الشيخ : سبق لنا بالأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في مكتنه في عرفة وقال : "وقفت هنا وعرفة كلها موقف" ، فدلّ الحديث بمنطوقه على أن عرفة كلها موقف ، من جميع الجوانب ، ودل بمفهومه على أن ما خرج عن عرفة فليس بموقف ، وعلى هذا فبطن عرنة ليست بموقف ، لأنه ليس من عرفة ، وقيل : بل هو منها ولكنه ليس موقفًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالبعد عنه فقال : "عرفة كلها موقف وارفعوا بطن عرنة" .
والحكمة من قوله عليه الصلاة والسلام : "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف" ليبين للناس أن الموقف لا يختص بمكان معين من عرفة ، كلها موقف ، وكأنه يقول للناس : على رسلكم ،كلّ يقف في مكانه ، وعلى هذا فيكون وقوف الرسول عليه الصلاة والسلام ثم ليس لخاصية في ذلك المكان ، ولكن لعله - والله أعلم - من أجل أن يكون خلف الصحابة رضي الله عنهم ، لأن ما وقف عنده الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقصى ما يكون من عرفة .
وبه نعرف أن الجبل الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم ليس له حظ من القدسية ، خلافًا لعامة الناس الجهلاء الذين يرون أن هذا الجبل مقدّس ، ويصعدون إليه ، ويصلّون به بعد العصر ، ويعلقون عليه الخرق كأنها ذات أنواط ، ويكتبون الكتابات على الصخرات ، وكل هذا من البدع التي يجب على طلبة العلم أن يبينوها للناس حتى يكونوا على بصيرة . وكذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام : "لقد وقفت ههنا وجمع كلها موقف" ، يعني : وقف عند المشعر الحرام صلى الله عليه وسلم وجمع يعني : مزدلفة كلها موقف ، وذكرنا أن مزدلفة لأنها أقرب المشعرين إلى مكّة ، وأما من قال لأن الناس يزدلفون فيها فيتقربون فيها إلى الله فغير مطابق للفظ ، لأن اللفظ مزدلفة اسم فاعل ، ولو كان يقصد بها ما ذكره بعض العلماء لكانت "مزدلفة" .
وقال : "نحرت ههنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم" فبين أن منى كلها منحر ، وجاء في الحديث في السنن "فجاج مكة كلها طريق ومنحر" ، وسبق لنا أن بينا أن من نحر هدي التمتع أو القران أو ما وجب لترك واجب ما نحره خارج حدود الحرم فهو غير مجزئ ، وبناء عليه يجب أن ننبه الناس الذين يذهبون يوم العيد إلى الغنم خارج الحل في عرفات أو غيرها فينحرون هناك أنها لا تجزئهم هداياهم .
حديث عائشة قالت : كانت قريش ومن دان بدينها يقفون في المزدلفة ، يعني : من تعبد بعبادتهم ، وهذا إشارة إلى أن قريشًا كانوا على دين فيما يتعلق بالحج ، لكن زادوا فيها ونقصوا ، لأن الحج تواتر بين الناس ، وتوارثوه قرنًا بعد قرن ، حتى وصل إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، يقفون بزدلفة وكانوا يسموا "الحمس" بضم الحاء ، جمع "أحمس" لماذا يقفون بالمزدلفة ؟ حمية الجاهلية ، يقولون : نحن أهل الحرم ولا يمكن أن نخرج في حجنا عن الحرم ، والناس يقفون في عرفة ، وعرفة من الحل ، فكانوا لعصبيتهم وحميتهم الجاهلية يقفون في مزدلفة .
تقول : وسائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله عز وجل : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } أي : من المكان الذي أفاض الناس منه ، وما هو المكان الذي أفاض الناس منه ؟ هو عرفات .