كيف نفهم الدِّين على منهج سلفنا الصالح ؟
الشيخ محمد ناصر الالباني
السائل : أشهد أن لا اله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله - تعالى - ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
نحمد الله - تبارك وتعالى - حمدًا ثانيًا ، ولا نحصي ثناءً عليه ، سبحانه كما هو أثنى على نفسه ، ونعم الله - تبارك وتعالى - علينا كثيرة ، ومن نعمه أن يكون بين أظهرنا اليوم أستاذنا وشيخنا محمد ناصر الدين الألباني ، وأستعير وكلكم طبعًا يعني تعرفونه قبل أن تروه قراءة وتلمذةً عليه ، وسأستعير في هذه المناسبة كلمة الإمام أحمد بن حنبل في وصفه للشافعي - رضي الله عنهما - يقول : " كان كالشمس للدنيا ، والعافية للناس " ، وهذا - إن شاء الله - يعني لعل هذا الوصف يصدق اليوم على شيخنا وأستاذنا ، وذلك أنه ما من طالب علم في عصرنا الحاضر يسير على منهج السلف الصالح إلا وقد استفاد علمًا من الشيخ ناصر - جزاه الله خيرًا - لما هيَّأه الله - تبارك وتعالى - له من تحقيق لأحاديث النبي - صلوات الله وسلامه عليه - وتمييز لصحيحها من ضعيفها ، في وقت درس هذا العلم بين الناس ، وأصبحت القلة القليلة التي تعتني به وتهتم به ، والحال أنَّ هذا العلم هو خلاصة الدين ، وهو السَّدُّ المنيع بين الدين الصحيح وبين الدين الزائف ، والشيخ - حفظه الله - لم يجعل همَّه أن يكون بين يعني سطور الكتب والغرف المغلقة ، ولكنه يعني قرأ وسمع لعامة الخطباء ولعامة الكُتَّاب ؛ فما كان يجد حديثًا ضعيفًا في خطبة مشهورة ، ولا حديثًا ضعيفًا في كتاب مشهور بأيدي الناس إلا واهتمَّ به وبيَّنه ، وتحمَّل في هذا كلام الناس ، وسخط الساخطين ، ولكنه يعني بحول الله - تبارك وتعالى - وقوته ... ذلك ، على كلِّ حال ليس المقام مقام الثناء على الشيخ وهو أكبر وأجل من هذا - إن شاء الله - ، ونسأل الله أن يكون قدره عنده أعظم . وفي هذه الليلة - إن شاء الله - سيكون الحديث حول موضوع أساسي من موضوعات الدعوة السلفية ؛ وهي كيف نفهم الدِّين على منهج سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - ؟ إن شاء الله ستكون الأسئلة بعد أن ينتهي الشيخ من الكلمة ، وستكون مكتوبة - إن شاء الله - توزَّع عليكم أوراق ، ونفتح للنقاش - إن شاء الله - بعد تمام الكلمة ، وأترك المجال الآن للشيخ فليتفضَّل .
الشيخ : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا ، أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
وكلكم يعلم أن المسلمين جميعًا اتَّقفوا على أن الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اتفاقًا لا خلاف فيه ، ولذلك فلا بدَّ أن نفهمَ الفرق بين دعوتنا نحن - معشر السلفيين - من بين سائر الجماعات أو الأحزاب أو المذاهب الأخرى قديمًا وحديثًا ، تلك الجماعات والمذاهب التي تلتقي معنا على ما ذكرنا ؛ من أن الإسلام إنَّما هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فينبغي أن نعلم أن الفرق بيننا وبين أولئك الذين أشرنا اليهم ، إنما هو في أمر هامٍّ جدًّا ، لو أن المسلمين التزموه قديمًا وحديثًا لَما وقع هذا الخلاف الشديد الكثير قديمًا وحديثًا ؛ ألا وهو التزام ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه الكرام من بعده ، ذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي خُوطب في القرآن الكريم بقول ربِّ العالمين ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين الناس ما نزل اليهم ، ففي هذه الآية التصريح بأن الله - تبارك وتعالى - كلَّف نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - بأمرين اثنين ، الأمر الأول أن يبلِّغ الناس ألفاظ ما أوحي إليه من كتاب ربِّه - تبارك وتعالى - ، والأمر الثاني أن يبيِّنه للناس وأن يوضِّحه لهم ، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كُلِّف إذًا بوظيفتين ؛ تبليغ اللفظ ، وبيان المعنى ، والتبليغ باللفظ هو الذي أرادَه ربُّنا - تبارك وتعالى - بقوله - عز وجل - : يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، بلغ ما أنزل إليك من ربِّك من كتاب الله - عز وجل - ، ومن أحكام أخرى أنزلها الله - عز وجل - على قلب محمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم تولَّى نقلها إلى الناس بطريق حديثه - عليه الصلاة والسلام - ، هذا هو الأمر الأول الذي أُمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بتبليغه إلى الناس .
والأمر الثاني - وهو مهم جدًّا كالأمر الأول - ؛ ألا وهو تبيان وتوضيح ذلك الذي أنزله الله على قلب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من القرآن ، وهذا هو المقصود بالآية السابقة الذكر : وأنزلنا إليك الذكر لتبيَّن الناس ما نزل إليهم ، والذكر هنا كما هو معلوم عند العلماء المفسرين إنما هو القرآن الكريم ، وأنزلنا إليك الذكر هو مثل قوله - تعالى - : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فكما أن الذكر مقصود بهذه الآية الأخيرة هو القران الكريم ؛ فكذلك المقصود بالذكر بالآية السابقة : وأنزلنا إليك الذكر لتبين الناس ما نزل اليهم ، فإذا تبيَّن لنا هذا وهو أن القرآن الكريم لا يُمكننا أن نفهمَه فهمًا صحيحًا إلا من طريق نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ؛ حيث أنَّه تولى بيان وتوضيح وتفسير القرآن ، ومن هنا لا يمكن لأيِّ مسلم أن يكون مسلمًا حقًّا إذا ما ركب رأسه ورغب أن يفهم كلام الله مستقلًّا ومنفصلًا عن بيان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإلَّا فحينئذٍ لا يكون مؤمنًا بالشطر الثاني من الشهادتين الشهادة الثانية ؛ " وأن محمدًا رسول الله " ، الذي يعتمد على نفسه في فهم كتاب ربِّه دون أن يعتمد على بيان نبيِّه وتفسيره وتوضيحه يكون لا يُعتبر مسلمًا ؛ لأنه لم يعتقد في قرارة قلبه بأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هو رسول الله حقًّا ، لذلك يجب أن نتصوَّر هذه الحقيقة ؛ أنَّه لا مجال لفهم القرآن إلا من طريق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، هذه واحدة ، وهي نقطة أساسية .
وفي اعتقادي لم يختلف المسلمون في هذا قديمًا ، وإن وجد في الزمن الأخير مَن شكَّ على الأقل في هذا ، حيث أنَّهم يلجؤون إلى تفسير القرآن بآرائهم ، دون أن يرجعوا في ذلك إلى بيان الرسول - عليه السلام - ، وإلى سنته ، وهؤلاء فرقة نشأت في الهند ، ثم تسرَّبت بعض أفرادها إلى مصر ، ثم إلى بلاد أخرى ، يُسمَّون أو يُسمُّون أنفسهم بـ " القرآنيِّين " ، فهؤلاء قد أعرضوا عن التمسُّك بهذا البيان الذي ذكره الله - عز وجل - في القرآن كما بيَّنَّا ، ولذلك كان من عاقبة ذلك أن جاؤوا بإسلام لا أساسَ له في الكتاب وفي السنة ، إنما هي مفاهيم ابتدعَها هؤلاء حينما انحرفوا عن هذا الأصل الثاني ؛ ألا وهو سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ونحن نعلم يقينًا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله سلم - هم أعرف الناس بلغة القرآن ، لغة العرب التي نزل فيها القرآن ، ومع ذلك فقد وقَفُوا في كثير من الآيات في فهمها ، بل أخطأ في بعضها بعضُ أصحابه - عليه الصلاة والسلام - ؛ حتى أوضحَ ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمثلة كثيرة معروفة في السنة ، وحسبكم من ذلك أنه - تبارك وتعالى - لما أنزل قوله - عز وجل - في الصيام : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فهمَ بعض الصحابة في الآية الكريمة التي قبلها حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، نزلت الآية إلى هنا ، ففهمَ بعض الصحابة - وهم العرب الأصيلين - فهموا من هذه الآية حتى يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود هو المعنى المتبادر من لفظة الخيط ، فكان يضع عقالَين تحت وسادته ، ويستيقظ في آخر الليل ؛ يحاول أن يميِّزَ الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، حتى بلغ ذلك الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ فقال له : إنَّك لعريض القفا ، كان بذلك أن فهمه فيه شيء ، فأنزل الله - عز وجل - توضيحًا وبيانًا للمراد من قوله - تبارك وتعالى - : حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ليس من القماش أو الثوب أو الخيط أو نحو ذلك ، فإذا كان العرب الذين نزلَ فيهم القرآن مباشرةً كانوا بحاجةٍ إلى تعليم الرسول - عليه السلام - وبيانه ؛ كما في هذا الحديث وفي حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله - عز وجل - قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أشكل الأمر على بعض الصحابة - رضي الله عنهم - فقالوا : يا رسول الله ، وأيٌّ منَّا لم يخالط إيمانه شيء من الظلم ؟ قال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ليس الأمر كذلك ؛ أي : ليس المقصود بالظلم هنا هو الظلم الناس بعضهم لبعض ، أو ظلم الإنسان لنفسه ؛ وإنما المقصود به الظلم الخاص هو أعظم الظلم ، وهو الشرك بالله - عز وجل - ، واستشهد على ذلك رسولنا - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله الله - تبارك وتعالى - حكاية عن لقمان حين قال لابنه وهو يعظه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، فإذًا في الآية السابقة معنى الظلم هناك هو الشرك الأعظم ، فإذا أشكل مثل هذه الآية الثانية على بعض الصحابة ، ففهموا الظلم بالمعنى غير المفهوم من الآية الأخرى ؛ حتى وضح لهم الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أن الظلم في الآية الأولى هو الظلم في الآية الأخرى ، وهو الشرك بالله - عز وجل - .
مثل هذا يجده الباحث كثير وكثير جدًّا في السنة ، وفي تاريخ الصحابة مع نبيِّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، لذلك كان بدهيًّا جدًّا أن يتَّفق علماء المسلمين على أن القرآن الكريم لا سبيل إلى فهمه إلا من طريق نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، من أجل ذلك نجد الأحاديث النبوية الصحيحة تترى ، ويتبع بعضها بعضًا في بيان أنَّ المسلمين يكونون على هدًى من ربِّهم ، وعلى استقامة من أمرهم ما دامُوا متمسِّكين بكتابه الله ، وببيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو السنة . فلعلَّ كلكم قد طرق سمعَه قولُه - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع : إني قد تركت فيكم أمرين ؛ لن تضلوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسُنَّتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض . إني قد تركت فيكم أمرين ؛ لن تضلوا ما إن تمسَّكتم بهما ليس أمرًا واحدًا هو القرآن كما يزعم القرآنيون ، وإنما أمران اثنان ، تركت فيكم أمرين ؛ لن تضلوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسُنَّتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض أي : يجب أن يبقى المسلمون متمسِّكين بهذين الأصلين ؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يوم البعث ، فيحشر القرآن والسنة مع بعض لا تفريق بينهما ، وقد أكَّد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير ما حديث صحيح ، من ذلك ما أخرجه الإمام أبو داود والإمام أحمد والحاكم في " المستدرك " وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : لا ألفينَّ أحدكم متَّكئًا على أريكته ، يقول هذا كتاب الله ؛ فما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه ، وما وجدنا فيه حلالًا حلَّلناه ؛ ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، وفي حديث آخر : ألا إن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله ، فهذا الحديث يؤكِّد ما سبق في بعض الآيات السابقة من قوله - تعالى - : وأنزلنا إليك الذكرى لتبيِّن للناس ما نزل إليهم ، فإذًا هناك بعبارة أخرى مُبيِّن ومُبيَّن ، المُبيَّن هو القرآن الكريم ، والمُبيِّن هو الرسول - عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم - ، فلا يجوز التفريق بين القرآن والسنة .
هذه الحقيقة ممَّا أجمع علماء المسلمون قديمًا على ذلك - والحمد لله - ، ولكن بقي هناك شيء ثالث غفلَ عنه اليوم جماهير المُنتمين إلى الإسلام ، وفيهم بعض الجماعات الإسلامية والأحزاب المسلمة ، هذا الأمر الثالث هو - أيضًا - مما تولَّى بيانه القرآن ثم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، أما القرآن فاسمعوا قول الله - عز وجل - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونصله جهنم وساءت مصيرًا ، الشاهد من هذه الآية أننا نُلاحظ أن الله - عز وجل - ذكر الرسول هنا ثمَّ عطف على ذلك سبيل المؤمنين ، فقال - عز وجل - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين ، إلى آخر الآية ، فلماذا ؟ ما الحكمة يا ترى من ذكر ربنا - عز وجل - في هذا السِّياق سبيل المؤمنين ؟ أليس كان كافيًا وافيًا لو أن الآية لم تذكر سبيل المؤمنين فيها ؟ ولو أن الآية كانت على نحو ما أقول : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى " ؛ لماذا لم تأتِ الآية هكذا ؟ وإنما جاءت بزيادة ويتبع غير سبيل المؤمنين ، هنا نكتة هامَّة وهامَّةٌ جدًّا ، وهي في الحقيقة بيت القصيد - كما يُقال - من كلمتي في هذه الأمسية المباركة - إن شاء الله - ، الله - عز وجل - عطف على قوله : من يشاقق الرسول قوله : ويتبع سبيل المؤمنين ، لأمر هام ؛ ما هو يا تُرى ؟ ذلك أننا قد علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بلَّغ أصحابه الكرام مباشرةً لفظ القرآن وبيانه ؛ أي : تفسيره ، وأن هؤلاء السلف الصالح في مقدِّمتهم أصحابه - عليه الصلاة والسلام - لما تلقَّوا هذا البيان المفسِّر للقرآن فهموه - بلا شك - فهمًا صحيحًا أولًا ، ثمَّ طبَّقوه تطبيقًا صحيحًا ، ولذلك استحقُّوا نصر الله - عز وجل - في كل المعارك التي جاهدوا فيها في سبيل الله ، لأنهم نصروا الله فنصرهم .
إذ الأمر كذلك فالذين جاؤوا من بعدهم التابعون لهم بإحسان فقد تلقَّوا - أيضًا - بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتطبيق الصحابة لهذا البيان ، وجعلهم في هذا البيان إسلامًا - كما يقول اليوم - يمشي على وجه الأرض ، تلقى التابعون ثم أتباعهم كذلك هذا البيان الصادر عن الرسول - عليه السلام - ، والمُطبَّق بينهم على مرِّ السنين ، بل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية ، فكانوا جميعًا على هدًى من ربِّهم ، فكان عاقبة من يخالف هؤلاء السلف ويتَّبع غير سبيلهم أن يكون عليه ذلك الوعيد الشديد الذي سمعتموه في الآية السابقة ، وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .
لو أن الله - عز وجل - لم يذكر هذه الآية لَكان هناك مجال واسع ليقولَ المخالف ، بل المشاقق للرسول - عليه السلام - أن يقول هذا فهمي للقرآن ، وهذا أمر واقع مع الأسف الشديد ، فهناك مثلًا طوائف قديمة جدًّا فهموا من القرآن أنه قاتل الصلاة إنما هي ثلاث وليس خمسًا كما هو رأي أهل السنة والجماعة ؛ لأنهم نظروا إلى مثل قوله - تبارك وتعالى - .
نعم ؟
السائل : ... .
الشيخ : لأ ، آية ، حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين .
السائل : ... .
الشيخ : لأ ، آية وقرآن الفجر إيش أولها ؟
السائل : أقم الصلاة لدلوك الشمس .
الشيخ : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا ، فهموا من هذه الآية أنَّ هناك ثلاث أوقات فقط ، أقم الصلاة لدلوك الشمس أي : لزوالها ، و غسق الليل أي : ظهور الظلام ، وقرآن الفجر أي : صلاة الفجر ، هذه الثلاثة أوقات ، لذلك ليس عندهم ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما علمه جبريل - عليه الصلاة والسلام - الصلوات الخمس ؛ كما توارثناها نحن خلفًا عن سلف ، لماذا ركبوا عقولهم وسلَّطوها على مثل هذا النَّصِّ ؛ فلم يفهموا منه إلا أن هناك ثلاث أوقات فقط تُصلَّى فيها خمس صلوات ؛ صلاة الظهر والعصر في وقت ، وصلاة المغرب والعشاء في وقت ، وصلاة الصبح في وقت ، تمامًا كما يفعل أهل السنة وهم في سفرهم ، فاتهم أو أعرضوا عن سبيل المؤمنين الذين نقلُوا إلينا عن سيِّد المرسلين أنه كان يصلِّي بأصحابه طيلة حياته المباركة في خمس أوقات ، فنحن حينما ننظر إلى هذه السنة العملية نفهم ما ذكره السلف في تفسير الآية السابقة ؛ أقم الصلاة لدلوك الشمس أي : لدخول وقت الظُّهر ووقت العصر ، لأن وقت العصر لا يكون إلا بعد ميل الشمس ، فإذًا كون هناك وقتان في الظهر وفي العصر لا ينافي الآية التي تقول : لدلوك الشمس ؛ لأن زوال الشمس وقته طويل وطويل جدًّا يتَّسع لصلاتين ، وهما صلاة الظهر وصلاة العصر . كذلك قوله - تبارك وتعالى - : إلى غسق الليل أي : ظلام الليل ، فيدخل في ظلام الليل وقت المغرب ، ثم وقت صلاة العشاء ، أما قرآن الفجر في صلاة الفجر ، فهي واضحة .
هذا مثال من الأمثلة التي يتبيَّن للمسلم الحريص على فهم دينه على ما كان عليه السلف الصالح ؛ يتبيَّن له كيف ينحرف المُبتدعة عن فهم القرآن ومخالفتهم لسبيل المؤمنين بسبب عدم التفاتهم إلى ما تلقَّاه الصحابة عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ، من أجل ألا يقع المسلم في مثل هذا الفهم الخاطئ ؛ فيقول : أنا أفهم القرآن أن هناك ثلاث أوقات فقط للصلوات الخمس ؛ جاءت عبارة : ويتبع غير سبيل المؤمنين أي : كأن الله - عز وجل - يُريد أن يقول للمسلمين إنَّني أعيذكم وأرهب بكم أن تُخالفوا نبيَّكم ، وتخالفوا طريقه ، وتخالفوا - أيضًا - سبيل المؤمنين ، فمن فعل ذلك ؛ فله جزاء جهنم ؛ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ، إذًا لا يكفي أن يقول المسلم أنا أفهم القرآن هكذا ، ثمَّ لا يلتفت إلى ما كان عليه المسلمون في فهمه للقرآن ، وإلا فمن سلكَ هذا السبيل ، فلم يؤمن بالقرآن ، والله - عز وجل - حينما قال في هذه الآية : ويتبع غير سبيل المؤمنين ؛ لم يقل ذلك عبثًا ، بمعنى لو حذف إنسان هذه العبارة ؛ لا شك أنه يفسد المعنى المقصود من القرآن ؛ لأنه قصد أمرين اثنين : أولًا عدم مخالفة الرسول ، والثاني عدم الخروج عن سبيل المؤمنين .
وقد أكَّد هذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وزاده بيانًا كما هو شأنه في كثير من الأمور ؛ أنه يبيِّن القرآن ويزيده توضيحًا للناس ، سبيل المؤمنين هذه قد بيَّنه الرسول - عليه السلام - في حديث الفرق الضَّالَّة حينما قال - عليه الصلاة والسلام - : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستختلف أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة ؛ كلها في النار إلا واحد ، قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : هي الجماعة ، هذه هي الرواية الأشهر والأصح ، لكنَّها لا تُخالف الرواية الأخرى التي تقول : إن الفرقة الناجية من النار إنما هي التي تكون على ما أنا عليه - يعني الرسول عليه السلام - وأصحابي ، لماذا إذًا ذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث الصحيح أن الفرقة الناجية هي التي تكون على ما كان عليه الرسول ، ولم يكتفِ بهذا ، بل عطف - أيضًا - على ذلك وأصحابي - أيضًا - ، تكون على ما كان عليه الرسول ، وعلى ما كان عليه أصحابه . النكتة في هذا الحديث فهي في الآية السابقة ، إنما ذكر الرسول - عليه السلام - في هذا الحديث الصحابة ؛ لأنهم هم الذين تلقَّوا القرآن من الرسول - عليه السلام - مباشرةً غضًّا طريًّا ، ثم تلقَّوا منه - عليه السلام - بيانه وتفسيره وتوضيحه ، فطبَّقوه ، فإذا نحن أعرضنا عن التمسُّك بما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا نكون ضامنين أن نكون من الفرقة الناجية ؛ ذلك لأنَّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قدَّم لنا وصفين لنكون من الفرقة الناجية :
- الوصف الأول : أن نأخذ ما جاءنا عن الرسول - عليه السلام - . والوصف الثاني : أن نأخذ ما جاءنا عن أصحابه الكرام .
إذًا هذا الحديث هو كقوله - عز وجل - في الآية السابقة ، حينما لفتَ النَّظر إلى أنَّ هناك أمرًا هامًّا جدًّا يجب أن يرعاه المسلمون ولا يخالفوه ؛ ألا وهو سبيل المسلمين الأوَّلين ، كذلك هنا الرسول - عليه السلام - أكَّد المعنى فقال في صفة الفرقة الناجية : هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي ، من هذا القبيل - أيضًا - تمامًا الحديث الذي رواه أصحاب السنن الإمام الترمذي وغيره ، من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال : " وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موعظةً وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : أوصنا يا رسول الله . قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن وُلِّي عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه من يعش منكم ؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنتي ما وقف عند سنَّته ، بل عطف - أيضًا - على ذلك فقال : وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ؛ عضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وفي الحديث الآخر : وكل ضلالة في النار . الشاهد من هذا الحديث هو أن الرسول - عليه السلام - أوصى أصحابه الكرام ، وبالتالي من يأتي من بعدهم بأن يتمسَّكوا بسنته ، وسنة الخلفاء الراشدين ؛ لماذا ذكر سنة الخلفاء الراشدين ؟ لأن هؤلاء الخلفاء من بين كل الصحابة فهموا - أيضًا - ما تلقَّوه عن الرسول - عليه السلام - فهمًا صحيحًا ، وطبَّقوه تطبيقًا صحيحًا ، ولذلك فكأنه يقول - عليه الصلاة والسلام - للناس تمسَّكوا بما كان عليه أصحابي ؛ لأنهم كانوا على هدًى من ربِّهم فهمًا وعملًا ، وكثير من المسلمين قد يفهمون فهمًا صحيحًا ، ولكن لا يطبِّقون ذلك في أنفسهم وفي ذويهم ممن يليهم
، أما الصحابة ؛ فقد كانوا على هدًى من ربِّهم فهمًا لكتاب ربِّهم ، واتباعًا لسنَّة نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، من أجل ذلك وقد كثرت الدَّعوات في الزمن الأخير ، وكلٌّ من أصحاب هؤلاء هذه الدَّعوات كلهم يدَّعي أنه على الإسلام ، وكلهم أصبحوا في آخر الزمان يرفعون صوتَهم بالكتاب والسنة ، لكنَّكم لا تجدون طائفةً منهم يُعلنونها صريحةً ؛ فضلًا عن أنَّهم لا يتبنَّونها لهم عقيدة ؛ لا يقولون الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ؛ ذلك لأنَّ جماهيرهم يريدون أن يفسِّروا القرآن وأن يفسروا أحاديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - الحديث على ما يناسب أهواءَهم أو أذواقهم أو ما يدَّعونه من مصلحة الأمة ، فتجد كثيرًا من الكُتَّاب الإسلاميين اليوم لا يتَّبعون سنَّة السلف الصالح في الصَّدع بالحق ، الذي لا يقبل التعدُّد ، فتجد كثيرين منهم من يُفتي بما يعلم هو نفسه ؛ فضلًا عن غيره أن هذه الفتوى التي يُفتي بها هي خلاف السنة الصحيحة ، إن لم تكن خلافَ القرآن الكريم ، فهو يأخذ من الأقوال التي اختلف فيها العلماء ما هو أشدُّ نَفَاقًا ورواجًا بين الناس ؛ بدعوى إيه ؟ التيسير على الناس ، ولذلك فهم جعلوا لهم منهجًا غير منهج السلف الصالح ، الذين كانوا يتَّبعون النَّصَّ ؛ سواء كان فيه تيسير أو فيه تشديد ، ولا أقول تعسير ؛ فالتيسير ليس بأهوائنا ورغباتنا وشهواتنا ، وإنما التيسير هو ما يسَّره الله - تبارك وتعالى - ، فمثل هذه الدعوات لا يمكن أن يتبنَّوا هذا الذي نؤكِّده في هذه الكلمة " منهاج السلف الصالح " ، وإنما هم يركنون إلى بعض الآيات ويفسِّرونها حسب مقتضى الشهوات ، ويقولون مثلًا : يسِّروا ولا تعسِّروا ، كأن التيسير هو بيدنا ، والتيسير شرعٌ كما تعلمون ، والحق أننا نيسِّر حيث يسَّر الله ، ونعزم حيث عزم الله علينا ، وليس لنا من الشرع خيرة مطلقًا ، وإنما هو مجرَّد الاتباع ، لذلك لا بدَّ لنا نحن - معشر السلفيين - أن نبيِّن دعوتَنا جليًّا لا خفاء فيها ، دعوتنا كتاب الله وحديث رسول الله ، يلتقي معنا فيها كلُّ الجماعات الإسلامية ، لكننا إذا قيل لهم : وعلى منهج السلف الصالح للأدلة السابقة الذكر ؟ لم يمشوا معنا ، وارتدُّوا عنَّا ، ولذلك فعلينا أن نعرف حقيقة دعوتنا فهمًا ، ثم علينا أن نطبِّقها عملًا .
لا بد أنكم سمعتم في كثير مما يُذاع أو يُنشر في بعض الرسائل الإنكار على أهل السنة التي يتمسَّكون بها قولًا وفعلًا ؛ أصبحوا موضع إنكار ؛ لأنهم لا يتطوَّرون مع الزمن ، فهذا التطور مع الزمن هل كان من هدي السلف الصالح ؟ الجواب : أبدًا ، كان الرجل الصحابي يدخل على أكبر ملك من الكفار ؛ سواء كان كسرى أو قيصر ؛ فلا يغيِّر شيئًا من هديه ، ولا من طريقة مُقابلته للناس ، بل هو يثبت بذلك أنه مسلم ، وأن له هديًا لا يحيد عنه قيدَ شعرة ؛ لأنه كذلك تلقَّى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، بينما هؤلاء الذين لا يلتزمون معنا منهج السلف الصالح يُريدون أن يطوِّرونا ، وأن يجعلوا إسلامنا إسلامًا أوروبِّيًّا أو إسلامًا أمريكيًّا ؛ بزعم إيه ؟ يسِّروا ولا تعسِّروا ، فنقول نحن نيسِّر مع الشرع ، ولا نيسِّر مع مخالفة الشرع ، إذًا يجب أن نتذكَّر هذه الحقيقة ؛ دعوتنا كتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح ، ولذلك تواردَ عن السلف عن العلماء قولهم :
وكل خير في اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف
قلت آنفًا في أثناء كلمتي هذه أنَّ كل الطوائف الإسلامية تدَّعي تلك الدعوة الصحيحة في ذاتها ؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكن مع ذلك نجد منهم مَن وقع في الكفر والضلال الأكبر ، وهو يدَّعي أنه على الكتاب والسنة ، وهذا قديمًا وحديثًا ، وإليكم بعض الأمثلة ؛ مثلًا : المعتزلة ليس فيهم من يُنكر آية من آيات الله من كتاب الله - عز وجل - ، لكنهم مع ذلك خالفوا السلف الصالح في عقيدتهم في كثير من الأمور ، من أوضحها مثلًا إنكارهم ما ثبت في الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح من رؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة ، كما قال بعض العلماء :
يراه المؤمنون بغير كيفٍ *** وتشبيهٍ وضربٍ من مثالِ
أنكر هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة القديمة المعتزلة على الرَّغم من قول الله - عز وجل - في القرآن الكريم : وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربِّها ناظرة ، وقوله - تبارك وتعالى - : للذين أحسنوا الحُسنى وزيادة ، وقد فسَّر الرسول - عليه السلام - هذه الآية بقوله : للذين أحسنوا الحسنى أي : الجنة ، وزيادة أي : رؤية الله - تبارك تعالى - ، وهذا الحديث في " صحيح مسلم " ، كما أنكروا ما تواتر عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من حديث أبي هريرة ، ومن حديث أبي سعيد الخدري وغيرهما ؛ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان جالسًا مع أصحابه في ليلة بدرٍ - القمر بدر - ، فقال لهم : إنَّكم سترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تُضامون وفي رواية : لا تضامُّون في رؤيته ؛ أنكروا هذه الأحاديث كلها ، والأقوال التي جاءت عن السلف الصالح ؛ مع صراحة القرآن ؛ فهل أنكروا الآية ؟ لا ، ولكنهم فسَّروها بعقولهم ، ولم يلتفتوا إلى تفسيرها المنقول عن السلف الصالح ؛ فحُقَّ فيهم الآية السابقة : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين .
من ذلك - أيضًا - ، ولنقترب قليلًا أو شيئًا قليلًا إلى واقعنا ؛ أن كثيرًا من المسلمين ممن يُنسبون إلى السنة قديمًا وحديثًا قد أنكروا كثيرًا من الصفات التي جاءت في كتاب الله وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فألحقوا أنفسهم بالمعتزلة ، المعتزلة لم ينكروا تلك الآية ، ولكن أنكروا معناها الصحيح الذي كان عليه سلفنا الصالح ، كذلك هؤلاء الذين يُعرفون اليوم بـ " الأشاعرة " ، ومنهم بعض " الماتريدية " ، أنكروا كثيرًا من المعاني الصحيحة الواضحة في كتاب الله - عز وجل - بطريق تأويلها على خلاف ما كان عليه السلف ، ...
فالسَّلفي في قول الله - عز وجل - : الرحمن على العرش استوى قال السلف - بدون أي خلاف بينهم - : الرحمن على العرش استوى أي : استعلى ؛ علوًّا على جميع مخلوقاته ، يليق بعظمته - تبارك وتعالى - وجلاله ، فأوَّلوا قوله - تبارك وتعالى - استوى بمعنى استولى ، فوقعوا في مشكلة شرحناها في الأمس القريب ، ولسنا في ذاك الصدد الآن ، هذا مثال من الأمثلة التي ضلَّ فيها بعض أهل السنة بسبب أنهم لم يتمسَّكوا بما كان عليه السلف الصالح .
والأمثلة كثيرة جدًّا ، ولنأتِ إلى مثال أخير اليوم ؛ كلكم سمعَ ولا بد بالطائفة التي خرجت عن الإسلام كليَّةً ؛ ألا وهي القاديانية ، الذين ادَّعوا بأن هناك أنبياء يأتون من بعد نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - وزعموا فعلًا أنه جاء أحدهم ، وهو المعروف بـ " ميرزا غلام أحمد القادياني " ، وهؤلاء يقولون - أيضًا - ما يقول الآخرون - قديمًا وحديثًا - : " نحن مع الكتاب والسنة " ، فإذا قيل لهم : كيف أنتم مع الكتاب والسنة وفي الكتاب الكريم التصوير بقوله - تبارك وتعالى - في نبيِّنا - عليه السلام - : ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وأنتم تقولون ليس بخاتم النبيين ؟!! قالوا : ليس معنى خاتم النبيين آخرهم ، وإنما معنى خاتم النبيين أي : زينة النبيِّين ، وجاؤوا بفلسفة لا يعرفها أهل اللغة الذين نزل عليهم القرآن ، فقالوا : معنى خاتم النبيين أي : زينة النبيين ، قالوا : أنُّو هذا تشبيه ، كما أن الخاتم زينة الإصبع ؛ فكذلك الرسول - عليه السلام - هو خاتم الأنبياء ؛ أي : زينتهم ، فلعبوا بالآية ، وفسَّروها على غير تفسيرها الصحيح ، فضلُّوا ضلالًا بعيدًا ، وكفروا بالإسلام تكفيرًا كلِّيًّا ، ما هو السبب ؟ لم يقفوا مع سبيل المؤمنين ، فهذه هي النكتة من ذكر سبيل المؤمنين في الآية ، وذكر الصحابة في الحديث ، وذكر الخلفاء الراشدين في الحديث الآخر ، إذًا يجب أن نكون سلفيِّين عقيدةً ومنهجًا وسلوكًا ؛ لكي نكون في عصمة من الانحراف عن الشرع باسم الشرع باسم الكتاب والسنة ، فكل هؤلاء الأشخاص الذين ضربنا بهم الأمثلة قد انحرفوا عن الشريعة ، وهم يقولون : نؤمن بكتاب الله وبسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، لكنَّهم فسَّروا كتاب الله وفسَّروا حديث رسول الله بأهوائهم لا بما جاءنا عن السلف الصالح .
ذكرت لكم أخيرًا عن هذه الطائفة القاديانية كيف فسَّروا الآية ، التي هي تصرِّح بأنَّه لا نبيَّ بعده - عليه السلام - ، فقيل لهم ما موقفكم بالنسبة للأحاديث المتكاثرة بل المتواترة بأنه لا نبي بعده - عليه السلام - ، وبخاصة حديث عليٍّ حينما خلَّفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة حينما ذهب لتبوك - عليه الصلاة والسلام - ، فركض خلفه عليٌّ - رضي الله عنه - فقال له : - عليه الصلاة والسلام - مطمِّنًا له : يا علي ، أنت مني بمنزله هارون من موسى ؛ غير أنه لا نبيَّ بعدي ، قيل للقاديانية هذه الحجة ؛ فكيف كان موقفهم تجاهها ؟ قالوا : لا نبيَّ بعدي ؛ أي : معي ، أما بعد وفاته - عليه السلام - فيوجد أنبياء ، هكذا فسَّروا الحديث - أيضًا - ، وهذا المثال والذي قبله وما قبله من أمثلة كثيرة يدلُّكم على أن هناك مجالًا واسعًا لتلاعب أهل الأهواء بنصوص الكتاب والسنة ، وبتفسيرها تفسيرًا يؤيِّدون بهذه التفاسير أهواءهم وأقوالهم الباطلة ، فبماذا نقيم الحجَّة على هؤلاء ؟ وهؤلاء كثيرًا وكثيرًا خاصة بالأفراد الذين ليس لهم دعوات بين الناس ، كل واحد يأتي بتفسير ، ويزيِّن الشيطان له هذا التفسير ، ويعجب به ، حتى إن بعضهم يقول هذا شيء جديد ، ما حدا سبقه إليه فهو يفخر به ، بينما كان اللَّائق به أن ينفر من هذا الرأي الذي بدا له إلى تفسير ما فسَّره السلف الصالح من الآيات الكريمة التي يواجهها تفسيرًا جديدًا .
إذًا الحجة قائمة اليوم وقبل اليوم بكتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وبما كان عليه السلف الصالح - رضي الله عنهم - أجمعين ، وهذه النقطة لا خلاف فيها بين الأئمة الأربعة وأمثالهم ؛ أي : من وجوب اتباع السلف الصالح ، وليس فقط نقول قرآن وسنة ، وإنما قرآن وسنة وعلى منهج السلف الصالح ، لذلك كان كثير من الأئمة وبخاصة منهم الإمام أحمد يعتمد على أقوال السلف من الصحابة وغيرهم حينما لا يجد جوابًا فيما عرض له من مسألة ، في كتاب الله أو في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لذلك جاءت الأحاديث الكثيرة المعروفة في التوصية بمعرفتنا لحقِّ الصحابة - رضي الله عنهم - ، ومن أشهر هذه الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام - كما في " الصحيحين " : لا تسبُّوا أصحابي ؛ فوالذي نفس محمد بيده ؛ لو أنفق أحدكم مثل جبل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه .
ونسأل الله - تبارك وتعالى - في ختام هذه الكلمة أن يوفِّقنا لاتِّباع الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، والحمد لله ربِّ العالمين .
فإن خير الكلام كلام الله - تعالى - ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
نحمد الله - تبارك وتعالى - حمدًا ثانيًا ، ولا نحصي ثناءً عليه ، سبحانه كما هو أثنى على نفسه ، ونعم الله - تبارك وتعالى - علينا كثيرة ، ومن نعمه أن يكون بين أظهرنا اليوم أستاذنا وشيخنا محمد ناصر الدين الألباني ، وأستعير وكلكم طبعًا يعني تعرفونه قبل أن تروه قراءة وتلمذةً عليه ، وسأستعير في هذه المناسبة كلمة الإمام أحمد بن حنبل في وصفه للشافعي - رضي الله عنهما - يقول : " كان كالشمس للدنيا ، والعافية للناس " ، وهذا - إن شاء الله - يعني لعل هذا الوصف يصدق اليوم على شيخنا وأستاذنا ، وذلك أنه ما من طالب علم في عصرنا الحاضر يسير على منهج السلف الصالح إلا وقد استفاد علمًا من الشيخ ناصر - جزاه الله خيرًا - لما هيَّأه الله - تبارك وتعالى - له من تحقيق لأحاديث النبي - صلوات الله وسلامه عليه - وتمييز لصحيحها من ضعيفها ، في وقت درس هذا العلم بين الناس ، وأصبحت القلة القليلة التي تعتني به وتهتم به ، والحال أنَّ هذا العلم هو خلاصة الدين ، وهو السَّدُّ المنيع بين الدين الصحيح وبين الدين الزائف ، والشيخ - حفظه الله - لم يجعل همَّه أن يكون بين يعني سطور الكتب والغرف المغلقة ، ولكنه يعني قرأ وسمع لعامة الخطباء ولعامة الكُتَّاب ؛ فما كان يجد حديثًا ضعيفًا في خطبة مشهورة ، ولا حديثًا ضعيفًا في كتاب مشهور بأيدي الناس إلا واهتمَّ به وبيَّنه ، وتحمَّل في هذا كلام الناس ، وسخط الساخطين ، ولكنه يعني بحول الله - تبارك وتعالى - وقوته ... ذلك ، على كلِّ حال ليس المقام مقام الثناء على الشيخ وهو أكبر وأجل من هذا - إن شاء الله - ، ونسأل الله أن يكون قدره عنده أعظم . وفي هذه الليلة - إن شاء الله - سيكون الحديث حول موضوع أساسي من موضوعات الدعوة السلفية ؛ وهي كيف نفهم الدِّين على منهج سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - ؟ إن شاء الله ستكون الأسئلة بعد أن ينتهي الشيخ من الكلمة ، وستكون مكتوبة - إن شاء الله - توزَّع عليكم أوراق ، ونفتح للنقاش - إن شاء الله - بعد تمام الكلمة ، وأترك المجال الآن للشيخ فليتفضَّل .
الشيخ : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا ، أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
وكلكم يعلم أن المسلمين جميعًا اتَّقفوا على أن الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اتفاقًا لا خلاف فيه ، ولذلك فلا بدَّ أن نفهمَ الفرق بين دعوتنا نحن - معشر السلفيين - من بين سائر الجماعات أو الأحزاب أو المذاهب الأخرى قديمًا وحديثًا ، تلك الجماعات والمذاهب التي تلتقي معنا على ما ذكرنا ؛ من أن الإسلام إنَّما هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فينبغي أن نعلم أن الفرق بيننا وبين أولئك الذين أشرنا اليهم ، إنما هو في أمر هامٍّ جدًّا ، لو أن المسلمين التزموه قديمًا وحديثًا لَما وقع هذا الخلاف الشديد الكثير قديمًا وحديثًا ؛ ألا وهو التزام ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه الكرام من بعده ، ذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي خُوطب في القرآن الكريم بقول ربِّ العالمين ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين الناس ما نزل اليهم ، ففي هذه الآية التصريح بأن الله - تبارك وتعالى - كلَّف نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - بأمرين اثنين ، الأمر الأول أن يبلِّغ الناس ألفاظ ما أوحي إليه من كتاب ربِّه - تبارك وتعالى - ، والأمر الثاني أن يبيِّنه للناس وأن يوضِّحه لهم ، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كُلِّف إذًا بوظيفتين ؛ تبليغ اللفظ ، وبيان المعنى ، والتبليغ باللفظ هو الذي أرادَه ربُّنا - تبارك وتعالى - بقوله - عز وجل - : يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، بلغ ما أنزل إليك من ربِّك من كتاب الله - عز وجل - ، ومن أحكام أخرى أنزلها الله - عز وجل - على قلب محمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم تولَّى نقلها إلى الناس بطريق حديثه - عليه الصلاة والسلام - ، هذا هو الأمر الأول الذي أُمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بتبليغه إلى الناس .
والأمر الثاني - وهو مهم جدًّا كالأمر الأول - ؛ ألا وهو تبيان وتوضيح ذلك الذي أنزله الله على قلب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من القرآن ، وهذا هو المقصود بالآية السابقة الذكر : وأنزلنا إليك الذكر لتبيَّن الناس ما نزل إليهم ، والذكر هنا كما هو معلوم عند العلماء المفسرين إنما هو القرآن الكريم ، وأنزلنا إليك الذكر هو مثل قوله - تعالى - : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فكما أن الذكر مقصود بهذه الآية الأخيرة هو القران الكريم ؛ فكذلك المقصود بالذكر بالآية السابقة : وأنزلنا إليك الذكر لتبين الناس ما نزل اليهم ، فإذا تبيَّن لنا هذا وهو أن القرآن الكريم لا يُمكننا أن نفهمَه فهمًا صحيحًا إلا من طريق نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ؛ حيث أنَّه تولى بيان وتوضيح وتفسير القرآن ، ومن هنا لا يمكن لأيِّ مسلم أن يكون مسلمًا حقًّا إذا ما ركب رأسه ورغب أن يفهم كلام الله مستقلًّا ومنفصلًا عن بيان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإلَّا فحينئذٍ لا يكون مؤمنًا بالشطر الثاني من الشهادتين الشهادة الثانية ؛ " وأن محمدًا رسول الله " ، الذي يعتمد على نفسه في فهم كتاب ربِّه دون أن يعتمد على بيان نبيِّه وتفسيره وتوضيحه يكون لا يُعتبر مسلمًا ؛ لأنه لم يعتقد في قرارة قلبه بأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هو رسول الله حقًّا ، لذلك يجب أن نتصوَّر هذه الحقيقة ؛ أنَّه لا مجال لفهم القرآن إلا من طريق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، هذه واحدة ، وهي نقطة أساسية .
وفي اعتقادي لم يختلف المسلمون في هذا قديمًا ، وإن وجد في الزمن الأخير مَن شكَّ على الأقل في هذا ، حيث أنَّهم يلجؤون إلى تفسير القرآن بآرائهم ، دون أن يرجعوا في ذلك إلى بيان الرسول - عليه السلام - ، وإلى سنته ، وهؤلاء فرقة نشأت في الهند ، ثم تسرَّبت بعض أفرادها إلى مصر ، ثم إلى بلاد أخرى ، يُسمَّون أو يُسمُّون أنفسهم بـ " القرآنيِّين " ، فهؤلاء قد أعرضوا عن التمسُّك بهذا البيان الذي ذكره الله - عز وجل - في القرآن كما بيَّنَّا ، ولذلك كان من عاقبة ذلك أن جاؤوا بإسلام لا أساسَ له في الكتاب وفي السنة ، إنما هي مفاهيم ابتدعَها هؤلاء حينما انحرفوا عن هذا الأصل الثاني ؛ ألا وهو سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ونحن نعلم يقينًا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله سلم - هم أعرف الناس بلغة القرآن ، لغة العرب التي نزل فيها القرآن ، ومع ذلك فقد وقَفُوا في كثير من الآيات في فهمها ، بل أخطأ في بعضها بعضُ أصحابه - عليه الصلاة والسلام - ؛ حتى أوضحَ ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمثلة كثيرة معروفة في السنة ، وحسبكم من ذلك أنه - تبارك وتعالى - لما أنزل قوله - عز وجل - في الصيام : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فهمَ بعض الصحابة في الآية الكريمة التي قبلها حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، نزلت الآية إلى هنا ، ففهمَ بعض الصحابة - وهم العرب الأصيلين - فهموا من هذه الآية حتى يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود هو المعنى المتبادر من لفظة الخيط ، فكان يضع عقالَين تحت وسادته ، ويستيقظ في آخر الليل ؛ يحاول أن يميِّزَ الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، حتى بلغ ذلك الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ فقال له : إنَّك لعريض القفا ، كان بذلك أن فهمه فيه شيء ، فأنزل الله - عز وجل - توضيحًا وبيانًا للمراد من قوله - تبارك وتعالى - : حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ليس من القماش أو الثوب أو الخيط أو نحو ذلك ، فإذا كان العرب الذين نزلَ فيهم القرآن مباشرةً كانوا بحاجةٍ إلى تعليم الرسول - عليه السلام - وبيانه ؛ كما في هذا الحديث وفي حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله - عز وجل - قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أشكل الأمر على بعض الصحابة - رضي الله عنهم - فقالوا : يا رسول الله ، وأيٌّ منَّا لم يخالط إيمانه شيء من الظلم ؟ قال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ليس الأمر كذلك ؛ أي : ليس المقصود بالظلم هنا هو الظلم الناس بعضهم لبعض ، أو ظلم الإنسان لنفسه ؛ وإنما المقصود به الظلم الخاص هو أعظم الظلم ، وهو الشرك بالله - عز وجل - ، واستشهد على ذلك رسولنا - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله الله - تبارك وتعالى - حكاية عن لقمان حين قال لابنه وهو يعظه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، فإذًا في الآية السابقة معنى الظلم هناك هو الشرك الأعظم ، فإذا أشكل مثل هذه الآية الثانية على بعض الصحابة ، ففهموا الظلم بالمعنى غير المفهوم من الآية الأخرى ؛ حتى وضح لهم الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أن الظلم في الآية الأولى هو الظلم في الآية الأخرى ، وهو الشرك بالله - عز وجل - .
مثل هذا يجده الباحث كثير وكثير جدًّا في السنة ، وفي تاريخ الصحابة مع نبيِّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، لذلك كان بدهيًّا جدًّا أن يتَّفق علماء المسلمين على أن القرآن الكريم لا سبيل إلى فهمه إلا من طريق نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، من أجل ذلك نجد الأحاديث النبوية الصحيحة تترى ، ويتبع بعضها بعضًا في بيان أنَّ المسلمين يكونون على هدًى من ربِّهم ، وعلى استقامة من أمرهم ما دامُوا متمسِّكين بكتابه الله ، وببيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو السنة . فلعلَّ كلكم قد طرق سمعَه قولُه - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع : إني قد تركت فيكم أمرين ؛ لن تضلوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسُنَّتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض . إني قد تركت فيكم أمرين ؛ لن تضلوا ما إن تمسَّكتم بهما ليس أمرًا واحدًا هو القرآن كما يزعم القرآنيون ، وإنما أمران اثنان ، تركت فيكم أمرين ؛ لن تضلوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسُنَّتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض أي : يجب أن يبقى المسلمون متمسِّكين بهذين الأصلين ؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يوم البعث ، فيحشر القرآن والسنة مع بعض لا تفريق بينهما ، وقد أكَّد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير ما حديث صحيح ، من ذلك ما أخرجه الإمام أبو داود والإمام أحمد والحاكم في " المستدرك " وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : لا ألفينَّ أحدكم متَّكئًا على أريكته ، يقول هذا كتاب الله ؛ فما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه ، وما وجدنا فيه حلالًا حلَّلناه ؛ ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، وفي حديث آخر : ألا إن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله ، فهذا الحديث يؤكِّد ما سبق في بعض الآيات السابقة من قوله - تعالى - : وأنزلنا إليك الذكرى لتبيِّن للناس ما نزل إليهم ، فإذًا هناك بعبارة أخرى مُبيِّن ومُبيَّن ، المُبيَّن هو القرآن الكريم ، والمُبيِّن هو الرسول - عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم - ، فلا يجوز التفريق بين القرآن والسنة .
هذه الحقيقة ممَّا أجمع علماء المسلمون قديمًا على ذلك - والحمد لله - ، ولكن بقي هناك شيء ثالث غفلَ عنه اليوم جماهير المُنتمين إلى الإسلام ، وفيهم بعض الجماعات الإسلامية والأحزاب المسلمة ، هذا الأمر الثالث هو - أيضًا - مما تولَّى بيانه القرآن ثم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، أما القرآن فاسمعوا قول الله - عز وجل - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونصله جهنم وساءت مصيرًا ، الشاهد من هذه الآية أننا نُلاحظ أن الله - عز وجل - ذكر الرسول هنا ثمَّ عطف على ذلك سبيل المؤمنين ، فقال - عز وجل - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين ، إلى آخر الآية ، فلماذا ؟ ما الحكمة يا ترى من ذكر ربنا - عز وجل - في هذا السِّياق سبيل المؤمنين ؟ أليس كان كافيًا وافيًا لو أن الآية لم تذكر سبيل المؤمنين فيها ؟ ولو أن الآية كانت على نحو ما أقول : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى " ؛ لماذا لم تأتِ الآية هكذا ؟ وإنما جاءت بزيادة ويتبع غير سبيل المؤمنين ، هنا نكتة هامَّة وهامَّةٌ جدًّا ، وهي في الحقيقة بيت القصيد - كما يُقال - من كلمتي في هذه الأمسية المباركة - إن شاء الله - ، الله - عز وجل - عطف على قوله : من يشاقق الرسول قوله : ويتبع سبيل المؤمنين ، لأمر هام ؛ ما هو يا تُرى ؟ ذلك أننا قد علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بلَّغ أصحابه الكرام مباشرةً لفظ القرآن وبيانه ؛ أي : تفسيره ، وأن هؤلاء السلف الصالح في مقدِّمتهم أصحابه - عليه الصلاة والسلام - لما تلقَّوا هذا البيان المفسِّر للقرآن فهموه - بلا شك - فهمًا صحيحًا أولًا ، ثمَّ طبَّقوه تطبيقًا صحيحًا ، ولذلك استحقُّوا نصر الله - عز وجل - في كل المعارك التي جاهدوا فيها في سبيل الله ، لأنهم نصروا الله فنصرهم .
إذ الأمر كذلك فالذين جاؤوا من بعدهم التابعون لهم بإحسان فقد تلقَّوا - أيضًا - بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتطبيق الصحابة لهذا البيان ، وجعلهم في هذا البيان إسلامًا - كما يقول اليوم - يمشي على وجه الأرض ، تلقى التابعون ثم أتباعهم كذلك هذا البيان الصادر عن الرسول - عليه السلام - ، والمُطبَّق بينهم على مرِّ السنين ، بل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية ، فكانوا جميعًا على هدًى من ربِّهم ، فكان عاقبة من يخالف هؤلاء السلف ويتَّبع غير سبيلهم أن يكون عليه ذلك الوعيد الشديد الذي سمعتموه في الآية السابقة ، وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .
لو أن الله - عز وجل - لم يذكر هذه الآية لَكان هناك مجال واسع ليقولَ المخالف ، بل المشاقق للرسول - عليه السلام - أن يقول هذا فهمي للقرآن ، وهذا أمر واقع مع الأسف الشديد ، فهناك مثلًا طوائف قديمة جدًّا فهموا من القرآن أنه قاتل الصلاة إنما هي ثلاث وليس خمسًا كما هو رأي أهل السنة والجماعة ؛ لأنهم نظروا إلى مثل قوله - تبارك وتعالى - .
نعم ؟
السائل : ... .
الشيخ : لأ ، آية ، حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين .
السائل : ... .
الشيخ : لأ ، آية وقرآن الفجر إيش أولها ؟
السائل : أقم الصلاة لدلوك الشمس .
الشيخ : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا ، فهموا من هذه الآية أنَّ هناك ثلاث أوقات فقط ، أقم الصلاة لدلوك الشمس أي : لزوالها ، و غسق الليل أي : ظهور الظلام ، وقرآن الفجر أي : صلاة الفجر ، هذه الثلاثة أوقات ، لذلك ليس عندهم ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما علمه جبريل - عليه الصلاة والسلام - الصلوات الخمس ؛ كما توارثناها نحن خلفًا عن سلف ، لماذا ركبوا عقولهم وسلَّطوها على مثل هذا النَّصِّ ؛ فلم يفهموا منه إلا أن هناك ثلاث أوقات فقط تُصلَّى فيها خمس صلوات ؛ صلاة الظهر والعصر في وقت ، وصلاة المغرب والعشاء في وقت ، وصلاة الصبح في وقت ، تمامًا كما يفعل أهل السنة وهم في سفرهم ، فاتهم أو أعرضوا عن سبيل المؤمنين الذين نقلُوا إلينا عن سيِّد المرسلين أنه كان يصلِّي بأصحابه طيلة حياته المباركة في خمس أوقات ، فنحن حينما ننظر إلى هذه السنة العملية نفهم ما ذكره السلف في تفسير الآية السابقة ؛ أقم الصلاة لدلوك الشمس أي : لدخول وقت الظُّهر ووقت العصر ، لأن وقت العصر لا يكون إلا بعد ميل الشمس ، فإذًا كون هناك وقتان في الظهر وفي العصر لا ينافي الآية التي تقول : لدلوك الشمس ؛ لأن زوال الشمس وقته طويل وطويل جدًّا يتَّسع لصلاتين ، وهما صلاة الظهر وصلاة العصر . كذلك قوله - تبارك وتعالى - : إلى غسق الليل أي : ظلام الليل ، فيدخل في ظلام الليل وقت المغرب ، ثم وقت صلاة العشاء ، أما قرآن الفجر في صلاة الفجر ، فهي واضحة .
هذا مثال من الأمثلة التي يتبيَّن للمسلم الحريص على فهم دينه على ما كان عليه السلف الصالح ؛ يتبيَّن له كيف ينحرف المُبتدعة عن فهم القرآن ومخالفتهم لسبيل المؤمنين بسبب عدم التفاتهم إلى ما تلقَّاه الصحابة عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ، من أجل ألا يقع المسلم في مثل هذا الفهم الخاطئ ؛ فيقول : أنا أفهم القرآن أن هناك ثلاث أوقات فقط للصلوات الخمس ؛ جاءت عبارة : ويتبع غير سبيل المؤمنين أي : كأن الله - عز وجل - يُريد أن يقول للمسلمين إنَّني أعيذكم وأرهب بكم أن تُخالفوا نبيَّكم ، وتخالفوا طريقه ، وتخالفوا - أيضًا - سبيل المؤمنين ، فمن فعل ذلك ؛ فله جزاء جهنم ؛ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ، إذًا لا يكفي أن يقول المسلم أنا أفهم القرآن هكذا ، ثمَّ لا يلتفت إلى ما كان عليه المسلمون في فهمه للقرآن ، وإلا فمن سلكَ هذا السبيل ، فلم يؤمن بالقرآن ، والله - عز وجل - حينما قال في هذه الآية : ويتبع غير سبيل المؤمنين ؛ لم يقل ذلك عبثًا ، بمعنى لو حذف إنسان هذه العبارة ؛ لا شك أنه يفسد المعنى المقصود من القرآن ؛ لأنه قصد أمرين اثنين : أولًا عدم مخالفة الرسول ، والثاني عدم الخروج عن سبيل المؤمنين .
وقد أكَّد هذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وزاده بيانًا كما هو شأنه في كثير من الأمور ؛ أنه يبيِّن القرآن ويزيده توضيحًا للناس ، سبيل المؤمنين هذه قد بيَّنه الرسول - عليه السلام - في حديث الفرق الضَّالَّة حينما قال - عليه الصلاة والسلام - : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستختلف أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة ؛ كلها في النار إلا واحد ، قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : هي الجماعة ، هذه هي الرواية الأشهر والأصح ، لكنَّها لا تُخالف الرواية الأخرى التي تقول : إن الفرقة الناجية من النار إنما هي التي تكون على ما أنا عليه - يعني الرسول عليه السلام - وأصحابي ، لماذا إذًا ذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث الصحيح أن الفرقة الناجية هي التي تكون على ما كان عليه الرسول ، ولم يكتفِ بهذا ، بل عطف - أيضًا - على ذلك وأصحابي - أيضًا - ، تكون على ما كان عليه الرسول ، وعلى ما كان عليه أصحابه . النكتة في هذا الحديث فهي في الآية السابقة ، إنما ذكر الرسول - عليه السلام - في هذا الحديث الصحابة ؛ لأنهم هم الذين تلقَّوا القرآن من الرسول - عليه السلام - مباشرةً غضًّا طريًّا ، ثم تلقَّوا منه - عليه السلام - بيانه وتفسيره وتوضيحه ، فطبَّقوه ، فإذا نحن أعرضنا عن التمسُّك بما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا نكون ضامنين أن نكون من الفرقة الناجية ؛ ذلك لأنَّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قدَّم لنا وصفين لنكون من الفرقة الناجية :
- الوصف الأول : أن نأخذ ما جاءنا عن الرسول - عليه السلام - . والوصف الثاني : أن نأخذ ما جاءنا عن أصحابه الكرام .
إذًا هذا الحديث هو كقوله - عز وجل - في الآية السابقة ، حينما لفتَ النَّظر إلى أنَّ هناك أمرًا هامًّا جدًّا يجب أن يرعاه المسلمون ولا يخالفوه ؛ ألا وهو سبيل المسلمين الأوَّلين ، كذلك هنا الرسول - عليه السلام - أكَّد المعنى فقال في صفة الفرقة الناجية : هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي ، من هذا القبيل - أيضًا - تمامًا الحديث الذي رواه أصحاب السنن الإمام الترمذي وغيره ، من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال : " وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موعظةً وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : أوصنا يا رسول الله . قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن وُلِّي عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه من يعش منكم ؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنتي ما وقف عند سنَّته ، بل عطف - أيضًا - على ذلك فقال : وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ؛ عضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وفي الحديث الآخر : وكل ضلالة في النار . الشاهد من هذا الحديث هو أن الرسول - عليه السلام - أوصى أصحابه الكرام ، وبالتالي من يأتي من بعدهم بأن يتمسَّكوا بسنته ، وسنة الخلفاء الراشدين ؛ لماذا ذكر سنة الخلفاء الراشدين ؟ لأن هؤلاء الخلفاء من بين كل الصحابة فهموا - أيضًا - ما تلقَّوه عن الرسول - عليه السلام - فهمًا صحيحًا ، وطبَّقوه تطبيقًا صحيحًا ، ولذلك فكأنه يقول - عليه الصلاة والسلام - للناس تمسَّكوا بما كان عليه أصحابي ؛ لأنهم كانوا على هدًى من ربِّهم فهمًا وعملًا ، وكثير من المسلمين قد يفهمون فهمًا صحيحًا ، ولكن لا يطبِّقون ذلك في أنفسهم وفي ذويهم ممن يليهم
، أما الصحابة ؛ فقد كانوا على هدًى من ربِّهم فهمًا لكتاب ربِّهم ، واتباعًا لسنَّة نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، من أجل ذلك وقد كثرت الدَّعوات في الزمن الأخير ، وكلٌّ من أصحاب هؤلاء هذه الدَّعوات كلهم يدَّعي أنه على الإسلام ، وكلهم أصبحوا في آخر الزمان يرفعون صوتَهم بالكتاب والسنة ، لكنَّكم لا تجدون طائفةً منهم يُعلنونها صريحةً ؛ فضلًا عن أنَّهم لا يتبنَّونها لهم عقيدة ؛ لا يقولون الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ؛ ذلك لأنَّ جماهيرهم يريدون أن يفسِّروا القرآن وأن يفسروا أحاديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - الحديث على ما يناسب أهواءَهم أو أذواقهم أو ما يدَّعونه من مصلحة الأمة ، فتجد كثيرًا من الكُتَّاب الإسلاميين اليوم لا يتَّبعون سنَّة السلف الصالح في الصَّدع بالحق ، الذي لا يقبل التعدُّد ، فتجد كثيرين منهم من يُفتي بما يعلم هو نفسه ؛ فضلًا عن غيره أن هذه الفتوى التي يُفتي بها هي خلاف السنة الصحيحة ، إن لم تكن خلافَ القرآن الكريم ، فهو يأخذ من الأقوال التي اختلف فيها العلماء ما هو أشدُّ نَفَاقًا ورواجًا بين الناس ؛ بدعوى إيه ؟ التيسير على الناس ، ولذلك فهم جعلوا لهم منهجًا غير منهج السلف الصالح ، الذين كانوا يتَّبعون النَّصَّ ؛ سواء كان فيه تيسير أو فيه تشديد ، ولا أقول تعسير ؛ فالتيسير ليس بأهوائنا ورغباتنا وشهواتنا ، وإنما التيسير هو ما يسَّره الله - تبارك وتعالى - ، فمثل هذه الدعوات لا يمكن أن يتبنَّوا هذا الذي نؤكِّده في هذه الكلمة " منهاج السلف الصالح " ، وإنما هم يركنون إلى بعض الآيات ويفسِّرونها حسب مقتضى الشهوات ، ويقولون مثلًا : يسِّروا ولا تعسِّروا ، كأن التيسير هو بيدنا ، والتيسير شرعٌ كما تعلمون ، والحق أننا نيسِّر حيث يسَّر الله ، ونعزم حيث عزم الله علينا ، وليس لنا من الشرع خيرة مطلقًا ، وإنما هو مجرَّد الاتباع ، لذلك لا بدَّ لنا نحن - معشر السلفيين - أن نبيِّن دعوتَنا جليًّا لا خفاء فيها ، دعوتنا كتاب الله وحديث رسول الله ، يلتقي معنا فيها كلُّ الجماعات الإسلامية ، لكننا إذا قيل لهم : وعلى منهج السلف الصالح للأدلة السابقة الذكر ؟ لم يمشوا معنا ، وارتدُّوا عنَّا ، ولذلك فعلينا أن نعرف حقيقة دعوتنا فهمًا ، ثم علينا أن نطبِّقها عملًا .
لا بد أنكم سمعتم في كثير مما يُذاع أو يُنشر في بعض الرسائل الإنكار على أهل السنة التي يتمسَّكون بها قولًا وفعلًا ؛ أصبحوا موضع إنكار ؛ لأنهم لا يتطوَّرون مع الزمن ، فهذا التطور مع الزمن هل كان من هدي السلف الصالح ؟ الجواب : أبدًا ، كان الرجل الصحابي يدخل على أكبر ملك من الكفار ؛ سواء كان كسرى أو قيصر ؛ فلا يغيِّر شيئًا من هديه ، ولا من طريقة مُقابلته للناس ، بل هو يثبت بذلك أنه مسلم ، وأن له هديًا لا يحيد عنه قيدَ شعرة ؛ لأنه كذلك تلقَّى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، بينما هؤلاء الذين لا يلتزمون معنا منهج السلف الصالح يُريدون أن يطوِّرونا ، وأن يجعلوا إسلامنا إسلامًا أوروبِّيًّا أو إسلامًا أمريكيًّا ؛ بزعم إيه ؟ يسِّروا ولا تعسِّروا ، فنقول نحن نيسِّر مع الشرع ، ولا نيسِّر مع مخالفة الشرع ، إذًا يجب أن نتذكَّر هذه الحقيقة ؛ دعوتنا كتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح ، ولذلك تواردَ عن السلف عن العلماء قولهم :
وكل خير في اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف
قلت آنفًا في أثناء كلمتي هذه أنَّ كل الطوائف الإسلامية تدَّعي تلك الدعوة الصحيحة في ذاتها ؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكن مع ذلك نجد منهم مَن وقع في الكفر والضلال الأكبر ، وهو يدَّعي أنه على الكتاب والسنة ، وهذا قديمًا وحديثًا ، وإليكم بعض الأمثلة ؛ مثلًا : المعتزلة ليس فيهم من يُنكر آية من آيات الله من كتاب الله - عز وجل - ، لكنهم مع ذلك خالفوا السلف الصالح في عقيدتهم في كثير من الأمور ، من أوضحها مثلًا إنكارهم ما ثبت في الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح من رؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة ، كما قال بعض العلماء :
يراه المؤمنون بغير كيفٍ *** وتشبيهٍ وضربٍ من مثالِ
أنكر هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة القديمة المعتزلة على الرَّغم من قول الله - عز وجل - في القرآن الكريم : وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربِّها ناظرة ، وقوله - تبارك وتعالى - : للذين أحسنوا الحُسنى وزيادة ، وقد فسَّر الرسول - عليه السلام - هذه الآية بقوله : للذين أحسنوا الحسنى أي : الجنة ، وزيادة أي : رؤية الله - تبارك تعالى - ، وهذا الحديث في " صحيح مسلم " ، كما أنكروا ما تواتر عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من حديث أبي هريرة ، ومن حديث أبي سعيد الخدري وغيرهما ؛ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان جالسًا مع أصحابه في ليلة بدرٍ - القمر بدر - ، فقال لهم : إنَّكم سترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تُضامون وفي رواية : لا تضامُّون في رؤيته ؛ أنكروا هذه الأحاديث كلها ، والأقوال التي جاءت عن السلف الصالح ؛ مع صراحة القرآن ؛ فهل أنكروا الآية ؟ لا ، ولكنهم فسَّروها بعقولهم ، ولم يلتفتوا إلى تفسيرها المنقول عن السلف الصالح ؛ فحُقَّ فيهم الآية السابقة : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين .
من ذلك - أيضًا - ، ولنقترب قليلًا أو شيئًا قليلًا إلى واقعنا ؛ أن كثيرًا من المسلمين ممن يُنسبون إلى السنة قديمًا وحديثًا قد أنكروا كثيرًا من الصفات التي جاءت في كتاب الله وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فألحقوا أنفسهم بالمعتزلة ، المعتزلة لم ينكروا تلك الآية ، ولكن أنكروا معناها الصحيح الذي كان عليه سلفنا الصالح ، كذلك هؤلاء الذين يُعرفون اليوم بـ " الأشاعرة " ، ومنهم بعض " الماتريدية " ، أنكروا كثيرًا من المعاني الصحيحة الواضحة في كتاب الله - عز وجل - بطريق تأويلها على خلاف ما كان عليه السلف ، ...
فالسَّلفي في قول الله - عز وجل - : الرحمن على العرش استوى قال السلف - بدون أي خلاف بينهم - : الرحمن على العرش استوى أي : استعلى ؛ علوًّا على جميع مخلوقاته ، يليق بعظمته - تبارك وتعالى - وجلاله ، فأوَّلوا قوله - تبارك وتعالى - استوى بمعنى استولى ، فوقعوا في مشكلة شرحناها في الأمس القريب ، ولسنا في ذاك الصدد الآن ، هذا مثال من الأمثلة التي ضلَّ فيها بعض أهل السنة بسبب أنهم لم يتمسَّكوا بما كان عليه السلف الصالح .
والأمثلة كثيرة جدًّا ، ولنأتِ إلى مثال أخير اليوم ؛ كلكم سمعَ ولا بد بالطائفة التي خرجت عن الإسلام كليَّةً ؛ ألا وهي القاديانية ، الذين ادَّعوا بأن هناك أنبياء يأتون من بعد نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - وزعموا فعلًا أنه جاء أحدهم ، وهو المعروف بـ " ميرزا غلام أحمد القادياني " ، وهؤلاء يقولون - أيضًا - ما يقول الآخرون - قديمًا وحديثًا - : " نحن مع الكتاب والسنة " ، فإذا قيل لهم : كيف أنتم مع الكتاب والسنة وفي الكتاب الكريم التصوير بقوله - تبارك وتعالى - في نبيِّنا - عليه السلام - : ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وأنتم تقولون ليس بخاتم النبيين ؟!! قالوا : ليس معنى خاتم النبيين آخرهم ، وإنما معنى خاتم النبيين أي : زينة النبيِّين ، وجاؤوا بفلسفة لا يعرفها أهل اللغة الذين نزل عليهم القرآن ، فقالوا : معنى خاتم النبيين أي : زينة النبيين ، قالوا : أنُّو هذا تشبيه ، كما أن الخاتم زينة الإصبع ؛ فكذلك الرسول - عليه السلام - هو خاتم الأنبياء ؛ أي : زينتهم ، فلعبوا بالآية ، وفسَّروها على غير تفسيرها الصحيح ، فضلُّوا ضلالًا بعيدًا ، وكفروا بالإسلام تكفيرًا كلِّيًّا ، ما هو السبب ؟ لم يقفوا مع سبيل المؤمنين ، فهذه هي النكتة من ذكر سبيل المؤمنين في الآية ، وذكر الصحابة في الحديث ، وذكر الخلفاء الراشدين في الحديث الآخر ، إذًا يجب أن نكون سلفيِّين عقيدةً ومنهجًا وسلوكًا ؛ لكي نكون في عصمة من الانحراف عن الشرع باسم الشرع باسم الكتاب والسنة ، فكل هؤلاء الأشخاص الذين ضربنا بهم الأمثلة قد انحرفوا عن الشريعة ، وهم يقولون : نؤمن بكتاب الله وبسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، لكنَّهم فسَّروا كتاب الله وفسَّروا حديث رسول الله بأهوائهم لا بما جاءنا عن السلف الصالح .
ذكرت لكم أخيرًا عن هذه الطائفة القاديانية كيف فسَّروا الآية ، التي هي تصرِّح بأنَّه لا نبيَّ بعده - عليه السلام - ، فقيل لهم ما موقفكم بالنسبة للأحاديث المتكاثرة بل المتواترة بأنه لا نبي بعده - عليه السلام - ، وبخاصة حديث عليٍّ حينما خلَّفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة حينما ذهب لتبوك - عليه الصلاة والسلام - ، فركض خلفه عليٌّ - رضي الله عنه - فقال له : - عليه الصلاة والسلام - مطمِّنًا له : يا علي ، أنت مني بمنزله هارون من موسى ؛ غير أنه لا نبيَّ بعدي ، قيل للقاديانية هذه الحجة ؛ فكيف كان موقفهم تجاهها ؟ قالوا : لا نبيَّ بعدي ؛ أي : معي ، أما بعد وفاته - عليه السلام - فيوجد أنبياء ، هكذا فسَّروا الحديث - أيضًا - ، وهذا المثال والذي قبله وما قبله من أمثلة كثيرة يدلُّكم على أن هناك مجالًا واسعًا لتلاعب أهل الأهواء بنصوص الكتاب والسنة ، وبتفسيرها تفسيرًا يؤيِّدون بهذه التفاسير أهواءهم وأقوالهم الباطلة ، فبماذا نقيم الحجَّة على هؤلاء ؟ وهؤلاء كثيرًا وكثيرًا خاصة بالأفراد الذين ليس لهم دعوات بين الناس ، كل واحد يأتي بتفسير ، ويزيِّن الشيطان له هذا التفسير ، ويعجب به ، حتى إن بعضهم يقول هذا شيء جديد ، ما حدا سبقه إليه فهو يفخر به ، بينما كان اللَّائق به أن ينفر من هذا الرأي الذي بدا له إلى تفسير ما فسَّره السلف الصالح من الآيات الكريمة التي يواجهها تفسيرًا جديدًا .
إذًا الحجة قائمة اليوم وقبل اليوم بكتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وبما كان عليه السلف الصالح - رضي الله عنهم - أجمعين ، وهذه النقطة لا خلاف فيها بين الأئمة الأربعة وأمثالهم ؛ أي : من وجوب اتباع السلف الصالح ، وليس فقط نقول قرآن وسنة ، وإنما قرآن وسنة وعلى منهج السلف الصالح ، لذلك كان كثير من الأئمة وبخاصة منهم الإمام أحمد يعتمد على أقوال السلف من الصحابة وغيرهم حينما لا يجد جوابًا فيما عرض له من مسألة ، في كتاب الله أو في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لذلك جاءت الأحاديث الكثيرة المعروفة في التوصية بمعرفتنا لحقِّ الصحابة - رضي الله عنهم - ، ومن أشهر هذه الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام - كما في " الصحيحين " : لا تسبُّوا أصحابي ؛ فوالذي نفس محمد بيده ؛ لو أنفق أحدكم مثل جبل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه .
ونسأل الله - تبارك وتعالى - في ختام هذه الكلمة أن يوفِّقنا لاتِّباع الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، والحمد لله ربِّ العالمين .
الفتاوى المشابهة
- تعليق الشيخ على ما جاء في الكلمة من تمسُّك الس... - الالباني
- كلمة من الشيخ في بيان العلم النافع والعمل الصا... - الالباني
- محاضرة كاملة عن اتباع الكتاب والسنة على فهم ال... - الالباني
- كيف الرد على من ينكر علينا الإنتساب إلى منهج ا... - الالباني
- العقيدة الصحيحة هي : قال الله قال رسوله على من... - الالباني
- ما المقصود بفهم السلف الصالح ؟ - الالباني
- فائدة : لماذا نفهم الكتاب والسنة على فهم السلف... - الالباني
- بيان منهج السلف في أسماء الله وصفاته . - الالباني
- أهمية إتباع منهج السلف الصالح . - الالباني
- تكلم على أن دعوتنا هي إتباع الكتاب والسنة على... - الالباني
- كيف نفهم الدِّين على منهج سلفنا الصالح ؟ - الالباني