تم نسخ النصتم نسخ العنوان
الفوائد - ابن عثيمينالشيخ : وفيه فوائد عظيمة منها : أولا : أنه يجب على الإمام إذا بعث بعثاً أن يوصي القائد بقوى الله عز وجل في خاصة نفسه فيقول : اتقِ الله لا تنسَ طاعة الله...
العالم
طريقة البحث
الفوائد
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الشيخ : وفيه فوائد عظيمة منها :
أولا : أنه يجب على الإمام إذا بعث بعثاً أن يوصي القائد بقوى الله عز وجل في خاصة نفسه فيقول : اتقِ الله لا تنسَ طاعة الله وما أشبه ذلك.
ثانيا : أنه يجب عليه أن يوصيه بمن معه من المسلمين خيراً، خيرا تشمل خيري الدنيا والآخرة، بحيث يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويختار لهم المنازل اللائقة، والوقت المناسب للهجوم، وما أشبه ذلك. المهم أن الخير هنا لا يختص بخير الآخرة فقط، بل بخيري الدنيا والآخرة.
ومن فوائد هذا الحديث البداءة باسم الله عز وجل عند بعث البعوث، لقوله : "اغزوا باسم الله"، وهل المعنى أني أبعثكم بسم الله أو المعنى كلما أردتم الهجوم فسمّوا الله عز وجل ؟ . يحتمل هذا وهذا وكلُّه خير.
ومن فوائد الحديث أيضا التنبيه على الإخلاص، لقوله : "في سبيل الله".
ومن فوائده أيضا ذكر الأوصاف التي تدعوا إلى الاجتهاد في طلب العدو والإغراء به، لقوله : "قاتلوا من كفر بالله". وقوله : "قاتلوا من كفر بالله" كالتعليل لوجوب المقاتلة، أي قاتلوا من كفر بالله، من أجلكم.
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً تأكيد الأمر بالتكرار، إذا دعت الحاجة إليه، إما للإفهام، أو للتبصير، أو لبناء أحكام أخرى عليه غير الأحكام الأولى، لقوله : "اغزوا، ولا تمثّلوا، ولا تغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا".
الغلول الأخذ من الغنيمة، يعني بل كونوا أمناء على الغنيمة، ولا تأخذوا منها شيئأً ، فإن من غلَّ يأت بما غلَّ يوم القيامة.
"ولا تغدروا" أي لا تغدروا بمن تعاهدونه من الكفار، بل يجب أن توفوا بالعهد، لأن العهد كان مسؤولا، ولأن الغدر من صفات المنافقين لا من صفات المؤمنين.
"ولا تمثّلوا" التمثيل : قطع الأطراف، قطع الأنف أو الشفتين أو خرق العينين وما أشبه ذلك، فالتمثيل إذا محرَّم حتى في العدو، وهل هذا يشمل ما بعد الموت وما قبله ؟ . بمعنى لا تمثّلوا لا عند القتل ولا بعد القتل ؟.
ظاهر الحديث العموم، وأنه لا يجوز أن تمثّل بالعدو لا قبل أن نقتله ولا بعد أن نقتله، وهل هذا يشمل ما إذا فعل العدو بنا ذلك، أو إذا فعلوا بنا ذلك فلا حرج علينا أن نفعل بهم مثل ما فعلوا ؟ .
الثاني، الثاني لقول الله تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، ولأننا لو لم نفعل بهم ذلك لأولوا هذا على أننا ضُعفاء، لا تستطيع أن تقابلهم بما يفعلون بنا.
ومن فوائد هذا الحديث تحريم قتل الوليد يعني الصغير، فلا يجوز أن يُقتَل، لأن قتلهم ضررٌ على المسلمين، إذ أن هؤلاء الصغار يكونون أسرى مُلكاً للمسلمين، أو يَفعل فيهم الإمام ما سيُذكَر إن شاء الله فيما بعد، فلا يجوز قتل الولد ، ومثل ذلك المرأة لا يجوز قتلها .
ومثل ذلك الشيخ الفاني الذي لا يُخْشى منه أن يُقاتل، إلا أن يكون له رأي في الحرب، لأن بعض الشيوخ الكبار الذين ليس فيهم حراك، ولا يمكن أن يقاتلوا، يكون عندهم من الرأي ما هو أعظم من المقاتل، فهذا يُقتَل ، إذا عُرف عن هذا الشيخ الكبير أن له رأي وسداد، وأنه يوجُه الناس، فإنه يُقتل كما قتل النبي صلى الله عليه وسلّم دُريد بن الصّمّة، لأنه كان ذا رأي في قومه.
ومن فوائد هذا الحديث أنه يجب على الإنسان إذا لقي العدو أن يخيره بين الأمور الثلاثة : قال عليه الصلاة والسلام : "ادعوهم إلى ثلاثة خصال أو خلال -الشك من الراوي-، فأيّتُهُنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم". قوله : "أيتهن ما أجابوك"، ما هذه زائدة للتوكيد، يعني أي واحدة يجيبونك عليها فاقبل منهم، يقول : "وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام". قوله : "ثم ادعهم للإسلام" ثم : هذه للترتيب الذكري، وليس للترتيب المعنوي، لأنه لما قال : أيَّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فصَّل فقال : ثم ادعهم إلى الإسلام ، يعني الدعوة إلى الإسلام ما تأتي بعد الخصال الثلاثة، إنما هي أوَّلُ ما يُدْعَونَ إليه. فالترتيب إذن ترتيبٌ ذكري، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم أو كف عنهم، نعم.
يستفاد من فوائد الحديث أيضا أنهم إذا أجابوا إلى الاسلام، وَجَبَ القَبُول والكف، ولكن هلْ يجب أن يقبَلوا صراحةً فيقولوا : أسلمنا، أو إذا تكلموا بكلام يدل على الإسلام وإنما يكون بلفظه وجب الكف عنه ؟ .
الثاني، ولهذا عَتبَ النبي صلى الله عليه وسلّم على خالد بن الوليد رضي الله عنه حين قاتل الذين قالوا : صبأنا صبأنا، مع أنهم يريدون الإسلام ، ويأتي إن شاء الله البقية.
القارئ : قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان قال : أملاه علينا إملاء . ح وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له حدثني عبد الرحمن يعني بن مهدي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزو باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزو ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" .
قال عبد الرحمن هذا أو نحوه وزاد إسحاق في آخر حديثه عن يحيى بن آدم قال : فذكرت هذا الحديث لمقاتل بن حيان قال يحيى : يعني أن علقمة يقوله لابن حيان فقال : حدثني مسلم بن هيصم عن النعمان بن مقرن عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .

الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
هذا الحديث كما سمعتم حديث طويل فيه فوائد :
أولا : قوله : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية" فيه إثبات الإمرة على الطائفة أو القوم يكونون في سفر أو جهاد أو ما أشبه ذلك، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمّروا أحَدَهُم لئلا يقع النزاع والاضطراب والاختلاف.
قوله : "الجيش أو سرية" الجيش : ما زاد على 400 أو ما بلغ 400، والسَّرية ما دون ذلك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الجيوش والسرايا حسب ما يقتضيه الحال.
"أوصاه وحاشيته بتقوى الله عز وجل ومن معه من المسلمين خيراً" أوصاه وحاشيته : أي من كان حوله . والمراد بقية السرية أو وجهاؤها وأعيانها الذين يكونون حول الأمير.
وتقوى الله : هي اتقاء عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه على علم وبصيرة . هذا أجمع ما قيل في التقوى، أنها اتقاء عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه على علم وبصيرة .
حدها بعضهم بقوله : أن تعمل بتقوى الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله. وقال بعضهم فيها :
" خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى *** واعمل كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى "
.
لكن ما ذكرناه أولاً هو الأجمع.
وقوله : "ومن معه من المسلمين خيرا" يعني أوصاه خيراً ، أن يفعل خيراً بمن معه من المسلمين، وذلك باختيار أحسن الطرق، وأحسن المعاملة، وأحسن الإقامة، في مكان ما ، المهم كلما كان خيرا فإن الواجب على الأمير أن يسلكه، وذلك لأن المتصرف لغيره ليس كالمتصرف لنفسه، المتصرف لنفسه مخير تخيير تشهي، ما يشتهي يفعله إذا كان مباحاً، والمتصرف لغيره يخير تخيير مصلحة ، يجب عليه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الرجل يصلي لنفسه قال : "ليطوّل ما شاء" وأما إذا كان إماماً فلا يزيد على ما جاءت به السنة . إذن معنى خيرا أن يفعل خير الأمور في مسيره ونزوله وإقدامه وإحجامه وكل ما يتعلق بشؤون الغزو والرحيل.
ثم قال : "اغزو باسم الله، في سبيل الله" اغزوا مستعينين باسم الله عز وجل، في سبيل الله : أي لأعلاء كلمة الله، لأن القتال في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا.
"قاتلوا من كفر بالله" هذا بيان لقوله : اغزوا ، لأن الغزو هو قتال العدو، لكنه بينه بقوله : من كفر بالله، وتعليق الحكم بالوصف يدل على عليته، وعليه فنقول : قاتلوا من كفر بالله لماذا ؟ . لكفرهم بالله عز وجل.
"اغزوا" أكد هذا أعاد الفعل تأكيدا وليبني عليه ما بعده.
قال : "ولا تغلّوا، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا" لا تغلوا : الغلول هو أن يكتم شيئاً من الغنيمة مما غنمه، مثل أن يجد جراباً فيه ذهب، أو جراباً فيه طعام، أو ما أشبه ذلك ثم يكتمه، هذا من كبائر الذنوب، ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة.
"ولا تغدوا" أي : لا تخونوا إذا عاهدتم، وأما إذا لم يكن معاهدة فلا حرج في الخداع، لأن الحرب خدعة، أما إذا كان هناك معاهدة فلا يجوز الغدر، لأن أوفى الناس بالحقوق هم المسلمون.
"ولا تمثلوا" التمثيل: قطع بعض الأعضاء من الأعداء، مثل : إذا أسروا أسيراً قطعوا يديه ورجليه
وأذانه وأنفه وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، لأنه قتلةً سيئةً، حتى ولو كان هذا مستحق للقتل ولا بد أن يُقتَل، فلا يجوز التمثيل به، ولكن هل يجوز أن نفعل ذلك إذا فعلوا بنا هذا ؟ .
الجواب نعم، لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، ولا يمكن أن ندع التمثيل وهم يمثلون بنا، لأن هذا يعني الانخذال والانهزام والذل ، فإذا كانوا يفعلون بنا هذا فإن لنا أن فعل بهم .
فإذا قال قائل : ما ذنب هذا الكافر الذي مثَّل بالمسلم ولاتُه وأمراؤه ؟ .
قلنا : لأنهم كانوا يعني طائفة واحدة يقاتلون قتالاً واحداً والرّدء كالمباشر، وإلا فمن المعلوم أنَّنا إذا مثَّلنا بهم لا نمثل بمن مثل بنا، قد نمثل بغيره ، ولكن نقول : لما كانت الطائفة طائفةً واحدةً كان أميرها ومأمورها على حدّ سواء.
إذن : لا تمثلوا، يستثنى منه ما إذا مثلوا بنا فإننا نمثل بهم، لقول الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، ولقوله تبارك وتعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }.
"ولا تقتلوا وليدا" الوليد الصغير، لا يقتل لسببين :
الأول : أنه ليس أهلا للقتال .
والثاني: أنه أقرب لقبول الإسلام ممن كان كبيراً، ولهذا جاء في الحديث : "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم"، أي صغارهم .
طيب إذا قال قائل : إذا كانوا يقتلون أولادنا فهل نقتل أولادهم ؟ .
فالجواب : لا، لأن إبقاء أولادهم فيه مصلحة لنا لأننا نأخذ أولادهم على أنهم أسرى يُسْترقّون وينتفع بهم المسلمون .
"وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال" إذا لقيت عدوك من المشركين : أضاف العداوة إلى المخاطَب، إغراءً له بقتالهم ودعوتهم إلى الإسلام، وتحذيرا من أن يغدر هذا العدو، وإحماءً للعاطفة في طلب هذا العدو.
"إذا لقيت عدوك من المشركين" حتى لو كانوا يعبدون الأوثان "فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، يعني: اطلب منهم ثلاث خصال، أو قال ثلاث خلال والمعنى واحد، و أو : هنا شك من الراوي، "فأيتهن ما أجابوك" ما : زائدة للتوكيد، ولو حُذفت لاستقام الكلام، لو قال : فأيتهم أجابوك ، لصح الكلام ، فتكون ما هنا زائدة للتوكيد .
"فاقبل منهم وكف عنهم" اقبل منهم إذا أجابوك، وكفَّ عنهم أي عن قتالهم.
"ثم ادعهم إلى الإسلام" ثم هنا للترتيب الذكري، ولو حذفت لاستقام الكلام ، والمعنى : ادعهم إلى الإسلام ، هذه أول الخصال، لأن أصل قتال الكفار ليس للتغلب عليهم أو أسرهم أو غنيمة أموالهم، ولكن لإسلامهم حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى ننقذهم من النار، فنحن بقتالنا إياهم محسنون إليهم في الواقع.
"ادعهم إلى الإسلام" والإسلام هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا غير، لقول الله تعالى : { ورضيت لكم الاسلام دينا } ولقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }.
"فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم" يعني هم أسلموا ، فإذا أسلموا عصموا دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام ، يعني إلا شيئا يبيحه الإسلام من أموالهم، ودمائهم .
"ثم ادعهم -أي اذا أسلموا- ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين"، إذا اقتضى الحال هذا فادعهم إلى أن يتحولوا من دارهم التي كانت دار كفر إلى دار المهاجرين وهي المدينة ، يعني ادعهم إلى المدينة حتى لا يبقى على كونهم أعراباً "وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين"، لأنهم صاروا من جملتهم، ما داموا انتقلوا إلى بلاد المهاجرين فلهم حكمهم .
"وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين" إن أبوا أن يتحولوا إلى دار المهاجرين وهي المدينة، فأخبرهم أنهم يكونون كالأعراب يجري عليهم ما يجري على الأعراب، وهذا من كمال العدل بلا شك، ولكن لا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. الغنيمة : ما أخذ بقتال وما ألحق به من الكفار، والفيء : ما أخذ بغير قتال من الكافرين أو كان مضافاً إلى بيت المال كالأموال المجهول أهلها، وما أشبه ذلك.
"فإن أبوا فسلهم الجزية"، إن أبوا عن أيش؟ أبوا عن الإسلام، إن أبوا عن الإسلام، لأنهم إذا أسلموا طولبوا بالانتقال، فإن لم ينتقلوا صاروا كالأعراب لهم ما للأعراب، وعليهم ما عليهم، وليس لهم في الغنيمة والفيء شيء.
"فإن أبوا" يعني إن أبوا أن يسلموا "فسلهم الجزية" فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، اسألهم الجزية، الجزية هي عبارة عن عوض يبذله الكافر للإقامة في بلادنا، ولحمايته من الاعتداء عليه. فهي في الحقيقة في مقابل حمايتنا له، ودفاعنا عنه، ولذلك سميت جزية كأنها مجازاة وجزاء.
"فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" إن هم أبوا : هذه إن : شرطية ، و هم : اسم، والمعروف أن إن الشرطية لا تدخل إلا على الأفعال، فماذا نعمل ؟ .
قلنا المسألة خلافية ليست باتفاق النحويين، فإن من النحويين من يجوّز دخول أداة الشرط على الاسم، كما في قوله تعالى : { إذا السماء انفطرت }، { إذا السماء انشقّت }، وأشباهها، وهذا رأي الكوفيين، وعلى هذا الرأي لا إشكال، وإذا قلنا إنها لا تدخل إلا على الأفعال، صارت هم : ضمير فصل ، نعم صارت ضميراً منفصلاً، تفسر الضمير في الفعل المحذوف، والتقدير : فإن أبوا هم ، وتكون أبَوا جملة مفسرة للمحذوفة، ولا يخفى ما في هذا من التكلف، لأن الأصل عدم الحذف ، وليس القول بأن إن : لا يليها إلا الأفعال ليس وحيا منزلاً يجب علينا أن نتبعه وأن نؤول الكلام إذا جاء على خلافه! بل نقول الأمر في هذا واسع .
والقاعدة عندنا : إذا اختلف النحويون في شيء لا يختلف به المعنى فإنا نأخذ بالأسهل.
"فإن هم أبَوا فاستعن بالله وقاتلهم" قدَّم الاستعانة بالله على الفعل، استعن بالله : يعني اطلب منه العون ، وقاتلهم بما معك من الرجال والعتاد إلى آخره.
نتكلم على فوائد هذه القطعة من الحديث، ففيها بيان أمور عطيمة :
أولا : حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتشار الإسلام، وذلك ببعث السرايا والجيوش لدعوة الناس إليه .
وفيه مشروعية بعث الجيوش والسرايا إلى بلاد الكفر، على حسب ما وجهه النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولكن هذا مشروط بماذا ؟ .
مشروط بالقدرة، لأن إرسال الجيوش والسرايا إلى بلاد الكفر للدعوة لا شك أنه واجب، لكن هناك قيد في جميع الأوامر وهو القدرة والاستطاعة، حتى أركان الإسلام، قيدها الله تعالى بالاستطاعة، فإذا لم يكن استطاعة فإنه ينتظر حتى ييسر الله تبارك وتعالى للمسلمين قوة يتمكنون بها من غزو أعدائهم إذا لم يسلموا.
ومن فوائد هذا الحديث أنه ينبغي بعثُ الإمام الجيوشَ والسرايا على حسب ما تقتضيه الحاجة، إن اقتضت الحاجة الكثرة بعثنا جيوشاً ، وإن كانت لا تحتاج فسرايا، لأن هذه البعوث تحتاج إلى عتاد ورجال، ونفقات، فلا يمكن أن نزيد على الحاجة لما في ذلك من إضرار بالمسلمين وأموالهم.
ومن فوائد هذا الحديث أنه يجب، أو يسنُّ على الأقل أن يوصي الولي وليُّ الأمر أمراءَ الجيوش والسرايا بتقوى الله عز وجل، ويشرك مع الأمير من كان في حاشيته ممن هو قريب منه لما في تقوى الله عز وجل من حصول المطلوب، وزوال المكروه، قال الله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا }، { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } أي: من الضيق { ويرزقه من حيث لا يحتسب }.
ومن فوائد هذا الحديث أيضا أن ولي الأمر يأمر الأمير على الجيش أو السرية أن يفعل بالمسلمين خيراً، ويؤكد ذلك عليه بالوصية.
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا بد لكل طائفة من أمير، لئلا تحصل الفوضى، والنزاع، وعدم تمام الأمور، وقد قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سَرَاة لهم .
وها هي الحيوانات لا بد أن يكون لها أمير، تجد الطيور، والغزلان وغيرها، إذا كانت مجتمعة تجد لها قائد، سبحان الله! قائد في الجو أو في الأرض.
ومن فوائد هذا الحديث أنه ينبغي البداءة ببسم الله الرحمن الرحيم عند الغزو، ولا سيمى عند إرادة الضرب أن يقول : باسم الله، لأن البداءة ببسم الله بركة واستعانة.
ومن فوائد هذا الحديث الإشارة إلى الإخلاص في قوله : "في سبيل الله". وهذا وإن كان الأمر في قلوب الصحابة، لكن من باب التأكيد والتذكير.
ومن فوائد هذا الحديث أن سبب قتال الكافرين الكفر، لا العصبية، ولا الحمية، ولا غير ذلك. الكفر، لقوله : "قاتلوا من كفر بالله"، وقد بين الله تعالى أن المعاهدين إذا نقضوا العهد أُمرنا أن نقاتل أئمتهم، فقال تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } يعني اجعلوا القتال مركّز على أئمتهم، لأن أئمتهم إذا قُتلوا حصلت لهم الفوضى وانفرط عقدُهم.
ومن فوائد هذا الحديث أن الكفر بالله عز وجل يبيح الدم، وهو كذلك، فإن من ارتد عن دينه أبيح دمه وماله، والكافر يباح دمه وماله إلا إذا تنازل إلى الجزية أو العهد .
ومن فوائد هذا الحديث تحريم الغلول، لقوله : "اغزوا ولا تغلوا"، وهو عام في القليل والكثير، حتى وإن كان نعلا أو عقال بعير، فإنه من كبائر الذنوب .
ومن الغلول هدايا العمال، يعني أن العامل الموظف لدى الدولة إذا قَبلَ الهدية فقد غلَّ، لأنه لم يُعطى هذه الهدية إلا لأجل أنه عامل، من أجل أنه عامل، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على الصدقة يقال له عبد الله بن لتبيّة، وقدم بالإبل وقال : هذا لكم وهذا أهدي إليّ، خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر ذلك وقال : "هلَّا جلس في بيته فيُنظر هل يُهدى إليه أم لا ؟!" وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لولا أنه عامل ما أهدي إليه شيء، وهو شامل لكل عمل الدولة. وقد ورد في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هدايا العمال غلول"، لكن فيه مقال.
ومن فوائد هذا الحديث تحريم الغدر، لقوله : "ولا تغدروا"، والغدر محرم سواء كان في مسلم أو في كافر، لقول الله تبارك وتعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }.
ومن فوائد هذا الحديث تحريم التمثيل لقوله : "ولا تمثلوا"، وهو عام في كل تمثيل، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فقطع الأصبع مثلاً تمثيل، وقطع الأنف تمثيل، وقطع الأذن تمثيل، قطع الجلد تمثيل .
ويستثنى من ذلك ما إذا فعلوا ذلك بنا فإنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم، والدليل قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، وقوله : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }.
لكن هل يشترط أن يكون ذلك مساوياً لما يفعلوه بنا في النوع، والكمية، أو نقول: مادام انتهكوا أجسامنا فلنا أن ننتهك أجسامهم بما شئنا ؟ .
هذا فيه تردد عندي، بمعنى لو قطعوا منا أصبعا هل نقطع منهم أصبعين، ولو قطعوا اليد اليسرى هل نقطع اليمنى ؟ هذا عندي محل تردد، يحتمل أن نقول مادام انتهكوا أبدان قتلانا فإننا ننتهك أبدانهم بما شئنا، ويحتمل أن نقول : إن الله تعالى قيد هذا بالمثل فقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }. وجه التردد عندي أن المقصود هو إذلال المسلمين بالتمثيل، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون التمثيل قليلاً، أو كثيراً، أو وصفاً، أو معنىً أكمل ، لأنه يحصل به الذل . فما دام هذا من أجل الذل فإننا نعتبر الجنس، ولا نعتبر النوع ولا الوصف.
ومن فوائد هذا الحديث تحريم قتل الوليد أي الصغير، لأن الصغير لا ذنب له، وأيضاً في قتله تفويت لماليتنا التي تعود على مصلحة المسلمين .
ومن فوائد هذا الحديث أن قتال الكفار ليس لكفرهم، ولكن لاستسلامهم وعدم معارضتهم لدين الإسلام، لقوله : "وإذا لقيت عدوك من المشركين ..." إلى آخره .
فإن قال قائل أليس قلنا إن قتالنا للكفار لأجل الكفر ؟ .
فالجواب نعم هذا هو الأصل ، لكن قتالنا إياهم له مراحل ، النهاية القتال إذا لم يلتزموا بالمراحل.
ومن فوائد هذا الحديث أنه يجب الكف عن المشرك إذا أسلم مطلقاً، لقوله : "فاقبل منهم وكف عنهم". وقولي مطلقا : يعني لو أن واحداً منهم أسلم لحق بنا وأسلم، وقال أنا مسلم وأنا بريء من قومي ، فإنه يجب علينا أن نكفّ عنه، إذا علمنا منه حسن النية وأنه ليس جاسوساً، ويدلّ لهذا قصةُ أسامة بن زيد رضي الله عنه، حين لحق المشركَ، فلما أدركه قال المشرك : لا إله إلا الله ، فقتله، لأن أسامة ظن أنه قالها خوفاً من القتل تعوّذ بها من القتل، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال له : "أقتلته وقد قال لا إله إلا الله ؟!" حتى قال : إني تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد.
ومن فوائد هذا الحديث أنه إذا كان المشركون أعرابا في البداية فإننا نأمرهم بل نخيرهم إما أن يتحولوا إلى دار ...

Webiste