله آكل، وإذا كنّا نريد أن نذبح شاةً أو نحوها قلنا بسم الله أذبح، ولهذا قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ومن لم يذبح فليذبح على اسم الله -أو قال- بسم الله .
إذن الجارّ والمجرور في البسملة متعلّق بمحذوف يقدّر فعلاً لا اسماً، متأخّراً لا متقدّماً، مناسباً لما ابتدئ به انتبه لهذه الثلاثة، يقدّر فعلا يعني لا اسمًا، ومتأخّرا لا متقدّما، ثالثا: مناسبا لما ابتدئ به.
قلنا: إنّه يقدّر فعلا لأنّ الأصل في العامل أن يكون فعلا ولذلك يعمل الفعل عمله بدون أيّ شرط، وأمّا الأسماء فلا تعمل عملها إلاّ بشروط، المصدر له شروط، يعمل عمل الفعل بشروط، اسم الفاعل بشروط، اسم المفعول بشروط، الصّفة المشبّهة، جميع العوامل غير الفعل لا تعمل إلاّ بشروط، الفعل يعمل بدون شرط.
وقدّرناه متأخّرا تبرّكاً بالبداءة باسم الله، هذا واحد، وثانياً: ليفيد الحصر، أي: أنّي أقرأ مثلاً بسم الله لا باسم غيره، فنقدّر العامل مؤخّرا تبرّكا بالبداءة باسم الله، ثانيا: لإفادة الحصر.
نقدّره مناسباً لما ابتدئ به، لأنّه أدلّ على المقصود فمثلا لو أردنا أن نقرأ وقلنا بسم الله الرّحمن الرّحيم التّقدير باسم الله أبتدأ، هل يفهم السّامع أنّك تريد أن تقرأ؟
لا، يفهم أنّك تريد أن تبتدأ، لكن إذا قلت بسم الله أقرأ فهم أنّك تريد القراءة، لذلك قلنا إنّه يقدّر فعلاً مناسباً.
هذه البسملة آية من كتاب الله لا يقرؤها الجنب باعتبار أنّها قرآن لكن يقرؤها باعتبار أنّها ذكر، فلو أراد أن يأكل وقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم فليس حراماً عليه، لكن لو أراد القراءة وقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم وهو جنب قلنا إنّ هذا حرام عليك.
أمّا معناها فنعيده لأنّه تقدّم لنا من زمن طويل:
اسم الله مفرد مضاف فيعمّ جميع الأسماء، فإذا قلت: بسم الله فكأنّما قلت بكلّ اسم من أسماء الله، وأسماء الله تعالى كلّها خبر وبركة، حتى إنّ الإنسان ليذبح الذّبيحة بآلة حادّة وينهر الدّم ولا يسمّي فتكون ميتة لا تحلّ، فإذا سمّى صارت طيّبة حلالا، وإنّ الإنسان ليأكل فيشاركه الشّيطان في أكله ويأكل معه وتنزع البركة من أكله فإذا قال: بسم الله امتنع الشّيطان من الأكل معه، وإنّ الإنسان يسمّي عند إتيان أهله فإذا قدّر بينهما ولد لم يضرّه الشّيطان أبدًا إذا قال: بسم الله اللهمّ جنّبنا الشّيطان وجنّب الشّيطان ما رزقتنا ، وإنّ الإنسان يسمّي على الوضوء فيكون صحيحاً، ويدع التّسمية على الوضوء فيكون غير صحيح عند بعض أهل العلم، الخلاصة أنّ البسملة كلّها بركة.
أمّا الله فهو علم على ربّ العالمين جلّ وعلا لا يسمّى به غيره.
والرّحمن ذو الرّحمة الواسعة العامّة لكلّ شيء.
والرّحيم ذو الرّحمة الخاصّة التي قال الله فيها: وكان بالمؤمنين رحيماً وقيل الرّحمن باعتبار الوصف والرّحيم باعتبار الفعل.
اقتربت السّاعة وانشقّ القمر : اقتربت بمعنى: قربت، لكنّ العلماء يقولون: " إنّ زيادة المبنى يدلّ على زيادة المعنى "، وهنا اقتربت فيها زيادة في المبنى على قربت، ما هي الزّيادة؟
الهمزة والتّاء، فيدلّ على أنّ القرب قريب جدّا، فمعنى اقتربت أي: قربت جدّا، والسّاعة هي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى فيها: فهل ينظرون إلاّ السّاعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أشراطها أي: علاماتها، من علاماتها بعثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ بعثة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وكونه خاتم الأنبياء دليل على أنّه قد قربت السّاعة، ولهذا حقّق النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام هذا بقوله: بعثت أنا والسّاعة كهاتين وقال: بأصبعه الوسطى والسّبّابة : السّبّابة قريبة من الوسطى أليس كذلك؟
ليس بينهما إلاّ جزء يسير مقدار الضّفر، وهذا يدلّ على قربها، ولكن مع ذلك كم بيننا وبين الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الآن؟
نحن في القرن الخامس عشر الهجري، والهجرة كانت بعد بعثة الرّسول صلى الله عليه وسلّم بثلاث عشرة سنة، ومع ذلك مازالت الدّنيا باقية، ممّا يدلّ على أنّ ما مضى طويل جدّا، حتى إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم خطب النّاس ذات يوم عند غروب الشّمس فقال: إنه لم يبق من الدّنيا -يعني بالنّسبة لمن سبقكم- إلاّ كما بقي من يومكم هذا .
إذن اقتربت السّاعة أي: قرب يوم القيامة.
وانشقّ القمر : وكأنّ الله عزّ وجلّ أشار إلى أنّ هذا من أشراط السّاعة، انشقّ القمر يعني: صار فرقتين، تميّز بعضهما عن بعض، أحدهما على جبل أبي قبيس والثاني على جبل قعيقعة يعني واحد على الصّفا وواحد على المروة، والمسافة في رؤيا العين ما بين الصّفا والمروة بعيدة جدّا، قد تستغرق سنوات.
انشقّ القمر بلحظة بأمر الله عزّ وجلّ، وتباعدت أجزاؤه بلحظة، لأنّ قريشاً كانوا يتحدّون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، ويطلبون منه الآيات وقد قال الله ردّا عليهم: قل إنّما الآيات عند الله وإنّما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم لكن لا يكفيهم لأنّهم معاندون لا يريدون الحقّ، أتوا إلى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وقالوا: يا محمّد أنت تقول أنّك رسول وأنّك يأتيك الخبر من السّماء وكذا وكذا أرنا آية، فأشار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى القمر ودعا ربّه فانفلق فرقتين في لحظة، من يفكّ هذا الجسم العظيم الأفقيّ العالي؟!
إلاّ ربّ العالمين عزّ وجلّ أراهم إيّاه لكن هل نفع؟ لا، ما نفع! وقالوا: سحرنا محمّد، وبعضهم قال: سحر القمر وأنكروا، فقال بعضهم لبعض: اسألوا المسافرين إذا قدموا هل رأوه أم لا فصاروا يسألون المسافرين من كلّ وجه يقدمون مكّة، فيقولون: نعم رأيناه في اللّيلة الفلانيّة كذا وكذا، وهذا بالنّسبة للقريبين منهم كأهل الجزيرة مثلا، أمّا البعيدون فقد لا يرون هذا، لماذا؟
للبعد، وكما نعلم الآن أنّ اللّيل هنا يكون نهارا، أو لوجود غيوم وضباب كثير يمنع الرّؤية ولهذا لا يمكن أبدًا لأيّ عاقل أن ينكر انشقاق القمر انشقاقًا حسّيًّا لأنّه لم يذكر في تاريخ اليونان ولم يذكر في تاريخ الهند، ولم يذكر في تاريخ كذا وكذا، هذا ليس حجّة يبطل به ما ثبت في الصّحيحن وغيرهما من أنّ القمر انشقّ فعلا، انشقاقاً حسّيّاً، ونحن نؤمن بأنّ القادر على أن يطوي السّماوات بيمينه كطيّ السّجلّ للكتب قادر على أن يفلق القمر فرقتين، أيّ شيء يعجزه؟ أجيبوا؟
الطالب : لا شيء.
الشيخ : لا شيء، وما كان الله ليعجزه من شيء في السّماوات ولا في الأرض إنّه كان عليماً قديراً ولهذا لا وجه لإنكار من أنكر ذلك ممّن ينتسبون إلى الإسلام ويقولون: إنّ الأفلاك السّماويّة لا يمكن أن تتغيّر، نقول الله أكبر! من الذي خلق الأفلاك السّماويّة؟ أليس الله؟
بلى، إذن هو قادر على أن يغيّرها، إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
إذن انشقاق القمر انشقاق حسّيّ انفلق فرقتين، ورآه النّاس وشاهدوه، ولكن المكابر المعاند لا يقبل شيئاً ولهذا قال: وإن يروا آية يعرضوا آية نكرة في سياق؟ أجيبوا يا طلبة العلم؟
الطالب : في سياق الشّرط.
الشيخ : في سياق الشّرط، إن يروا، يعني: أيّ آية يرونها يعرضون عنها ولا يقبلونها، ويجمعون بين الإعراض وبين الإنكار باللّسان، يعرضوا أي: بقلوبهم وأبدانهم، ويقولوا بألسنتهم هذا سحر مستمرّ، وتعرفون أنّ السّحر يؤثّر لا في قلب الأعيان ولكن في رؤية الأعيان، ألم تروا أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام لما ألقى السّحرة سحرهم كان يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى، انقلب الوادي كلّه حيّات تسعى، حتى إنّ موسى أوجس في نفسه خيفة مِن هول ما رأى لكن هذه الحبال والعصيّ هل انقلبت إلى حيّات أو هي هي؟
هي هي، لكن حسب نظر الرّائي أنّها حيّات، فهم يقولون هذا سحر، سحرنا محمّد حتى كانت أعيننا ترى القمر فرقتين وهو واحد.
ويقولوا سحر مستمرّ مستمرّ قيل: إنّ المعنى زائل ذاهب من مرّ بالشّيء إذا تجاوزه، يقولون هذا سحر ولن يستقرّ ولا قرار له، وقيل: مستمرّ يعني كلّ الآيات التي يأتي بها سحر أي: مستمرّ من إمرار الشّيء ودوامه، وأيّا كان فإنّهم أنكروا وكذّبوا ولهذا قال: وكذّبوا أي: كذّبوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذّبوا بآياته.
واتّبعوا أهواءهم أي: ما يريدون من الباطل.
وكلّ أمر مستقرّ الله أكبر! كلّ أمر مستقرّ أي: لا بدّ له من قرار، فهؤلاء المكذّبون قرارهم الذّلّ والخسران في الدّنيا والنّار في الآخرة، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن اتّبعه أمرهم مستقِرّ بالنّصر والتّأييد في الدّنيا، والجنّة في الآخرة، جعلنا الله وإيّاكم منهم.
وإلى هنا يأتي الكلام على ما تيسّر من تفسير الآيات، ونبدأ الآن بالأسئلة، من اليمين.
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء الحادي والثّمانون بعد المائة من اللّقاءات المعروفة باسم لقاء الباب المفتوح الذي يتمّ كلّ يوم خميس من كلّ أسبوع، وهذا الخميس هو الثامن عشر من شهر محرّم عام 1419، نبتدأ هذا اللّقاء كجاري العادة بتفسير آيات من كتاب الله عزّ وجلّ، وقد اخترنا أن نبدأ بالمفصّل الذي يبتدأ من سورة ق إلى آخر القرآن، لأنّه هو الذي يكثر سماعه عند العامّة حيث إنّه يقرأ في الصّلوات المفروضة.
انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا : والخطاب هنا للمكذّبّين للرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، والاستفهام في قوله: أفمن هذا الحديث للإنكار والتّعجيب من هؤلاء المكذّبين للرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء بالآيات البيّنات، وأخبر عن الأمم السّابقة، وبيّن أنّ محمّدًا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نذير من النّذر الأولى، ويُخشى على من كذّبه أن يناله من العذاب ما نال المكذّبّين للنّذر الأولى.
يقول الله عزّ وجلّ: أفمن هذا الحديث تعجبون أيّها المكذّبون للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ومعنى تعجبون أي: ترونه عجبًا منكرًا ولهذا قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا * إنّ هذا لشيء عجاب ، وقال الله تعالى: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب * أإذا متنا وكنّا ترابًا ذلك رجع بعيد ، فهم يتّخذون ما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عجباً، والمراد عجب الإنكار والاستبعاد.
وتضحكون يعني: استهزاءً بهذا الحديث الذي هو القرآن، وكذلك يضحكون بشرائع هذا الحديث، حيث كانوا يضحكون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعباداته ويسخرون به، إذن تعجبون: إنكار، وتضحكون استهزاءً.
ولا تبكون يعني: لا تبكون من هذا الحديث خشية وخوفا وإنابة إلى الله عزّ وجلّ، بل هم أقسى النّاس قلوباً والعياذ بالله أو من أقسى النّاس قلوباً، لا تلين قلوبهم ولا يبكون من خشية الله.
وأنتم سامدون : سامدون أي: غافلون بما تمارسونه من اللّهو والغناء وغير ذلك، لأنّ منهم إذا سمعوا كلام الله عزّ وجلّ جعلوا يغنّون كما قال تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوا فيه لعلّكم تغلبون فسامدون قيل المعنى: مغنّون، وقيل المعنى: غافلون، والصّواب أنّ المراد غافلون عنه بالغناء وغيره ممّا تتلهّون به حتى لا تسمعوا كلام الله عزّ وجلّ، وهذا نظير ما قاله المكذّبون لأوّل رسول أرسل إلى بني آدم حيث قال الله تبارك وتعالى عن قوم نوح: وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم : حتى لا يسمعوا، واستغشوا ثيابهم أي: تغطّوا بها حتّى لا يبصروا، واستكبروا استكباراً فما كان في أوّل أمّة كان في آخر أمّة.
وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا : اسجدوا لله خضوعاً وذلاّ والمراد بالسّجود هنا الصّلوات كلّها وليس الرّكن الخاصّ الذي هو السّجود، وليس أيضًا سجود التّلاوة بل هو عامّ في كلّ الصّلوات.
واعبدوا : هذا عامّ لكلّ العبادات، وخصّ الصّلاة بالذّكر وقدّمها، لأنّها أهمّ العبادات البدنيّة الظّاهرة بعد الشّهادتين، وعلى هذا فيكون العطف في قوله: واعبدوا على قوله: فاسجدوا من باب عطف العامّ على الخاصّ، كما أنّ قوله تعالى: تنزّل الملائكة والرّوح فيها من باب عطف الخاصّ على العامّ.
انتهى الكلام على ما منّ الله به على هذه السّورة، سورة النّجم، أسأل الله تعالى أن ينفعني وإيّاكم به.
ثمّ قال الله تعالى: بسم الله الرّحمن الرّحيم اقتربت السّاعة :
البسملة آية مستقلة تفتتح بها كلّ سورة ما عدا سورة براءة، وهي أي: البسملة متعلّقة بمحذوف يقدّر فعلاً مناسباً لما ابتدأ به، فإذا قلنا بسم الله على القراءة كان تقدير الكلام: بسم الله أقرأ، وإذا كنّا نريد أن نأكل وقلنا بسم الله كان التّقدير بسم الله آكل، وإذا كنّا نريد أن نذبح شاةً أو نحوها قلنا بسم الله أذبح، ولهذا قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ومن لم يذبح فليذبح على اسم الله -أو قال- بسم الله .
إذن الجارّ والمجرور في البسملة متعلّق بمحذوف يقدّر فعلاً لا اسماً، متأخّراً لا متقدّماً، مناسباً لما ابتدئ به انتبه لهذه الثلاثة، يقدّر فعلا يعني لا اسمًا، ومتأخّرا لا متقدّما، ثالثا: مناسبا لما ابتدئ به.
قلنا: إنّه يقدّر فعلا لأنّ الأصل في العامل أن يكون فعلا ولذلك يعمل الفعل عمله بدون أيّ شرط، وأمّا الأسماء فلا تعمل عملها إلاّ بشروط، المصدر له شروط، يعمل عمل الفعل بشروط، اسم الفاعل بشروط، اسم المفعول بشروط، الصّفة المشبّهة، جميع العوامل غير الفعل لا تعمل إلاّ بشروط، الفعل يعمل بدون شرط.
وقدّرناه متأخّرا تبرّكاً بالبداءة باسم الله، هذا واحد، وثانياً: ليفيد الحصر، أي: أنّي أقرأ مثلاً بسم الله لا باسم غيره، فنقدّر العامل مؤخّرا تبرّكا بالبداءة باسم الله، ثانيا: لإفادة الحصر.
نقدّره مناسباً لما ابتدئ به، لأنّه أدلّ على المقصود فمثلا لو أردنا أن نقرأ وقلنا بسم الله الرّحمن الرّحيم التّقدير باسم الله أبتدأ، هل يفهم السّامع أنّك تريد أن تقرأ؟
لا، يفهم أنّك تريد أن تبتدأ، لكن إذا قلت بسم الله أقرأ فهم أنّك تريد القراءة، لذلك قلنا إنّه يقدّر فعلاً مناسباً.
هذه البسملة آية من كتاب الله لا يقرؤها الجنب باعتبار أنّها قرآن لكن يقرؤها باعتبار أنّها ذكر، فلو أراد أن يأكل وقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم فليس حراماً عليه، لكن لو أراد القراءة وقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم وهو جنب قلنا إنّ هذا حرام عليك.
أمّا معناها فنعيده لأنّه تقدّم لنا من زمن طويل:
اسم الله مفرد مضاف فيعمّ جميع الأسماء، فإذا قلت: بسم الله فكأنّما قلت بكلّ اسم من أسماء الله، وأسماء الله تعالى كلّها خبر وبركة، حتى إنّ الإنسان ليذبح الذّبيحة بآلة حادّة وينهر الدّم ولا يسمّي فتكون ميتة لا تحلّ، فإذا سمّى صارت طيّبة حلالا، وإنّ الإنسان ليأكل فيشاركه الشّيطان في أكله ويأكل معه وتنزع البركة من أكله فإذا قال: بسم الله امتنع الشّيطان من الأكل معه، وإنّ الإنسان يسمّي عند إتيان أهله فإذا قدّر بينهما ولد لم يضرّه الشّيطان أبدًا إذا قال: بسم الله اللهمّ جنّبنا الشّيطان وجنّب الشّيطان ما رزقتنا ، وإنّ الإنسان يسمّي على الوضوء فيكون صحيحاً، ويدع التّسمية على الوضوء فيكون غير صحيح عند بعض أهل العلم، الخلاصة أنّ البسملة كلّها بركة.
أمّا الله فهو علم على ربّ العالمين جلّ وعلا لا يسمّى به غيره.
والرّحمن ذو الرّحمة الواسعة العامّة لكلّ شيء.
والرّحيم ذو الرّحمة الخاصّة التي قال الله فيها: وكان بالمؤمنين رحيماً وقيل الرّحمن باعتبار الوصف والرّحيم باعتبار الفعل.
اقتربت السّاعة وانشقّ القمر : اقتربت بمعنى: قربت، لكنّ العلماء يقولون: " إنّ زيادة المبنى يدلّ على زيادة المعنى "، وهنا اقتربت فيها زيادة في المبنى على قربت، ما هي الزّيادة؟
الهمزة والتّاء، فيدلّ على أنّ القرب قريب جدّا، فمعنى اقتربت أي: قربت جدّا، والسّاعة هي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى فيها: فهل ينظرون إلاّ السّاعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أشراطها أي: علاماتها، من علاماتها بعثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ بعثة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وكونه خاتم الأنبياء دليل على أنّه قد قربت السّاعة، ولهذا حقّق النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام هذا بقوله: بعثت أنا والسّاعة كهاتين وقال: بأصبعه الوسطى والسّبّابة : السّبّابة قريبة من الوسطى أليس كذلك؟
ليس بينهما إلاّ جزء يسير مقدار الضّفر، وهذا يدلّ على قربها، ولكن مع ذلك كم بيننا وبين الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الآن؟
نحن في القرن الخامس عشر الهجري، والهجرة كانت بعد بعثة الرّسول صلى الله عليه وسلّم بثلاث عشرة سنة، ومع ذلك مازالت الدّنيا باقية، ممّا يدلّ على أنّ ما مضى طويل جدّا، حتى إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم خطب النّاس ذات يوم عند غروب الشّمس فقال: إنه لم يبق من الدّنيا -يعني بالنّسبة لمن سبقكم- إلاّ كما بقي من يومكم هذا .
إذن اقتربت السّاعة أي: قرب يوم القيامة.
وانشقّ القمر : وكأنّ الله عزّ وجلّ أشار إلى أنّ هذا من أشراط السّاعة، انشقّ القمر يعني: صار فرقتين، تميّز بعضهما عن بعض، أحدهما على جبل أبي قبيس والثاني على جبل قعيقعة يعني واحد على الصّفا وواحد على المروة، والمسافة في رؤيا العين ما بين الصّفا والمروة بعيدة جدّا، قد تستغرق سنوات.
انشقّ القمر بلحظة بأمر الله عزّ وجلّ، وتباعدت أجزاؤه بلحظة، لأنّ قريشاً كانوا يتحدّون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، ويطلبون منه الآيات وقد قال الله ردّا عليهم: قل إنّما الآيات عند الله وإنّما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم لكن لا يكفيهم لأنّهم معاندون لا يريدون الحقّ، أتوا إلى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وقالوا: يا محمّد أنت تقول أنّك رسول وأنّك يأتيك الخبر من السّماء وكذا وكذا أرنا آية، فأشار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى القمر ودعا ربّه فانفلق فرقتين في لحظة، من يفكّ هذا الجسم العظيم الأفقيّ العالي؟!
إلاّ ربّ العالمين عزّ وجلّ أراهم إيّاه لكن هل نفع؟ لا، ما نفع! وقالوا: سحرنا محمّد، وبعضهم قال: سحر القمر وأنكروا، فقال بعضهم لبعض: اسألوا المسافرين إذا قدموا هل رأوه أم لا فصاروا يسألون المسافرين من كلّ وجه يقدمون مكّة، فيقولون: نعم رأيناه في اللّيلة الفلانيّة كذا وكذا، وهذا بالنّسبة للقريبين منهم كأهل الجزيرة مثلا، أمّا البعيدون فقد لا يرون هذا، لماذا؟
للبعد، وكما نعلم الآن أنّ اللّيل هنا يكون نهارا، أو لوجود غيوم وضباب كثير يمنع الرّؤية ولهذا لا يمكن أبدًا لأيّ عاقل أن ينكر انشقاق القمر انشقاقًا حسّيًّا لأنّه لم يذكر في تاريخ اليونان ولم يذكر في تاريخ الهند، ولم يذكر في تاريخ كذا وكذا، هذا ليس حجّة يبطل به ما ثبت في الصّحيحن وغيرهما من أنّ القمر انشقّ فعلا، انشقاقاً حسّيّاً، ونحن نؤمن بأنّ القادر على أن يطوي السّماوات بيمينه كطيّ السّجلّ للكتب قادر على أن يفلق القمر فرقتين، أيّ شيء يعجزه؟ أجيبوا؟
الطالب : لا شيء.
الشيخ : لا شيء، وما كان الله ليعجزه من شيء في السّماوات ولا في الأرض إنّه كان عليماً قديراً ولهذا لا وجه لإنكار من أنكر ذلك ممّن ينتسبون إلى الإسلام ويقولون: إنّ الأفلاك السّماويّة لا يمكن أن تتغيّر، نقول الله أكبر! من الذي خلق الأفلاك السّماويّة؟ أليس الله؟
بلى، إذن هو قادر على أن يغيّرها، إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
إذن انشقاق القمر انشقاق حسّيّ انفلق فرقتين، ورآه النّاس وشاهدوه، ولكن المكابر المعاند لا يقبل شيئاً ولهذا قال: وإن يروا آية يعرضوا آية نكرة في سياق؟ أجيبوا يا طلبة العلم؟
الطالب : في سياق الشّرط.
الشيخ : في سياق الشّرط، إن يروا، يعني: أيّ آية يرونها يعرضون عنها ولا يقبلونها، ويجمعون بين الإعراض وبين الإنكار باللّسان، يعرضوا أي: بقلوبهم وأبدانهم، ويقولوا بألسنتهم هذا سحر مستمرّ، وتعرفون أنّ السّحر يؤثّر لا في قلب الأعيان ولكن في رؤية الأعيان، ألم تروا أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام لما ألقى السّحرة سحرهم كان يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى، انقلب الوادي كلّه حيّات تسعى، حتى إنّ موسى أوجس في نفسه خيفة مِن هول ما رأى لكن هذه الحبال والعصيّ هل انقلبت إلى حيّات أو هي هي؟
هي هي، لكن حسب نظر الرّائي أنّها حيّات، فهم يقولون هذا سحر، سحرنا محمّد حتى كانت أعيننا ترى القمر فرقتين وهو واحد.
ويقولوا سحر مستمرّ مستمرّ قيل: إنّ المعنى زائل ذاهب من مرّ بالشّيء إذا تجاوزه، يقولون هذا سحر ولن يستقرّ ولا قرار له، وقيل: مستمرّ يعني كلّ الآيات التي يأتي بها سحر أي: مستمرّ من إمرار الشّيء ودوامه، وأيّا كان فإنّهم أنكروا وكذّبوا ولهذا قال: وكذّبوا أي: كذّبوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذّبوا بآياته.
واتّبعوا أهواءهم أي: ما يريدون من الباطل.
وكلّ أمر مستقرّ الله أكبر! كلّ أمر مستقرّ أي: لا بدّ له من قرار، فهؤلاء المكذّبون قرارهم الذّلّ والخسران في الدّنيا والنّار في الآخرة، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن اتّبعه أمرهم مستقِرّ بالنّصر والتّأييد في الدّنيا، والجنّة في الآخرة، جعلنا الله وإيّاكم منهم.
وإلى هنا يأتي الكلام على ما تيسّر من تفسير الآيات، ونبدأ الآن بالأسئلة، من اليمين.
الفتاوى المشابهة
- تفسير الآيات ( 42 - 47 ) من سورة النجم . - ابن عثيمين
- تفسير آخر سورة النجم - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 33 - 41 ) من سورة النجم . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 9 - 22 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر) - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 51 - 55) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 04 - 12 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 23 - 32 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 41 - 50 ) من سورة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير الآيات ( 33 - 40 ) من سوة القمر . - ابن عثيمين
- تفسير آخر سوة النجم وأوائل سورة القمر . - ابن عثيمين