كلمة من الشيخ في بيان العلم النافع والعمل الصالح وشروطهما ، والاعتماد في فهم الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح .
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيمًا ، أما بعد :
... أريد أن أعلِّق على كلمة المُفتتح للجلسة وحسن ظنِّه بي ؛ فأقول - اقتداءً بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - - : " اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني خيرًا مما يظنُّون ، واغفر لي ما لا يعلمون " ، أما كلمتي فهي تتعلق بإيجاز - لكي نفرِّغ الوقت للإجابة عن الأسئلة - تتعلَّق بالعلم النافع والعمل الصالح ، أما العلم النافع فيُشترط فيه أمران اثنان ، أما الأمر الأول فأن يكون مستقًى من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والكتاب والسنة أمران معروفان لدى جميع المسلمين قاطبةً على ما بينهم من اختلاف كبير أو صغير في فهم بعض نصوصهما ، إلا أنَّ الذي أريد أن أُدندن حوله فيما يتعلَّق بالكتاب والسنة إنما هما أمران اثنان ، أحدهما يتعلق بالقرآن ، والآخر يتعلق بالسنة ، أما الأول ؛ فهو أن يكون من طابع طالب العلم أن يكون ديدنه أن يفهمَ القرآن على ضوء السنة ، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد خاطبه الله - عز وجل - في القرآن الكريم بقوله : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم . - ومعذرة نقف قليلًا - .
وعلى ذلك فلا بدَّ لطالب العلم النافع أن يعتمدَ في فهمه للقرآن على السنة ، هذه نقطة متفق عليها - والحمد لله - بين المسلمين قاطبة على ما بينهم من اختلاف في طريقة إثبات السنة ، ولسنا الآن في هذا الصدد ، فإذا كان من المتفق عليه بين المسلمين كافة أن القرآن يجب تفسيره بالسنة ، فمن تمام العلم النافع أن نتحرَّى السنة الصحيحة ، وهذه نقطة أو هذا أمر يخلُّ به جماهير العلماء في العصر الحاضر ، ذلك أنهم ينقلون من السُّنَّة ما وقفوا عليه دون تنبُّه ، أو دون أن يأخذوا حذرَهم من أن يكون ما ينقلونه من الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تصحُّ نسبته إليه ، وحينئذٍ يقعون في محظورين اثنين ، أحدهما أثر الآخر .
المحظور الأول هو التقوُّل على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد قال في الحديث المتواتر : من كذب عليَّ متعمدًا ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ، وفي رواية أخرى : من قال عليَّ ما لم أقل ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ، ولذلك يجب على كل من كان حريصًا على العلم النافع ، سواء كان من أهل العلم المُشار إليهم بالبنان ، أو كان من طلاب العلم البادئين في طلب هذا العلم ؛ أنه لا يجوز لهم أن ينقلوا حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن يثبت لديهم صحَّة نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وحينئذٍ يكون طالب العلم على المنهج الصحيح في طلبه للعلم ؛ لأنه أولًا يعتمد على الكتاب والسنة ، ثم هو يفسِّر القرآن بالسنة ، وأخيرًا يعتمد على السنة الصحيحة فقط دون ما لم يصحَّ منها ، وثانيًا يكون مسؤولًا عمَّا ينشره بين الناس من الأحاديث التي لا تكون في واقعها صحيحة النسبة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، هذا هو العلم النافع .
ولكننا نضيف عادةً إلى المصدرين السابقين الكتاب والسنة نضيف شيئًا ثالثًا وهو ضروري جدًّا في زماننا هذا لاختلاف وجوه الأنظار والاستنباط والاقتباس والفهم من الكتاب والسنة ، فليكون العالم أو طالب العلم في منجاةٍ في تفسيره للكتاب والسنة أن يميل يمينًا أو يسارًا ، وأن يقع في الضلال من حيث لا يريد ولا يشعر ؛ لا بدَّ له من أن يضمَّ إلى اعتماده على الكتاب والسنة شيئًا ثالثًا ؛ ألا وهو الاعتماد على ما كان عليه السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما سُئل في حديث الفِرَقِ الذي فيه أن المسلمين سيفترقون ثلاثًا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، ولما سئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن هذه الفرقة الناجية من النار ، قال : هي الجماعة ، هذه رواية ، الفرقة الناجية هي الجماعة ، وفي رواية قال : هي الَّتي على ما أنا عليه وأصحابي ، فنجد في كلٍّ من الروايتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على قوله الكتاب والسنة ، وإنما قال أولًا : الجماعة ، ثم قال : ما أنا عليه وأصحابي ، فلماذا ذكر وأصحابي ؟ ولم يكتف على قوله : ما أنا عليه ؟
والحقيقة أن هذا يكفي ، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قال في الحديث الصحيح : تركتُ فيكم أمرين ، لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض ، فإذًا من تمسَّك بالكتاب والسنة لن يضلَّ ، ولكن ألا تعلمون معي أن كل الفرق الإسلامية ما كان منها قديمًا واندثر بعضها ، وما كان منها قديمًا واستمرَّت حتى زماننا هذا ، وما قد جدَّ منها في زمننا هذا تحت أسماء ونسب كثيرة ؛ ألا تعتقدون معي أن كل هذه الفرق لا يوجد منها فرقة تتبرَّأ من الكتاب والسنة ؟ لا يوجد - والحمد لله - من يُعلنها صراحة أو صريحة بأنه ليس على الكتاب والسنة ، وإلا حينئذٍ لم يعتبر من الفرق الإسلامية ، وإنما كلُّ الفرق - مهما كانت عريقةً في الضلال ؛ سواء ما كان منها من الفرق القديمة أو الحديثة على التفصيل الذي ذكرته آنفًا - لا يوجد فيها إلَّا من يدَّعي دعوانا ، وهي أنَّهم على الكتاب والسنة .
وخذوا مثلًا الفرقة لعلها الفرقة الأخيرة كفرقة انحرفت عن الكتاب والسنة من الفرق المعاصرة والحديثة ؛ ألا وهي الطائفة القاديانية التي كان أصلُها من قرية الهند اسمها قاديان ، وخرج منها ذلك الرجل الذي كان يسمَّى " ميرزا غلام أحمد القادياني " ، ثم حرَّف اسمه لغرضٍ في نفسه لسنا الآن في صدد بيان ذلك ، فسمَّى نفسه بأحمد ، لكي يحمل على اسمه قول الله - عز وجل - على لسان عيسى : ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد أي : أحمد القادياني !! وهو إنما كان اسمه " ميرزا غلام أحمد القادياني " ، ميرزا لقب ، أما اسمه غلام أحمد أي : خادم أحمد ، فحذف كلمة خادم - أي : غلام - ، واحتفظ باسم أحمد ليحمل على نفسه تلك الآية ، وشتَّان ما بينها وبينه ، فإنه من الدَّجَّالين الكَذَبَة الذين أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : لا تقوم الساعة حتى يكون ثلاثون دجَّالًا ، كلُّهم يزعم أنه نبيٌّ ، ولا نبيَّ بعدي ، واستطاع هذا الرجل بسبب أو بآخر أن يحمل كثيرًا من الناس ، ليس فقط من الأعاجم ، بل ومن العرب - أيضًا - أن ينحرفَ بهم عن الكتاب والسنة ، فآمنوا به وصدَّقوه واتَّبعوه ، وجاؤوا بعقائد مخالفة لإجماع المسلمين ، ولسنا - أيضًا - في هذا الصدد ، وإنما الشاهد هؤلاء يقولون - أيضًا - معنا الكتاب والسنة ، فهل أفادهم شيء دعواهم الكتاب والسنة وهم قد خالفوا الكتاب والسنة في كثير من نصوصها ؟
والشاهد ها هنا الآن كيف يجمعون اتباعهم لنبيِّهم المزعوم وبين قول ربِّ العالمين ولكن رسول الله وخاتم النبيين ؟ هنا يظهر لكم أهمِّيَّة شيئين اثنين ، السنة وتفسير السنة والقرآن على ما كان عليه السلف الصالح ، تفسير القرآن بالسنة وتفسير السنة بما كان عليه السلف الصالح ، لم يكفر هؤلاء القاديانيُّون بقوله - تعالى - : ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، بل آمنوا بالآية كما نؤمن ، كذلك لم يُنكروا قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما جاء في " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال لعليٍّ : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى ؛ غير أنه لا نبيَّ بعدي ، أيضًا آمنوا بهذا الحديث الصحيح ، لكنَّهم كفروا بمعنى الآية والحديث معًا ، لأنهم تأوَّلوهما بغير تأويلهما ، وفسَّروهما بخلاف ما كان عليه سلفنا الصالح ومن تبعَهم إلى هذا اليوم ، ... .
من تأويلهم للآية ولكن رسول الله وخاتم النبيين قالوا : نحن نعتقد معكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال في القرآن : خاتم النبيين ، ولكننا نُخالفكم في تفسيركم للآية ، ونفهم أن معناها خاتم النبيين ؛ أي : زينة النبيين ، كما أن الخاتم زينة الأصبع كذلك الرسول - عليه السلام - هو زينة الأنبياء ، فإذًا هم آمنوا باللفظ القرآني وكفروا بمعناه ، فلم يُفدهم إيمانهم بالقرآن شيئًا ، ولذلك فهم أشبه ما يكونون في تأويل هذه الآية أو ذاك الحديث كالكفَّار من النصارى الذين يُحاولون أن يستخرجوا من القرآن أدلَّةً تؤيِّد ضلالهم وإيمانهم بأن عيسى - عليه السلام - هو ابن الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ، ها أنتم عرفتم تأويلهم ، بل تعطيلهم لدلالة الآية على أنه لا نبيَّ بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فكيف فسَّروا الحديث الصحيح : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبيَّ بعدي ؟
قالوا : لا نبيَّ معي ؛ أي : بعد أن فسَّروا الحديث بهذا التفسير الباطل قالوا : فمفهوم الحديث أنه يوجد بعدي نبيٌّ ، فعطَّلوا بذلك - أيضًا - أحاديث أخرى صريحة ، ولم يجدوا لها تأويلًا إلا بإنكارها ؛ مثل قوله - عليه السلام - : ألا إنَّ النبوَّة والرسالة قد انقطعت ؛ فلا نبيَّ ولا رسول بعدي ، هذا الحديث أنكروه ، لأنه مع براعتهم في التأويل بل في التَّعطيل لم يجدوا لهم مساغًا لتأويل هذا النص ، فماذا فعلوا به ؟ أطاحوا به ولم يؤمنوا به .
الشاهد من هذا المثال كل الفرق الإسلامية قديمها وحديثها تشترك معنا في القول بالإيمان بالكتاب والسنة ، ولكنها تختلف عنَّا في عدم تقييدهم بطريق المسلمين الذي ذكره ربُّ العالمين في قوله : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونصله جهنم وساءت مصيرًا ، كما أنهم لم يرفعوا رؤوسهم إلى ما سبق من الحديث في وصف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم للفرقة الناجية ؛ بأنَّها التي تكون على ما كان عليه الرسول وأصحابه ، فهم لم يلتفتوا إلى أصحابه - عليه السلام - ، ولم يهتدوا بهديهم ، وفي مقدَّمتهم الخلفاء الراشدون الذين قَرَنَهم الرسول - عليه السلام - فذكرَهم مع اسمه ، وذكر سنَّتَهم مع سنَّته في حديث العرباض بن سارية الذي فيه : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن وُلِّي عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنَّتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، عضُّوا عليها بالنَّواجذ إلى آخر الحديث .
الشاهد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر أمَّته أن من سيعيش من بعده سيرى اختلافًا كثيرًا ، فما هو الضَّمان ؟ وما هو المخرج من الخلاف الكثير الذي كان ولا يزال الآن يشتدُّ في هذا الزمان ؟ العصمة وضعها الرسول - عليه السلام - بين عينينا في هذا الحديث بقوله : فعليكم بسنَّتي ، وسنَّة الخلفاء الراشدين إلى آخر الحديث ، إذًا العصمة تمام العصمة ليس هو التَّمسُّك فقط بالسنة ، بل وبما كان عليه السلف الصالح .
لو نظرنا اليوم إلى كل الفرق الإسلامية القائمة اليوم على الأرض الإسلامية كما قلت آنفًا قديمها وحديثها ؛ لَوجدناهم جميعًا يُجمعون على الكتاب والسنة ، ولكنهم يخالفوننا في الرجوع إلى السلف الصالح ، إذًا هذا هو الحَكَم الفصل بين من كان على السُّنَّة حقيقة ، وبين من كان منحرفًا عنها ، ولو أنه كان يدَّعيها ؛ ذلك أن العصمة عند الاختلاف - كما هو صريح هذا الحديث - إنما الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة بعامة ، والخلفاء الراشدون بخاصة ، هذا هو العلم النافع .
خلاصة ذلك أنه لا يكون علمًا نافعًا إلا إذا كان معتمدًا على الكتاب ، وكان تفسير الكتاب على السُّنَّة ، وكانت السُّنَّة صحيحة غير ضعيفة ، وأخيرًا اعتمادًا في فهمهما الكتاب والسنة على ما كان عليه سلفنا الصالح ، ولذلك نجد الفرق القائمة اليوم كلَّها نجدها لا صلة بينها وبين سلفها الأول مهما كان سلفهم ، لأنهم ليس عندهم من الكتب ما يروي لهم الأحاديث الصحيحة ، أو بعبارة مُوجزة ما يروي لهم هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كلِّ شؤون حياته ، كما قال - عليه السلام - : ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ، وما تركت شيئًا يبعِّدكم عن الله ويقرِّبكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه ، هذا العلم الجامع النافع لا يوجد عند كلِّ الفرق الإسلامية فضلًا عن أن يُوجد عندهم من الكتب والآثار ما يصلهم بالسلف الصالح ، وما يدلُّهم على ما كانوا عليه لكي يقتدوا بهم تنفيذًا لقوله - تعالى - المذكور آنفًا : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين ، فالله - عز وجل - في هذه الآية يأمر باتباع سبيل المؤمنين ، ويحذِّر من مخالفة سبيل المؤمنين ويعتبر مشاققة ومخالفة سبيل المؤمنين مشاقَّةً للرسول - عليه الصلاة والسلام - . كلُّ الفرق لا سبيل لها أن تعود في فقهها للكتاب وللسنة إلى ما كان عليه السلف الصالح ، إذًا العلم النافع هو القرآن المُفسَّر بالسنة والسنة الصحيحة ، وكلاهما مُفسَّر بما طبَّقه سلفنا الصالح ، ولكي نعرف ما كان عليه السلف الصالح فيجب أن يكون عندنا كتبٌ تروي لنا آثار السلف ، كما تروي لنا أحاديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - .
هذا فيما يتعلَّق بالعلم النافع ، وبقي علينا وبقي عليَّ أن أتكلم - ولعلها تكون كلمة موجزة - في العمل الصالح وما هو ؟
العمل الصالح يشترط فيه أمران اثنان ، الأمر الأول أن يكون على سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ذكرنا آنفًا ما يكفي حولها ، وقد أشار ربنا - عز وجل - إلى هذا الشرط والشرط الآخر ، وهو أن يكون العمل الصالح خالصًا لوجه الله ، في قوله - تبارك وتعالى - : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا ، قال المفسِّرون في قوله - عز وجل - : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا العمل الصالح ما وافق السنة ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا أي : ليخلص لله - عز وجل - وحده ، في هذه العبادة التي وافق فيها السنة ، فإذا اختلَّ أحد هذين الشرطين لا يكون العمل صالحًا ، الشرط الأول أن يكون العمل موافقًا للسنة ، فإذا لم يكن كذلك كان مردودًا على صاحبه ولو كان مخلصًا فيه لربِّه ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ .
والأحاديث الدَّالَّة في ردِّ كل العبادات التي حدثت من بعده ممَّا له صلة بالتدين وبالتقرب إلى الله - عزَّ وجل - الأحاديث الدالة على ذلك كثيرة وكثيرة جدًّا ، فحسبنا الآن هذا الحديث وهو مما اتَّفق على إخراجه الشيخان في " صحيحَيهما " ، وهما من أصحِّ الكتب التي تهتمُّ برواية الحديث عن الرسول ، فهما بحقٍّ أصح الكتب بعد كتاب الله - تبارك وتعالى - ، ولا صحيح من بعدهما في مرتبتهما مهما جادل المجادلون في ذلك ، هذان الصحيحان قد رَوَيا قوله - عليه الصلاة والسلام - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ أي : مردود على صاحبه ، مضروب به وجهه ، لا يُرفع إلى الله - تبارك وتعالى - ؛ لأنه ليس على السنة ، وبالتالي ليس عملًا صالحًا ، هذا هو الشرط الاول في أن يكون العمل صالحًا مقبولًا عند الله - عز وجل - .
والشرط الآخر : أن يكون خالصًا لوجه الله - تبارك وتعالى - كما قال - عز وجل - : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، قد جاءت أحاديث كثيرة وصحيحة تؤكِّد وجوب الإخلاص فى العبادة لله ، وإلا كان العمل باطلًا مردودًا على صاحبه ، ولا أهم - ولا أريد أن أطيل - ولا أهمَّ من بين تلك الأحاديث من حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " عنه - رضي الله تعالى - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أول ... تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة : عالم ومجاهد وغني ، قال - عليه السلام - : يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيقال له : ماذا عملت فيما علمت ؟ فيقول : يا ربي نشرته فى سبيلك ، فيقال له : كذبت ، إنما علمت ليقول الناس فلان عالم وقد قيل ، خذوا به الى النار - والعياذ بالله ! - ، ويُؤتى بالمجاهد فيقال له : ماذا عملت فيما أنعم الله من قوَّة ؟ فيقول : يا ربِّي قاتلت في سبيلك ، فيقال له : كذبتَ ، إنما قاتلت ليقول الناس : فلان مجاهد ، خذوا به إلى النار ، ثم يُؤتى بالغنيِّ فيقال له : ماذا فعلت فيما أنعم الله عليك من مال ؟ فيقول : يا ربي أنفقته في سبيلك ، فيقال له : كذبتَ ، إنما فعلت ليقول الناس : فلان كريم ، وفي كلٍ من هؤلاء الثلاثة يقال لكل واحد منهم : وقد قيل ، يُقال للعالم : أنت نشرت العلم ليقول الناس فلان عالم ، وقد حصَّلت على أجرك ، فصار الناس يقولون : فلان عالم ، ما مثله في العلماء ، قد قيل أي : حصَّلت أجرك عاجلًا ؛ فخذ أجرك آجلًا ، ألا وهو النار ، ليته نجا برأس ماله لا له ولا عليه ، ولكن كان عاقبة أمره النار ، ذلك لأنه اتَّخذ العلم وسيلةً للدنيا ؛ فلم يتَّق الله فيه ، ولا قصد به وجه الله ، فألقي به في النار كذلك يقال للغني وللمجاهد ، قد قيل للمجاهد : إنك قصدت أن يقال : فلان بطل ، وقد قيل ، كذلك الغني قصدت أن يقال : فلان كريم ، وقد قيل ، فيُؤخذ بهم إلى النار جميعًا .
فهؤلاء الثلاثة يقول الرسول - عليه السلام - : هم أوَّل من تُسعر بهم النار يوم القيامة ، مع أنَّ المفروض أن يكون هؤلاء من السابقين الأولين دخولًا في الجنة ، وبخاصة أهل العلم الذين قال الله - عز وجل - فيهم : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين آوتوا العلم درجات ، فحينما أخلُّوا بهذا الشرط الثاني وهو الإخلاص في العبادة لله في العلم ، في الجهاد ، في الزكاة ؛ انقلبت عبادتهم عليهم وزرًا وعذابًا ، لذلك فمن شرط العمل الصالح أن يكون أوَّلًا : مطابقًا للسنة ، وثانيًا : خالصا لوجه الله - تبارك وتعالى - ، حينما تعود الأمة الإسلامية هكذا في علمها وفي عملها ، في علمها على الكتاب والسنة حسب التفصيل السابق ، وفي عملها حسب التفصيل السابق ، اقتداءً بسنته - عليه السلام - وإخلاصًا لربِّ الأنام ؛ يومئذ تستأنف الحياة الإسلامية مسيرتها ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله كما قال - عليه الصلاة والسلام - وبه أختم هذه الكلمة : بشِّر هذه الأمة بالرِّفعة والسَّناء والمجد بالتمكين في الأرض ، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ؛ فليس له في الآخرة من نصيب ، والحمد لله رب العالمين .
السائل : جزى الله الشيخ خير الجزاء على ما ذكره في هذه الموعظة النافعة ، والتي بيَّن فيها الأصل العظيم الذي ينبغي أن يتبعه المسلمون جميعًا إذا أرادوا النجاة في الدنيا من الاختلاف ، وفي الآخرة من عذاب الله - عز وجل - ويفوزوا بالجنة ، لا شكَّ أن ما ذكره الشيخ أهمُّ بكثير من كثير من الأسئلة التي يترقَّبها كثير من الذين كتبوها ، فإن معرفة الأصول أهم بكثير من معرفة الفروع ، ومع ذلك فلا بد من ذكر هذه الأسئلة للشيخ وطرحها عليه ، إلا أننا نعتذر للإخوة على أن الأسئلة كثيرة جدًّا ، ومنها ما هو متعلق بنفس الموضوع الذي ذكره الشيخ ، ومنها ما هو متعلق بالمناسك ، وهذان النوعان من الأسئلة سوف يُقدَّمان على غيرهما لضرورة الحال ، أما بقيَّة الأسئلة فإذا وجد لذلك وقت فلا بأس ، والذي سيحدِّد ذلك هو الشيخ نفسه .
... أريد أن أعلِّق على كلمة المُفتتح للجلسة وحسن ظنِّه بي ؛ فأقول - اقتداءً بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - - : " اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني خيرًا مما يظنُّون ، واغفر لي ما لا يعلمون " ، أما كلمتي فهي تتعلق بإيجاز - لكي نفرِّغ الوقت للإجابة عن الأسئلة - تتعلَّق بالعلم النافع والعمل الصالح ، أما العلم النافع فيُشترط فيه أمران اثنان ، أما الأمر الأول فأن يكون مستقًى من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والكتاب والسنة أمران معروفان لدى جميع المسلمين قاطبةً على ما بينهم من اختلاف كبير أو صغير في فهم بعض نصوصهما ، إلا أنَّ الذي أريد أن أُدندن حوله فيما يتعلَّق بالكتاب والسنة إنما هما أمران اثنان ، أحدهما يتعلق بالقرآن ، والآخر يتعلق بالسنة ، أما الأول ؛ فهو أن يكون من طابع طالب العلم أن يكون ديدنه أن يفهمَ القرآن على ضوء السنة ، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد خاطبه الله - عز وجل - في القرآن الكريم بقوله : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم . - ومعذرة نقف قليلًا - .
وعلى ذلك فلا بدَّ لطالب العلم النافع أن يعتمدَ في فهمه للقرآن على السنة ، هذه نقطة متفق عليها - والحمد لله - بين المسلمين قاطبة على ما بينهم من اختلاف في طريقة إثبات السنة ، ولسنا الآن في هذا الصدد ، فإذا كان من المتفق عليه بين المسلمين كافة أن القرآن يجب تفسيره بالسنة ، فمن تمام العلم النافع أن نتحرَّى السنة الصحيحة ، وهذه نقطة أو هذا أمر يخلُّ به جماهير العلماء في العصر الحاضر ، ذلك أنهم ينقلون من السُّنَّة ما وقفوا عليه دون تنبُّه ، أو دون أن يأخذوا حذرَهم من أن يكون ما ينقلونه من الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تصحُّ نسبته إليه ، وحينئذٍ يقعون في محظورين اثنين ، أحدهما أثر الآخر .
المحظور الأول هو التقوُّل على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد قال في الحديث المتواتر : من كذب عليَّ متعمدًا ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ، وفي رواية أخرى : من قال عليَّ ما لم أقل ؛ فليتبوَّأ مقعده من النار ، ولذلك يجب على كل من كان حريصًا على العلم النافع ، سواء كان من أهل العلم المُشار إليهم بالبنان ، أو كان من طلاب العلم البادئين في طلب هذا العلم ؛ أنه لا يجوز لهم أن ينقلوا حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن يثبت لديهم صحَّة نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وحينئذٍ يكون طالب العلم على المنهج الصحيح في طلبه للعلم ؛ لأنه أولًا يعتمد على الكتاب والسنة ، ثم هو يفسِّر القرآن بالسنة ، وأخيرًا يعتمد على السنة الصحيحة فقط دون ما لم يصحَّ منها ، وثانيًا يكون مسؤولًا عمَّا ينشره بين الناس من الأحاديث التي لا تكون في واقعها صحيحة النسبة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، هذا هو العلم النافع .
ولكننا نضيف عادةً إلى المصدرين السابقين الكتاب والسنة نضيف شيئًا ثالثًا وهو ضروري جدًّا في زماننا هذا لاختلاف وجوه الأنظار والاستنباط والاقتباس والفهم من الكتاب والسنة ، فليكون العالم أو طالب العلم في منجاةٍ في تفسيره للكتاب والسنة أن يميل يمينًا أو يسارًا ، وأن يقع في الضلال من حيث لا يريد ولا يشعر ؛ لا بدَّ له من أن يضمَّ إلى اعتماده على الكتاب والسنة شيئًا ثالثًا ؛ ألا وهو الاعتماد على ما كان عليه السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما سُئل في حديث الفِرَقِ الذي فيه أن المسلمين سيفترقون ثلاثًا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، ولما سئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن هذه الفرقة الناجية من النار ، قال : هي الجماعة ، هذه رواية ، الفرقة الناجية هي الجماعة ، وفي رواية قال : هي الَّتي على ما أنا عليه وأصحابي ، فنجد في كلٍّ من الروايتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على قوله الكتاب والسنة ، وإنما قال أولًا : الجماعة ، ثم قال : ما أنا عليه وأصحابي ، فلماذا ذكر وأصحابي ؟ ولم يكتف على قوله : ما أنا عليه ؟
والحقيقة أن هذا يكفي ، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قال في الحديث الصحيح : تركتُ فيكم أمرين ، لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض ، فإذًا من تمسَّك بالكتاب والسنة لن يضلَّ ، ولكن ألا تعلمون معي أن كل الفرق الإسلامية ما كان منها قديمًا واندثر بعضها ، وما كان منها قديمًا واستمرَّت حتى زماننا هذا ، وما قد جدَّ منها في زمننا هذا تحت أسماء ونسب كثيرة ؛ ألا تعتقدون معي أن كل هذه الفرق لا يوجد منها فرقة تتبرَّأ من الكتاب والسنة ؟ لا يوجد - والحمد لله - من يُعلنها صراحة أو صريحة بأنه ليس على الكتاب والسنة ، وإلا حينئذٍ لم يعتبر من الفرق الإسلامية ، وإنما كلُّ الفرق - مهما كانت عريقةً في الضلال ؛ سواء ما كان منها من الفرق القديمة أو الحديثة على التفصيل الذي ذكرته آنفًا - لا يوجد فيها إلَّا من يدَّعي دعوانا ، وهي أنَّهم على الكتاب والسنة .
وخذوا مثلًا الفرقة لعلها الفرقة الأخيرة كفرقة انحرفت عن الكتاب والسنة من الفرق المعاصرة والحديثة ؛ ألا وهي الطائفة القاديانية التي كان أصلُها من قرية الهند اسمها قاديان ، وخرج منها ذلك الرجل الذي كان يسمَّى " ميرزا غلام أحمد القادياني " ، ثم حرَّف اسمه لغرضٍ في نفسه لسنا الآن في صدد بيان ذلك ، فسمَّى نفسه بأحمد ، لكي يحمل على اسمه قول الله - عز وجل - على لسان عيسى : ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد أي : أحمد القادياني !! وهو إنما كان اسمه " ميرزا غلام أحمد القادياني " ، ميرزا لقب ، أما اسمه غلام أحمد أي : خادم أحمد ، فحذف كلمة خادم - أي : غلام - ، واحتفظ باسم أحمد ليحمل على نفسه تلك الآية ، وشتَّان ما بينها وبينه ، فإنه من الدَّجَّالين الكَذَبَة الذين أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : لا تقوم الساعة حتى يكون ثلاثون دجَّالًا ، كلُّهم يزعم أنه نبيٌّ ، ولا نبيَّ بعدي ، واستطاع هذا الرجل بسبب أو بآخر أن يحمل كثيرًا من الناس ، ليس فقط من الأعاجم ، بل ومن العرب - أيضًا - أن ينحرفَ بهم عن الكتاب والسنة ، فآمنوا به وصدَّقوه واتَّبعوه ، وجاؤوا بعقائد مخالفة لإجماع المسلمين ، ولسنا - أيضًا - في هذا الصدد ، وإنما الشاهد هؤلاء يقولون - أيضًا - معنا الكتاب والسنة ، فهل أفادهم شيء دعواهم الكتاب والسنة وهم قد خالفوا الكتاب والسنة في كثير من نصوصها ؟
والشاهد ها هنا الآن كيف يجمعون اتباعهم لنبيِّهم المزعوم وبين قول ربِّ العالمين ولكن رسول الله وخاتم النبيين ؟ هنا يظهر لكم أهمِّيَّة شيئين اثنين ، السنة وتفسير السنة والقرآن على ما كان عليه السلف الصالح ، تفسير القرآن بالسنة وتفسير السنة بما كان عليه السلف الصالح ، لم يكفر هؤلاء القاديانيُّون بقوله - تعالى - : ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، بل آمنوا بالآية كما نؤمن ، كذلك لم يُنكروا قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما جاء في " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال لعليٍّ : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى ؛ غير أنه لا نبيَّ بعدي ، أيضًا آمنوا بهذا الحديث الصحيح ، لكنَّهم كفروا بمعنى الآية والحديث معًا ، لأنهم تأوَّلوهما بغير تأويلهما ، وفسَّروهما بخلاف ما كان عليه سلفنا الصالح ومن تبعَهم إلى هذا اليوم ، ... .
من تأويلهم للآية ولكن رسول الله وخاتم النبيين قالوا : نحن نعتقد معكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال في القرآن : خاتم النبيين ، ولكننا نُخالفكم في تفسيركم للآية ، ونفهم أن معناها خاتم النبيين ؛ أي : زينة النبيين ، كما أن الخاتم زينة الأصبع كذلك الرسول - عليه السلام - هو زينة الأنبياء ، فإذًا هم آمنوا باللفظ القرآني وكفروا بمعناه ، فلم يُفدهم إيمانهم بالقرآن شيئًا ، ولذلك فهم أشبه ما يكونون في تأويل هذه الآية أو ذاك الحديث كالكفَّار من النصارى الذين يُحاولون أن يستخرجوا من القرآن أدلَّةً تؤيِّد ضلالهم وإيمانهم بأن عيسى - عليه السلام - هو ابن الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ، ها أنتم عرفتم تأويلهم ، بل تعطيلهم لدلالة الآية على أنه لا نبيَّ بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فكيف فسَّروا الحديث الصحيح : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبيَّ بعدي ؟
قالوا : لا نبيَّ معي ؛ أي : بعد أن فسَّروا الحديث بهذا التفسير الباطل قالوا : فمفهوم الحديث أنه يوجد بعدي نبيٌّ ، فعطَّلوا بذلك - أيضًا - أحاديث أخرى صريحة ، ولم يجدوا لها تأويلًا إلا بإنكارها ؛ مثل قوله - عليه السلام - : ألا إنَّ النبوَّة والرسالة قد انقطعت ؛ فلا نبيَّ ولا رسول بعدي ، هذا الحديث أنكروه ، لأنه مع براعتهم في التأويل بل في التَّعطيل لم يجدوا لهم مساغًا لتأويل هذا النص ، فماذا فعلوا به ؟ أطاحوا به ولم يؤمنوا به .
الشاهد من هذا المثال كل الفرق الإسلامية قديمها وحديثها تشترك معنا في القول بالإيمان بالكتاب والسنة ، ولكنها تختلف عنَّا في عدم تقييدهم بطريق المسلمين الذي ذكره ربُّ العالمين في قوله : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونصله جهنم وساءت مصيرًا ، كما أنهم لم يرفعوا رؤوسهم إلى ما سبق من الحديث في وصف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم للفرقة الناجية ؛ بأنَّها التي تكون على ما كان عليه الرسول وأصحابه ، فهم لم يلتفتوا إلى أصحابه - عليه السلام - ، ولم يهتدوا بهديهم ، وفي مقدَّمتهم الخلفاء الراشدون الذين قَرَنَهم الرسول - عليه السلام - فذكرَهم مع اسمه ، وذكر سنَّتَهم مع سنَّته في حديث العرباض بن سارية الذي فيه : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن وُلِّي عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنَّتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، عضُّوا عليها بالنَّواجذ إلى آخر الحديث .
الشاهد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر أمَّته أن من سيعيش من بعده سيرى اختلافًا كثيرًا ، فما هو الضَّمان ؟ وما هو المخرج من الخلاف الكثير الذي كان ولا يزال الآن يشتدُّ في هذا الزمان ؟ العصمة وضعها الرسول - عليه السلام - بين عينينا في هذا الحديث بقوله : فعليكم بسنَّتي ، وسنَّة الخلفاء الراشدين إلى آخر الحديث ، إذًا العصمة تمام العصمة ليس هو التَّمسُّك فقط بالسنة ، بل وبما كان عليه السلف الصالح .
لو نظرنا اليوم إلى كل الفرق الإسلامية القائمة اليوم على الأرض الإسلامية كما قلت آنفًا قديمها وحديثها ؛ لَوجدناهم جميعًا يُجمعون على الكتاب والسنة ، ولكنهم يخالفوننا في الرجوع إلى السلف الصالح ، إذًا هذا هو الحَكَم الفصل بين من كان على السُّنَّة حقيقة ، وبين من كان منحرفًا عنها ، ولو أنه كان يدَّعيها ؛ ذلك أن العصمة عند الاختلاف - كما هو صريح هذا الحديث - إنما الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة بعامة ، والخلفاء الراشدون بخاصة ، هذا هو العلم النافع .
خلاصة ذلك أنه لا يكون علمًا نافعًا إلا إذا كان معتمدًا على الكتاب ، وكان تفسير الكتاب على السُّنَّة ، وكانت السُّنَّة صحيحة غير ضعيفة ، وأخيرًا اعتمادًا في فهمهما الكتاب والسنة على ما كان عليه سلفنا الصالح ، ولذلك نجد الفرق القائمة اليوم كلَّها نجدها لا صلة بينها وبين سلفها الأول مهما كان سلفهم ، لأنهم ليس عندهم من الكتب ما يروي لهم الأحاديث الصحيحة ، أو بعبارة مُوجزة ما يروي لهم هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كلِّ شؤون حياته ، كما قال - عليه السلام - : ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ، وما تركت شيئًا يبعِّدكم عن الله ويقرِّبكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه ، هذا العلم الجامع النافع لا يوجد عند كلِّ الفرق الإسلامية فضلًا عن أن يُوجد عندهم من الكتب والآثار ما يصلهم بالسلف الصالح ، وما يدلُّهم على ما كانوا عليه لكي يقتدوا بهم تنفيذًا لقوله - تعالى - المذكور آنفًا : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين ، فالله - عز وجل - في هذه الآية يأمر باتباع سبيل المؤمنين ، ويحذِّر من مخالفة سبيل المؤمنين ويعتبر مشاققة ومخالفة سبيل المؤمنين مشاقَّةً للرسول - عليه الصلاة والسلام - . كلُّ الفرق لا سبيل لها أن تعود في فقهها للكتاب وللسنة إلى ما كان عليه السلف الصالح ، إذًا العلم النافع هو القرآن المُفسَّر بالسنة والسنة الصحيحة ، وكلاهما مُفسَّر بما طبَّقه سلفنا الصالح ، ولكي نعرف ما كان عليه السلف الصالح فيجب أن يكون عندنا كتبٌ تروي لنا آثار السلف ، كما تروي لنا أحاديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - .
هذا فيما يتعلَّق بالعلم النافع ، وبقي علينا وبقي عليَّ أن أتكلم - ولعلها تكون كلمة موجزة - في العمل الصالح وما هو ؟
العمل الصالح يشترط فيه أمران اثنان ، الأمر الأول أن يكون على سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ذكرنا آنفًا ما يكفي حولها ، وقد أشار ربنا - عز وجل - إلى هذا الشرط والشرط الآخر ، وهو أن يكون العمل الصالح خالصًا لوجه الله ، في قوله - تبارك وتعالى - : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا ، قال المفسِّرون في قوله - عز وجل - : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا العمل الصالح ما وافق السنة ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا أي : ليخلص لله - عز وجل - وحده ، في هذه العبادة التي وافق فيها السنة ، فإذا اختلَّ أحد هذين الشرطين لا يكون العمل صالحًا ، الشرط الأول أن يكون العمل موافقًا للسنة ، فإذا لم يكن كذلك كان مردودًا على صاحبه ولو كان مخلصًا فيه لربِّه ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ .
والأحاديث الدَّالَّة في ردِّ كل العبادات التي حدثت من بعده ممَّا له صلة بالتدين وبالتقرب إلى الله - عزَّ وجل - الأحاديث الدالة على ذلك كثيرة وكثيرة جدًّا ، فحسبنا الآن هذا الحديث وهو مما اتَّفق على إخراجه الشيخان في " صحيحَيهما " ، وهما من أصحِّ الكتب التي تهتمُّ برواية الحديث عن الرسول ، فهما بحقٍّ أصح الكتب بعد كتاب الله - تبارك وتعالى - ، ولا صحيح من بعدهما في مرتبتهما مهما جادل المجادلون في ذلك ، هذان الصحيحان قد رَوَيا قوله - عليه الصلاة والسلام - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ أي : مردود على صاحبه ، مضروب به وجهه ، لا يُرفع إلى الله - تبارك وتعالى - ؛ لأنه ليس على السنة ، وبالتالي ليس عملًا صالحًا ، هذا هو الشرط الاول في أن يكون العمل صالحًا مقبولًا عند الله - عز وجل - .
والشرط الآخر : أن يكون خالصًا لوجه الله - تبارك وتعالى - كما قال - عز وجل - : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، قد جاءت أحاديث كثيرة وصحيحة تؤكِّد وجوب الإخلاص فى العبادة لله ، وإلا كان العمل باطلًا مردودًا على صاحبه ، ولا أهم - ولا أريد أن أطيل - ولا أهمَّ من بين تلك الأحاديث من حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " عنه - رضي الله تعالى - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أول ... تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة : عالم ومجاهد وغني ، قال - عليه السلام - : يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيقال له : ماذا عملت فيما علمت ؟ فيقول : يا ربي نشرته فى سبيلك ، فيقال له : كذبت ، إنما علمت ليقول الناس فلان عالم وقد قيل ، خذوا به الى النار - والعياذ بالله ! - ، ويُؤتى بالمجاهد فيقال له : ماذا عملت فيما أنعم الله من قوَّة ؟ فيقول : يا ربِّي قاتلت في سبيلك ، فيقال له : كذبتَ ، إنما قاتلت ليقول الناس : فلان مجاهد ، خذوا به إلى النار ، ثم يُؤتى بالغنيِّ فيقال له : ماذا فعلت فيما أنعم الله عليك من مال ؟ فيقول : يا ربي أنفقته في سبيلك ، فيقال له : كذبتَ ، إنما فعلت ليقول الناس : فلان كريم ، وفي كلٍ من هؤلاء الثلاثة يقال لكل واحد منهم : وقد قيل ، يُقال للعالم : أنت نشرت العلم ليقول الناس فلان عالم ، وقد حصَّلت على أجرك ، فصار الناس يقولون : فلان عالم ، ما مثله في العلماء ، قد قيل أي : حصَّلت أجرك عاجلًا ؛ فخذ أجرك آجلًا ، ألا وهو النار ، ليته نجا برأس ماله لا له ولا عليه ، ولكن كان عاقبة أمره النار ، ذلك لأنه اتَّخذ العلم وسيلةً للدنيا ؛ فلم يتَّق الله فيه ، ولا قصد به وجه الله ، فألقي به في النار كذلك يقال للغني وللمجاهد ، قد قيل للمجاهد : إنك قصدت أن يقال : فلان بطل ، وقد قيل ، كذلك الغني قصدت أن يقال : فلان كريم ، وقد قيل ، فيُؤخذ بهم إلى النار جميعًا .
فهؤلاء الثلاثة يقول الرسول - عليه السلام - : هم أوَّل من تُسعر بهم النار يوم القيامة ، مع أنَّ المفروض أن يكون هؤلاء من السابقين الأولين دخولًا في الجنة ، وبخاصة أهل العلم الذين قال الله - عز وجل - فيهم : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين آوتوا العلم درجات ، فحينما أخلُّوا بهذا الشرط الثاني وهو الإخلاص في العبادة لله في العلم ، في الجهاد ، في الزكاة ؛ انقلبت عبادتهم عليهم وزرًا وعذابًا ، لذلك فمن شرط العمل الصالح أن يكون أوَّلًا : مطابقًا للسنة ، وثانيًا : خالصا لوجه الله - تبارك وتعالى - ، حينما تعود الأمة الإسلامية هكذا في علمها وفي عملها ، في علمها على الكتاب والسنة حسب التفصيل السابق ، وفي عملها حسب التفصيل السابق ، اقتداءً بسنته - عليه السلام - وإخلاصًا لربِّ الأنام ؛ يومئذ تستأنف الحياة الإسلامية مسيرتها ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله كما قال - عليه الصلاة والسلام - وبه أختم هذه الكلمة : بشِّر هذه الأمة بالرِّفعة والسَّناء والمجد بالتمكين في الأرض ، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ؛ فليس له في الآخرة من نصيب ، والحمد لله رب العالمين .
السائل : جزى الله الشيخ خير الجزاء على ما ذكره في هذه الموعظة النافعة ، والتي بيَّن فيها الأصل العظيم الذي ينبغي أن يتبعه المسلمون جميعًا إذا أرادوا النجاة في الدنيا من الاختلاف ، وفي الآخرة من عذاب الله - عز وجل - ويفوزوا بالجنة ، لا شكَّ أن ما ذكره الشيخ أهمُّ بكثير من كثير من الأسئلة التي يترقَّبها كثير من الذين كتبوها ، فإن معرفة الأصول أهم بكثير من معرفة الفروع ، ومع ذلك فلا بد من ذكر هذه الأسئلة للشيخ وطرحها عليه ، إلا أننا نعتذر للإخوة على أن الأسئلة كثيرة جدًّا ، ومنها ما هو متعلق بنفس الموضوع الذي ذكره الشيخ ، ومنها ما هو متعلق بالمناسك ، وهذان النوعان من الأسئلة سوف يُقدَّمان على غيرهما لضرورة الحال ، أما بقيَّة الأسئلة فإذا وجد لذلك وقت فلا بأس ، والذي سيحدِّد ذلك هو الشيخ نفسه .
الفتاوى المشابهة
- كلمة نافعة ونصيحة مختصرة من الشيخ لطلب العلم ا... - الالباني
- كلمة نافعة ونصيحة مختصرة من الشيخ لطلب العلم ا... - الالباني
- تكلم على أن دعوتنا هي إتباع الكتاب والسنة على... - الالباني
- بيان أن العمل الصالح هو الركن والأساس الثاني ب... - الالباني
- ما هي شروط العمل الصالح ؟ - الالباني
- كلمة في أن النَّجاة في الآخرة والسعادة في الدن... - الالباني
- بيان الشيخ لضرورة التمسك بالكتاب و السنة على ف... - الالباني
- كيف نفهم الدِّين على منهج سلفنا الصالح ؟ - الالباني
- محاضرة كاملة عن اتباع الكتاب والسنة على فهم ال... - الالباني
- كلمة من الشيخ في بيان العلم النافع والعمل الصا... - الالباني
- كلمة من الشيخ في بيان العلم النافع والعمل الصا... - الالباني