هكذا جاءت أكثر الروايات للحديث ، وفي بعضها من طرق يشدُّ بعضها بعضًا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِل عن هذه الفرقة الناجية التي هي وحدَها تدخل الجنة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : "هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي" . ففي هذا الحديث عَلَم وعلامة ظاهرة للفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة ! هذه الثلاث وسبعين فرقة لا تتبرَّأ من الإسلام ، ولكن النبي - عليه الصلاة والسلام - حَكَمَ عليها أنها من أهل النار إلا واحدة ، وهي التي تتمسَّك بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما كان عليه الصحابة .
ويؤكد هذا المعنى - أي : إن العلامة على الفرقة الناجية أنها تتمسَّك بما كان عليه الرسول والصحابة - حديث العرباض بن سارية قال : وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موعظة وَجِلَت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، إنَّا لَنراك توصينا وصيَّة مودِّع ؛ فأوصِنا . قال : "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن وُلِّيَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا" . هذا نبأ من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نبَّأَه به العليم الخبير ، قال : "وإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا" ، هذا الاختلاف الكثير رأيناه حينما دَرَسْنا الفرق الإسلامية قديمًا ، ونراه اليوم حديثًا متمثَّلًا في عرض هذا العالم الإسلام المديد الطويل ، "وإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، عضُّوا عليه بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة" . زاد في حديث آخر : "وكل ضلالة في النار" .
الشاهد من هذا هو قوله - عليه السلام - : "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين" ، فكما أضاف هناك في حديث الفرق في وصف الفرقة الناجية أنها هي التي تتمسَّك بما أنا عليه وأصحابي أضاف هنا - أيضًا - إلى سنَّته سنة الخلفاء الراشدين ، والسِّرُّ في تأكيد الرسول - عليه السلام - بالتمسُّك بما كان عليه الصحابة بعد أمره - عليه السلام - بالتمسُّك بسنَّته - عليه الصلاة والسلام - ؛ السِّرُّ في هذا أمره عجيب ؛ ذلك أن هذه الفرق القديمة والحديثة منها مهما كانت عريقةً في الضلال والانحراف عن الإسلام فهي لا تتبرَّأ من الكتاب والسنة ، ولا تقول : نحن لا نأخذ من الكتاب والسنة إلا مَن غَلَا منهم ، وهؤلاء - والحمد لله - قلَّة مَن غلا منهم في التصوف ؛ حيث أن هؤلاء الغلاة من الصوفية وَصَلَ ضلالهم إلى الإعراض عن الكتاب والسنة والسلف وكل شيء اسمه إسلام إلى حجاجهم بأوهامهم وكشوفاتهم التي يعبِّر عنها قولُ بعضهم : " حدَّثَني قلبي عن ربِّي " ، فالعلم كلُّ العلم عند هؤلاء هو ما يُلقى في قلبه زَعَمَ من الإلهام ، وإنما هو بلا شك من وحي الشياطين ؛ هؤلاء ليس كلامنا معهم ؛ لأنهم قد نبذوا الإسلام وراءَهم ظهريًّا ، وإنما نعني الفرق التي لا تزال تصرِّح بأنها تتمسَّك بالكتاب والسنة أيضًا .