التعليق على كلمة وبيان أهمية التمسُّك بمنهج السلف في فهم الكتاب والسنة ، وأنه من خصائص الدعوة السلفية .
الشيخ محمد ناصر الالباني
الشيخ : ... الذين كان عرف من التمسُّك بالدعوة السلفية ، لكنه من جانب آخر له الانتساب إلى بعض الأحزاب الإسلامية ، رأيت أن أُسمِعَكم رأي هذا الإنسان في جانب من جوانب الدعوة السلفية ؛ لأن الأمر كما قيل وبضدِّها تتميَّز الأشياء ؛ لا سيما إذا اقترن مع ذلك التعليق والتوجيه الصحيح ، لا سيما وقد جاء في كلامه أمرٌ فيه نقد لأفراد من الدعاة السلفيين ، فالحق والحق أقول : إن هذا النقد في محله ؛ ولذلك فيجب أن نأخذ نحن جميعًا في هذا النقد عبرة ، فَمَن كان يشعر بأن فيه شيئًا من ذلك النقد فعليه أن يتدارك نفسه ، وأن يتأدَّب بأدب ذلك الناقد ؛ لأنه في الواقع ما قال إلا حقًّا ، وإن كان هو من جانب آخر قد أخطأ الصواب والسبيل الحق ؛ ولذلك فرأيت أن أجعل كلمتي اليوم ولو أنها قصيرة على ما يناسب هذا الصوت الخافت ؛ رأيت أن أجعل كلمتي في هذه الليلة تعليقًا على هذه الكلمة لنزدادَ يقينًا مما نحن عليه من الصواب ، ولنبتعد عمَّا قد يكون أحدنا واقعًا فيه من الخطأ .
يقول المشار إليه ولست أريد تسميته ؛ لأن هذا خطاب خاص ، لَربما يومًا ما يضطرُّ أو أضطرُّ أن يُشهَر ؛ فحينئذٍ ننشر الأمر علنًا ، يقول وقد تحدَّث بالمناسبة عن المذهبية اللامذهبية : " الذي أفهمه في هذا الجانب أن على طلبة العلم بل على المحقِّقين أن يكون مرجعهم في كل أمر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - دون أن يقطعوا صلتهم باجتهادات الأئمة في فهم الأدلة من الوحيين ، وبذلك يكونون كدارس العلوم الطبيعية والرياضية ينتفعون بمجهودات مَن سبقهم في ذلك الطريق بعد التيقُّن من صحة منجزاتهم ؛ ولو أنهم أغفلوا جهود سابقيهم فلم يُفيدوا منها وبدؤوا من جديد لَوقَفَت مسيرة الحضارة عند حدودها البدائية " .
هذا كلام صحيح وسليم ، وأنا قد قلت أكثر من مرَّة أن مَثَل مَن يريد ، وهذا موجود في بعض الغلاة وفي كل دعوة وفي كل طائفة وفي كل جماعة غلاة ؛ المتبصِّر في دينه والمعتمد على كتاب ربِّه وسنة نبيِّه أن يعتمد فقط على القرآن يضعه بين يديه ، وعلى كتب الحديث يبسطها يفردها يقرؤها دون أن يستعين على فهم الكتاب بكتب التفاسير لا القديمة ولا الحديثة ، ودون أن يستعين على فهم تلك الأحاديث ، بل وعلى معرفة صحيحها من سقيمها بجهود علماء الحديث المتضافرة منذ نحو عشرة قرون من الزمان ؛ إن أراد إنسان ما أن يسلك هذا السبيل أن يستقلَّ في فهم الكتاب والسنة فقط اعتمادًا على الكتاب والسنة دون الاستعانة بجهود الأئمة السابقين لَضَلَّ ضلالًا بعيدًا ، ولَجاءَ فعلًا بدين جديد .
ولا أريد أن أذهب بكم بعيدًا ؛ فأنا سأضرب لكم مثلًا قريبًا ، مثلًا نحسُّ به في بلدتنا هذه ؛ فهناك أناس كانوا ينتمون إلى فريق من الفرق الصوفية ، ثم انشقَّ أهل هذا الفريق إلى فرقتين ؛ فإحدى هاتين الفرقتين كان شيخها لا يعرف شيئًا من علوم الشريعة لا كتاب ولا سنة لا أصول فقه ولا أصول حديث ولا أصول لغة ولا شيء من ذلك ؛ فكان يُفسِّر القرآن تفسيرًا كيفيًّا لا ضابط له ، هذا التفسير هو على النمط المعروف من تفاسير الباطنية والقرامطة القديمة والحديثة ، وعلى نمط غلاة الصوفية الذين - أيضًا - يتأوَّلون الآيات القرآنية دون مراعاة القواعد اللغوية أو الشرعية ، فنحن كنَّا نسمع منذ سنين طويلة من بعض المشايخ الذين مَضَوْا وماتوا أنه كان يقول لأصحابه : أتدرون لما قال الله - عز وجل - لموسى : وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ؟ يقولون للشيخ : لا ندري ، ولما قال له : أَلْقِهَا ليست هي العصا ، وإنما هي الدنيا ، أَلْقِهَا يعني الدنيا ، هكذا يُفسِّر الآية تفسير كيفي ، وهكذا نجد في بطون الكتب سواءً ما أشرنا إليه من غلاة الباطنية وأمثالهم تأويلات لا ضابط لها ولا قواعد لها .
فاليوم توجد مثل هذه الكارثة هنا يُفسِّرون القرآن ، يأتون بأشياء جديدة مطلقًا لا صلة لها بالإسلام ، بعضها إنكار للحقائق الشرعية كالشفاعة الثابتة في الكتاب والسنة ، ويجعلون الشفاعة معناها تعاون اثنين مع بعضهم البعض هنا في الخير أو الشر ، أما أن يكون هناك شفاعة في الآخرة وهي ثابتة بنصوص الكتاب والسنة ؛ فهذا - أيضًا - ينكرونه .
فأقول : هذا مثال جديد ، أما الأمثلة القديمة فما أكثرها ، وتجمعها إما الصوفية الغالية أو القرامطة والباطنية التي تفرَّقت إلى أحزاب شتى ؛ لذلك لا بد من استعانة بجهود الأئمة السابقين كلٌّ في تخصُّصه ؛ في التفسير ، في الحديث ، في الفقه ، في النحو ، في إلى آخره ، فكنت أقول : مَثَل مَن يريد الاكتفاء فقط بالرجوع إلى الكتاب والسنة دون الاستفادة من جهود الأئمة كمَثَل إنسان اليوم يريد أن يخترع أكبر طائرة وأدق طائرة خرجت حتى اليوم بعد الجهود المتتابعة من مئات بل ألوف المتخصِّصين في مختلف العلوم ، يريد إنسان الآن بعقله أنُّو يوجد طائرة لا أقول مثل ، بل أكبر وأضخم وأدق وأدق ؛ تُرى ماذا سيكون مصير هذا الإنسان ؟ سيكون مصيره مصير الإنسان الأول العربي الأندلسي الذي فكَّرَ بابتكار الطائرة قبل وجودها ، كان مصيره مصيرًا طبيعيًّا ، وهو أنه وقع على أمِّ رأسه ، لكن هذا لا يُلام ؛ لأنه كان هو الرائد الأول الذي أراد شقَّ الطريق إلى إيجاد هذا الاختراع العظيم .
فمَثَل مَن يريد الآن أن يجتهد في الكتاب والسنة دون أن يستعين بالأئمة في كل ، كلٌّ في اختصاصه كما قلنا ؛ مَثَل الذي يريد أن يبتكر طائرة الآن ، بل يريد أن يبتكر آلة لصنع الإبرة ، ما قيمة الإبرة هاللي بيخيِّطوا فيها النساء ؟ هو لا يستطيع أن يوجدها إلا يمكن بعد جهود طويلة ، ويمكن يجي ابنه ويرث منه شيء من الآلة ، ولما تنتَهِ بعد ، وهي آله لإيجاد إبرة !! لذلك أليس فقط من الحماقة بل من الكفر بنِعَم الله - عز وجل - على الأمة الإسلامية الذي سخَّرَ لها أولئك الأئمة كلهم في اختصاصه ، فضلًا عن الحماقة بسبب عدم الاستعانة بجهود السابقين في هذا المجال الأعظم ؛ ألا وهو مجال فهم الكتاب والسنة . لذلك الذي قالَه هذا الكاتب هنا هذا الكلام حق ، ويجب أن يرسخ في أذهان كلِّ فرد من السلفيين ؛ سواء كانوا من الدعاة إلى الدعوة السلفية الحق أو من الأتباع أن معرفة الكتاب والسنة لا يمكن على الوجه الصحيح إلا بالرجوع إلى اختصاص في كلِّ فن وفي كل علم .
هذا التأجيل من أجل الأسطر التي سمعتموها من الأخ الكاتب ، قال في تمام كلامه السابق : " وفي يقين أنكم غير بعيد من هذا المسلك ، فأنتم في كلِّ ما تدعون إليه لا تُغفِلون مُعطيات المذاهب ، بل تناقشون أدلتها في ضوء الأصلين المعصومين - يعني الكتاب والسنة - ، وذلك هو طريق أولي الألباب الذين يفهمون المذاهب على أنها وسائل للوصول إلى الحقِّ لا كما يفهَمُها بعض المتحجِّرين على أنها الدين الذي هو الحق " ، هذا - أيضًا - كلام جميل وحق ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المذهبيِّين .
نحن نقول : المذاهب أئمة المذاهب علماء المذاهب هم وسائل وليسوا غايات ، هم وسائل ليبلِّغوا الشرع النابع من الكتاب والسنة إلى الذين لا يعلمون ، فإذا تبيَّن لهؤلاء الذين لا يعلمون ولو في مسألة واحدة أن عالمًا مِن هؤلاء الذين اعتبرناهم وسائل ووسائط لنقل حكم الكتاب والسنة إلينا ؛ إذا تبيَّن لنا أنه وَهِمَ في أمر ما فهنا إذا ما تمسَّك هذا المتمذهب برأي هذا العالم بعد أن ثبت خطؤه فقد قَلَبَ الوسيلة وجعلها غاية ؛ أي : جعل هذا العالم كأنه هو المقصود بالاتباع ، بينما الحقيقة هو وسيلة لِيدلَّنا على مَن هو المقصود بالاتباع ، وليس هو من البشر إلا رسول الله ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .
فإذا أصَرَّ بعض المسلمين الجامدين على التمذهب على هذا القلب للوسيلة وجَعَلَها غاية هذا هو الضلال المبين ، وهذا الجنس من المؤمنين في كل ملَّة في كل دين هو الذي أشار إليه ربُّ العالمين حينما قال في كتابه الكريم في حقِّ النصارى لفظًا وفي حقِّ كلِّ مَن تشبَّهَ بهم معْنًى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ فلا فرق من هذه الحيثية من حيث قلب الحقيقة وجعل الوسيلة غاية بين نصراني سابقًا كان يجعل كلمة القسيس كأنها وحي سماء ، وهو يعلم ، أقول وهو يعلم ؛ أي : هذا النصراني الذي يجعل كلمة القسيس كأنها وحي السماء هو يعلم أن كلمته مخالفة للكتاب المقدَّس عنده ، مع ذلك يظلُّ متمسِّكًا بكلام قسِّيسه مُعرضًا به كلام ربه ، كذلك المسلم لا يغنيه قوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله وهو يظلُّ يتمسَّك بكلمة مُقَلَّدِه - يعني عالمه - الذي نقل إليه فتوى خاطئة تَبيَّن لهذا المُقلِّد أنها خطأ فيصرُّ على تقليد ذلك العالم ، ويعرض عن اتباع الكتاب والسنة وهو يعلم ، فأكرِّر وهو يعلم ؛ حتى لا يجد المغرضون في كلامنا مأخذًا يتعلَّقون به ليقولوا وقد قالوا بأنهم يكفِّرون المقلِّدين .
ونحن نقول آسفين اليوم نقولها في محاضراتنا العامة ومجالسنا الخاصَّة : لا سبيل اليوم - مع الأسف الشديد - إلى العلم الصحيح إلا من طريق التقليد ، وبعد ذلك ربنا - عز وجل - يفتح على بصيرة مَن يعلم منه الجهاد والاجتهاد في سبيل معرفة الحق وأتباعه ، كما قال - تعالى - : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ، أما مبدأ الطريق اليوم ما في غير طريق التقليد ، كلِّيَّات الشريعة اليوم التي يُفترض فيها أن تكون قد سَمَت وعَلَت وارتفعَت عن هذا الحضيض الذي هو طريق التقليد إلى مرتبة الاتباع على الأقل ولا نقول إلى مرتبة الاجتهاد ؛ هذه الكلِّيَّات لا تزال تدرس الفقه الإسلامي على طريقة التقليد ... .
ودرجة وسطى بين هذا التقليد وبين الاتباع ما يسمُّونه اليوم بالفقه المقارن ؛ وذلك بأن يَعرض أستاذ المادة أدلة الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة عرضًا تجرُّديًّا مطلقًا ؛ يعني كأنه هو رجل لا صلة له بالِإسلام إطلاقًا كرجل علماني ليس عنده تحيُّز إلى قول من هذه الأقوال أو إلى مذهب من هذه المذاهب ؛ فهو ينقل بكلِّ أمانة ؛ بيقول : مذهب كذا يقول دليله كذا وكذا ، ومذهب كذا ، وأخيرًا ينتهي دون أن يقول قولة الحقِّ والصواب كذا وكذا ؛ لأن الدليل الأول في نفس القول الأول الرد عليه كذا وكذا إلى آخره ، فيعرض عرضًا ويدع طلاب كلية الشريعة والذين سيتخرَّجون عمَّا قريب ويصبحون دكاترة في ماذا ؟ في علم الشريعة ، لا يفقهون إلا النقل فقط ، هذا هو حال دكاترة آخر الزمان .
لذلك فكان المأمول في هذه الكلِّيَّات أن تعلو وأن ترتفع عن هذا المستوى ، لكن لعله كما يقال : " أول الغيث قطر ثم ينهمر " ، كانوا من قبل يدرسون كتابًا واحدًا في فقه واحد ، مذهب حنفي وانتهى الأمر ، الآن أصبحوا يدرسون أكثر من مذهب واحد ، وهذه الدراسة بلا شك تفتِّح الأذهان وتوسِّع الآفاق العلمية في عقول الدارسين ، نحن نعرف في بلادنا الألبانية لا يعرفون أن الإسلام إلا هو المذهب الحنفي فقط ، فلما يأتي أحدهم هنا ... تاري في مسلمين شوافعة ، في مسلمين مالكية ؛ فهو يعلم حينئذٍ شيئًا كان به جاهلًا من قبل ، وبالتالي سيعلم إذًا من أدلتهم تاري كمان بيقولوا : قال الله قال رسول الله إلى آخره !! فلعله هذه الدراسة التي يسمُّونها دراسة فقه المقارن لها ما بعده ؛ لأنُّو سنة الله في خلقه لا يمكن الوصول إلى الهدف إلا بطريقة رتيبة خطوة خطوة ، هذه سنة الله .
أقول أخيرًا : يُشير الكاتب هنا بحقٍّ إلى أن قلب الوسيلة إلى غاية ، وجعل المذهب هو مقصودًا بذاته ؛ هذا قلب للحقيقة الشرعية ، فهو يصرِّح بالحق أن طلاب العلم وبخاصَّة المحقِّقين منهم لهم طريقهم في الرجوع إلى الكتاب والسنة ، فكلامه إلى هنا لا غُبار عليه بتاتًا ، بل هو ينقل فكرتنا التي دائمًا نحاضر بها في كل مكان حَلَلْناه ، إلا أن الذي يحتاج إلى شيء من التعليق مع الاعتراف بشيء من الحقِّ في كلامه الآتي هو ما افتَتَحَه بالاستدراك بقوله : " ولكن هل استطعتم أن تركِّزوا هذا المفهوم الصحيح في نفوس المنتسبين إلى طريقتكم ؟ " ؛ سواء استطعنا أو ما استطعنا فأنا أريد أن أذكِّر الآن ، وسأكتب بطبيعة الحال إلى هذا الأخ الكاتب أن السؤال خطأ ؛ لماذا ؟ لأنه ما دام هو يؤكد أنه طريقتنا حق وصواب ، وأنه يُصرِّح بأننا دائمًا حين ندعو إلى الكتاب والسنة لا نُضيِّع علينا جهود الأئمة ، بل نحن نستفيد بها ونعرض أدلتهم ونناقشها ، في الوقت نفسه بيقول : " هل استطعت ؟ " .
أنا سأقول بكل صراحة : ما استطعتُ أن أصنع شيئًا ، هَبْ أن الأمر كذلك ، ما استطعت أن أصنع شيئًا ، ولا يوجد حولي إطلاقًا شخص استطعتُ واستطاع هو معي أن تتركَّز هذه الطريقة الصحيحة في نفسه وفي منطلقه في دعوته ، هَبْ أن الأمر كذلك ؛ فماذا يعني ذلك ؟ إذا كانت الطريقة هي نفسها حق باعترافه ، ثم عجزتُ أنا عن تركيزها في أذهان الذين أدعوهم دائمًا وأبدًا إليه ، أنا أقول : إما أن يعي ما عندي ، وكما بودِّي هذا بطبيعة الحال ، وإما أن أكون لا أستطيع أن أتفاهم مع الناس كما يقول بعض الخصوم زورًا وبغيًا وعدوانًا أني لا أحسن أن أتكلم باللغة العربية ، طيب ، أنتم الآن تسمعوني أتكلَّم باللغة الألبانية ، فيمكن - أيضًا - يكون الأمر كذلك أنُّو أنا لا أستطيع أن أتكلم مع إخواننا العرب بلغتهم عربية ، لا بد أن يكون هناك شيء ، وقد يكون في عجز ، قد يكون في ضعف ؛ هذا لا نستطيع أن ننكره أبدًا ، ولكن يا تُرى أليس يُقابِل عجزي هذا هو ضعف في الطرف المقابل الإعراض أو صد أو كيد أو أو زاد إلى آخره ؟
طبعًا هذا لا أحد يستطيع أن ينكره ، ونحن هنا نذكِّر هذا الكاتب وأمثاله كُثُر ، وأنا في الواقع رأيتُ أنُّو هذا الإنسان لأول مرة يُفصِح عمَّا نقوله نحن دائمًا وأبدًا أن الدعاة الإسلاميين الآخرين وجدوا أن الدعوة السلفية هي دعوة حق ؛ ولذلك فَهُم آمنوا في أنفسهم بها حقَّ الإيمان ، ثم يطبِّقون منها في حدود معيَّنة بمقدار ما يُساعدهم منهجهم الحزبي ونظامهم في الدعوة ، فتتجلَّى لنا الحقيقة الآتية نقولها نحن دائمًا وأبدًا ، وإذا به هو يكتبها الآن ، يقول : " هؤلاء يتبنَّون الدعوة لأنفسهم لا ليدعوا المسلمين إليها " ؛ لماذا ؟ لأنها في الواقع هذه الدعوة هي تفرِّق بين الحق والباطل ، هذه حقيقة يجب أن يعرفها كل مسلم صادق في انتمائه للكتاب والسنة ، لكن هذه الحقيقة تحتها أو ضمنها حقيقة أخرى لا يتنبَّه لها الكثيرون ، حينما نقول أنُّو الدعوة السلفية تُفرِّق بين الحق والباطل يجب أن نستحضر في أذهاننا الربط بين الحقِّ وصاحبه وبين الباطل وصاحبه ؛ مفهوم هذا الكلام ؟
يجب أن نربط بين الحق وصاحبه وبين الباطل وصاحبه ؛ يعني الحقيقة أنُّو مثل ما بيقولوا العامة الحق أحيانًا يكون مغطَّى بقشَّة ، والمسألة هذه من هذا القبيل ؛ حينما نقول أنُّو الدعوة نحن نقول : الدعوة السلفية ، وغيرنا يقول : الدعوة الإسلامية ، ونحن لنا رأي في هذا القيد ، قد لا يفهمه كثيرون ، ولست الآن في صدده ؛ لأنُّو الدعوة الإسلامية تشمل كل المذاهب وكل الفرق وكل الطوائف ، أما الدعوة السلفية فتشمل طائفة واحدة هي التي قال فيها الرسول - عليه السلام - : ما أنا عليه وأصحابي ، كل أصحاب الدعوات مهما كانت الأسماء معنا تمامًا بأن الدعوة دعوة الإسلام دعوة السلفية هاللي هي أصل الإسلام تُفرِّق بين الحق والباطل ، هَيْ ما تقبل مناقشة ، لا توجد كلمة تفرِّق بين المحقِّ وبين المبطل كأننا نقول كلامًا جديدًا .
هنا الشاهد من كلمتي السابقة ؛ يعني إذا كان هناك أخوان شقيقان أحدهما محق والآخر مبطل ، الأول متمسِّك بالدعوة الحق ، والآخر متمسِّك بالدعوة الباطل ، لا بد أن يتفرَّقا ، والتاريخ الإسلامي أكبر شاهد على ذلك ، لأن الإسلام حينما جاء فرَّق بين الأب والابن ؛ لماذا ؟ لأن الابن آمن والوالد كفر ، أو العكس ؛ وقع هذا ووقع هذا .
لذلك كان مما جاء في السنة الصحيحة أن مِن أوصاف الرسول - عليه السلام - المُفرِّق ؛ يعني يُفرِّق بين الحق والباطل ، وبين المحقِّين والمبطلين ، الدعوة السلفية هذه من خصائصها ، فحينما يتبنَّاها شخص له منهج يفرض عليه أن يكون كلامه لا يدعو إلى فرقة ، لا يدعو إلى حق يعني ؛ يعني حينما يكون كلامه يُرضي الجميع ؛ فمعنى ذلك أنه لم يقل الحق ، وهذه الطريقة هي طريقة كل لا أستثني أحدًا ، واجبنا أن نصارح إخواننا المسلمين جميعًا نصارحهم بما نعتقد ، ثم إن ظَهَرَ لهم أنه الحق فعليهم اتباعه ، وإن ظهر لهم أنه الخطأ فعليهم تِبْيانُه ، فنحن نكون معهم في اجتنابه .
نحن نقول : كل دعوة إسلامية تقوم على التكتُّل المحض ، على التكاثر بالعدد ، وعلى اكتساب الأصوات الكثيرة في المجالس الانتخابية ؛ هذه ليست طريقة إسلامية ؛ لماذا ؟ لأشياء كثيرة أوضَحُها ما نحن فيه الآن ، أن هؤلاء الذين يريدون أن يكسبوا الأصوات الكثيرة لا بد من أن يُوفوا بدعوتهم الجماهير الغفيرة ، لا بد من ذلك ، وإلا خسروا المعركة ، إذا كانت المعركة ستقوم على كثرة الأصوات إذًا هم سيخسرونها ؛ فهم بين أحد أمرين ؛ إما أن يظلُّوا على هذا الطريق الذي نراه مباينًا للحق ؛ لأن الحق يكون بيِّنَ الحق ، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخره .
فإما أن يسلك هذا السبيل حينئذٍ هو لا يبالي هل استطاع أن يؤسِّس ؟ هل استطاع أن يكتِّل ؟ هل استطاع أن يُفهِّم الفكرة لجماعة كثيرين أو قليلين أو لم يستطع لا قليلًا ولا كثيرًا ؟ لا يهمه ؛ لأنه مُكلَّف أن يُبلِّغ دعوة الحق ، ثم هالناس الذين يدعوهم قد يكون فيهم خير ومحبِّين للحق وطالبون له سيستجيبون لدعوة الحق ، وإما أن لا يكون فيهم خير - لا سمح الله - فحينئذٍ اللوم ليس على الدَّاعي إلى الحق ، فضلًا أن يكون اللوم على دعوة الحق ، وإنما على الذين دُعُوا فلم يستجيبوا .
نحن نعلم من القرآن الكريم أن نوحًا - عليه الصلاة والسلام - لَبِثَ في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا ، ماذا فعل في الألف سنة ؟ أمر عجيب جدًّا ، يدعو إلى الله ، وإلى ماذا ؟ يدعو إلى أمر يجب أن يكون الناس كلهم جميعًا على كلمة واحدة ؛ ألا وهي : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ بعد إيه ؟ ألف سنة إلا خمسين عامًا ، وهو رُسُل ، أول رسول بُعِثَ إلى أهل الأرض ؛ معناه أنه كما يقول العلماء : من أولي العزم من الرسل ؛ يعني يُوحى إليه من السماء ، يعني هو مُسدَّد ومُصوَّب في خطاه ؛ سواء كانت ... .
يقول المشار إليه ولست أريد تسميته ؛ لأن هذا خطاب خاص ، لَربما يومًا ما يضطرُّ أو أضطرُّ أن يُشهَر ؛ فحينئذٍ ننشر الأمر علنًا ، يقول وقد تحدَّث بالمناسبة عن المذهبية اللامذهبية : " الذي أفهمه في هذا الجانب أن على طلبة العلم بل على المحقِّقين أن يكون مرجعهم في كل أمر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - دون أن يقطعوا صلتهم باجتهادات الأئمة في فهم الأدلة من الوحيين ، وبذلك يكونون كدارس العلوم الطبيعية والرياضية ينتفعون بمجهودات مَن سبقهم في ذلك الطريق بعد التيقُّن من صحة منجزاتهم ؛ ولو أنهم أغفلوا جهود سابقيهم فلم يُفيدوا منها وبدؤوا من جديد لَوقَفَت مسيرة الحضارة عند حدودها البدائية " .
هذا كلام صحيح وسليم ، وأنا قد قلت أكثر من مرَّة أن مَثَل مَن يريد ، وهذا موجود في بعض الغلاة وفي كل دعوة وفي كل طائفة وفي كل جماعة غلاة ؛ المتبصِّر في دينه والمعتمد على كتاب ربِّه وسنة نبيِّه أن يعتمد فقط على القرآن يضعه بين يديه ، وعلى كتب الحديث يبسطها يفردها يقرؤها دون أن يستعين على فهم الكتاب بكتب التفاسير لا القديمة ولا الحديثة ، ودون أن يستعين على فهم تلك الأحاديث ، بل وعلى معرفة صحيحها من سقيمها بجهود علماء الحديث المتضافرة منذ نحو عشرة قرون من الزمان ؛ إن أراد إنسان ما أن يسلك هذا السبيل أن يستقلَّ في فهم الكتاب والسنة فقط اعتمادًا على الكتاب والسنة دون الاستعانة بجهود الأئمة السابقين لَضَلَّ ضلالًا بعيدًا ، ولَجاءَ فعلًا بدين جديد .
ولا أريد أن أذهب بكم بعيدًا ؛ فأنا سأضرب لكم مثلًا قريبًا ، مثلًا نحسُّ به في بلدتنا هذه ؛ فهناك أناس كانوا ينتمون إلى فريق من الفرق الصوفية ، ثم انشقَّ أهل هذا الفريق إلى فرقتين ؛ فإحدى هاتين الفرقتين كان شيخها لا يعرف شيئًا من علوم الشريعة لا كتاب ولا سنة لا أصول فقه ولا أصول حديث ولا أصول لغة ولا شيء من ذلك ؛ فكان يُفسِّر القرآن تفسيرًا كيفيًّا لا ضابط له ، هذا التفسير هو على النمط المعروف من تفاسير الباطنية والقرامطة القديمة والحديثة ، وعلى نمط غلاة الصوفية الذين - أيضًا - يتأوَّلون الآيات القرآنية دون مراعاة القواعد اللغوية أو الشرعية ، فنحن كنَّا نسمع منذ سنين طويلة من بعض المشايخ الذين مَضَوْا وماتوا أنه كان يقول لأصحابه : أتدرون لما قال الله - عز وجل - لموسى : وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ؟ يقولون للشيخ : لا ندري ، ولما قال له : أَلْقِهَا ليست هي العصا ، وإنما هي الدنيا ، أَلْقِهَا يعني الدنيا ، هكذا يُفسِّر الآية تفسير كيفي ، وهكذا نجد في بطون الكتب سواءً ما أشرنا إليه من غلاة الباطنية وأمثالهم تأويلات لا ضابط لها ولا قواعد لها .
فاليوم توجد مثل هذه الكارثة هنا يُفسِّرون القرآن ، يأتون بأشياء جديدة مطلقًا لا صلة لها بالإسلام ، بعضها إنكار للحقائق الشرعية كالشفاعة الثابتة في الكتاب والسنة ، ويجعلون الشفاعة معناها تعاون اثنين مع بعضهم البعض هنا في الخير أو الشر ، أما أن يكون هناك شفاعة في الآخرة وهي ثابتة بنصوص الكتاب والسنة ؛ فهذا - أيضًا - ينكرونه .
فأقول : هذا مثال جديد ، أما الأمثلة القديمة فما أكثرها ، وتجمعها إما الصوفية الغالية أو القرامطة والباطنية التي تفرَّقت إلى أحزاب شتى ؛ لذلك لا بد من استعانة بجهود الأئمة السابقين كلٌّ في تخصُّصه ؛ في التفسير ، في الحديث ، في الفقه ، في النحو ، في إلى آخره ، فكنت أقول : مَثَل مَن يريد الاكتفاء فقط بالرجوع إلى الكتاب والسنة دون الاستفادة من جهود الأئمة كمَثَل إنسان اليوم يريد أن يخترع أكبر طائرة وأدق طائرة خرجت حتى اليوم بعد الجهود المتتابعة من مئات بل ألوف المتخصِّصين في مختلف العلوم ، يريد إنسان الآن بعقله أنُّو يوجد طائرة لا أقول مثل ، بل أكبر وأضخم وأدق وأدق ؛ تُرى ماذا سيكون مصير هذا الإنسان ؟ سيكون مصيره مصير الإنسان الأول العربي الأندلسي الذي فكَّرَ بابتكار الطائرة قبل وجودها ، كان مصيره مصيرًا طبيعيًّا ، وهو أنه وقع على أمِّ رأسه ، لكن هذا لا يُلام ؛ لأنه كان هو الرائد الأول الذي أراد شقَّ الطريق إلى إيجاد هذا الاختراع العظيم .
فمَثَل مَن يريد الآن أن يجتهد في الكتاب والسنة دون أن يستعين بالأئمة في كل ، كلٌّ في اختصاصه كما قلنا ؛ مَثَل الذي يريد أن يبتكر طائرة الآن ، بل يريد أن يبتكر آلة لصنع الإبرة ، ما قيمة الإبرة هاللي بيخيِّطوا فيها النساء ؟ هو لا يستطيع أن يوجدها إلا يمكن بعد جهود طويلة ، ويمكن يجي ابنه ويرث منه شيء من الآلة ، ولما تنتَهِ بعد ، وهي آله لإيجاد إبرة !! لذلك أليس فقط من الحماقة بل من الكفر بنِعَم الله - عز وجل - على الأمة الإسلامية الذي سخَّرَ لها أولئك الأئمة كلهم في اختصاصه ، فضلًا عن الحماقة بسبب عدم الاستعانة بجهود السابقين في هذا المجال الأعظم ؛ ألا وهو مجال فهم الكتاب والسنة . لذلك الذي قالَه هذا الكاتب هنا هذا الكلام حق ، ويجب أن يرسخ في أذهان كلِّ فرد من السلفيين ؛ سواء كانوا من الدعاة إلى الدعوة السلفية الحق أو من الأتباع أن معرفة الكتاب والسنة لا يمكن على الوجه الصحيح إلا بالرجوع إلى اختصاص في كلِّ فن وفي كل علم .
هذا التأجيل من أجل الأسطر التي سمعتموها من الأخ الكاتب ، قال في تمام كلامه السابق : " وفي يقين أنكم غير بعيد من هذا المسلك ، فأنتم في كلِّ ما تدعون إليه لا تُغفِلون مُعطيات المذاهب ، بل تناقشون أدلتها في ضوء الأصلين المعصومين - يعني الكتاب والسنة - ، وذلك هو طريق أولي الألباب الذين يفهمون المذاهب على أنها وسائل للوصول إلى الحقِّ لا كما يفهَمُها بعض المتحجِّرين على أنها الدين الذي هو الحق " ، هذا - أيضًا - كلام جميل وحق ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المذهبيِّين .
نحن نقول : المذاهب أئمة المذاهب علماء المذاهب هم وسائل وليسوا غايات ، هم وسائل ليبلِّغوا الشرع النابع من الكتاب والسنة إلى الذين لا يعلمون ، فإذا تبيَّن لهؤلاء الذين لا يعلمون ولو في مسألة واحدة أن عالمًا مِن هؤلاء الذين اعتبرناهم وسائل ووسائط لنقل حكم الكتاب والسنة إلينا ؛ إذا تبيَّن لنا أنه وَهِمَ في أمر ما فهنا إذا ما تمسَّك هذا المتمذهب برأي هذا العالم بعد أن ثبت خطؤه فقد قَلَبَ الوسيلة وجعلها غاية ؛ أي : جعل هذا العالم كأنه هو المقصود بالاتباع ، بينما الحقيقة هو وسيلة لِيدلَّنا على مَن هو المقصود بالاتباع ، وليس هو من البشر إلا رسول الله ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .
فإذا أصَرَّ بعض المسلمين الجامدين على التمذهب على هذا القلب للوسيلة وجَعَلَها غاية هذا هو الضلال المبين ، وهذا الجنس من المؤمنين في كل ملَّة في كل دين هو الذي أشار إليه ربُّ العالمين حينما قال في كتابه الكريم في حقِّ النصارى لفظًا وفي حقِّ كلِّ مَن تشبَّهَ بهم معْنًى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ فلا فرق من هذه الحيثية من حيث قلب الحقيقة وجعل الوسيلة غاية بين نصراني سابقًا كان يجعل كلمة القسيس كأنها وحي سماء ، وهو يعلم ، أقول وهو يعلم ؛ أي : هذا النصراني الذي يجعل كلمة القسيس كأنها وحي السماء هو يعلم أن كلمته مخالفة للكتاب المقدَّس عنده ، مع ذلك يظلُّ متمسِّكًا بكلام قسِّيسه مُعرضًا به كلام ربه ، كذلك المسلم لا يغنيه قوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله وهو يظلُّ يتمسَّك بكلمة مُقَلَّدِه - يعني عالمه - الذي نقل إليه فتوى خاطئة تَبيَّن لهذا المُقلِّد أنها خطأ فيصرُّ على تقليد ذلك العالم ، ويعرض عن اتباع الكتاب والسنة وهو يعلم ، فأكرِّر وهو يعلم ؛ حتى لا يجد المغرضون في كلامنا مأخذًا يتعلَّقون به ليقولوا وقد قالوا بأنهم يكفِّرون المقلِّدين .
ونحن نقول آسفين اليوم نقولها في محاضراتنا العامة ومجالسنا الخاصَّة : لا سبيل اليوم - مع الأسف الشديد - إلى العلم الصحيح إلا من طريق التقليد ، وبعد ذلك ربنا - عز وجل - يفتح على بصيرة مَن يعلم منه الجهاد والاجتهاد في سبيل معرفة الحق وأتباعه ، كما قال - تعالى - : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ، أما مبدأ الطريق اليوم ما في غير طريق التقليد ، كلِّيَّات الشريعة اليوم التي يُفترض فيها أن تكون قد سَمَت وعَلَت وارتفعَت عن هذا الحضيض الذي هو طريق التقليد إلى مرتبة الاتباع على الأقل ولا نقول إلى مرتبة الاجتهاد ؛ هذه الكلِّيَّات لا تزال تدرس الفقه الإسلامي على طريقة التقليد ... .
ودرجة وسطى بين هذا التقليد وبين الاتباع ما يسمُّونه اليوم بالفقه المقارن ؛ وذلك بأن يَعرض أستاذ المادة أدلة الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة عرضًا تجرُّديًّا مطلقًا ؛ يعني كأنه هو رجل لا صلة له بالِإسلام إطلاقًا كرجل علماني ليس عنده تحيُّز إلى قول من هذه الأقوال أو إلى مذهب من هذه المذاهب ؛ فهو ينقل بكلِّ أمانة ؛ بيقول : مذهب كذا يقول دليله كذا وكذا ، ومذهب كذا ، وأخيرًا ينتهي دون أن يقول قولة الحقِّ والصواب كذا وكذا ؛ لأن الدليل الأول في نفس القول الأول الرد عليه كذا وكذا إلى آخره ، فيعرض عرضًا ويدع طلاب كلية الشريعة والذين سيتخرَّجون عمَّا قريب ويصبحون دكاترة في ماذا ؟ في علم الشريعة ، لا يفقهون إلا النقل فقط ، هذا هو حال دكاترة آخر الزمان .
لذلك فكان المأمول في هذه الكلِّيَّات أن تعلو وأن ترتفع عن هذا المستوى ، لكن لعله كما يقال : " أول الغيث قطر ثم ينهمر " ، كانوا من قبل يدرسون كتابًا واحدًا في فقه واحد ، مذهب حنفي وانتهى الأمر ، الآن أصبحوا يدرسون أكثر من مذهب واحد ، وهذه الدراسة بلا شك تفتِّح الأذهان وتوسِّع الآفاق العلمية في عقول الدارسين ، نحن نعرف في بلادنا الألبانية لا يعرفون أن الإسلام إلا هو المذهب الحنفي فقط ، فلما يأتي أحدهم هنا ... تاري في مسلمين شوافعة ، في مسلمين مالكية ؛ فهو يعلم حينئذٍ شيئًا كان به جاهلًا من قبل ، وبالتالي سيعلم إذًا من أدلتهم تاري كمان بيقولوا : قال الله قال رسول الله إلى آخره !! فلعله هذه الدراسة التي يسمُّونها دراسة فقه المقارن لها ما بعده ؛ لأنُّو سنة الله في خلقه لا يمكن الوصول إلى الهدف إلا بطريقة رتيبة خطوة خطوة ، هذه سنة الله .
أقول أخيرًا : يُشير الكاتب هنا بحقٍّ إلى أن قلب الوسيلة إلى غاية ، وجعل المذهب هو مقصودًا بذاته ؛ هذا قلب للحقيقة الشرعية ، فهو يصرِّح بالحق أن طلاب العلم وبخاصَّة المحقِّقين منهم لهم طريقهم في الرجوع إلى الكتاب والسنة ، فكلامه إلى هنا لا غُبار عليه بتاتًا ، بل هو ينقل فكرتنا التي دائمًا نحاضر بها في كل مكان حَلَلْناه ، إلا أن الذي يحتاج إلى شيء من التعليق مع الاعتراف بشيء من الحقِّ في كلامه الآتي هو ما افتَتَحَه بالاستدراك بقوله : " ولكن هل استطعتم أن تركِّزوا هذا المفهوم الصحيح في نفوس المنتسبين إلى طريقتكم ؟ " ؛ سواء استطعنا أو ما استطعنا فأنا أريد أن أذكِّر الآن ، وسأكتب بطبيعة الحال إلى هذا الأخ الكاتب أن السؤال خطأ ؛ لماذا ؟ لأنه ما دام هو يؤكد أنه طريقتنا حق وصواب ، وأنه يُصرِّح بأننا دائمًا حين ندعو إلى الكتاب والسنة لا نُضيِّع علينا جهود الأئمة ، بل نحن نستفيد بها ونعرض أدلتهم ونناقشها ، في الوقت نفسه بيقول : " هل استطعت ؟ " .
أنا سأقول بكل صراحة : ما استطعتُ أن أصنع شيئًا ، هَبْ أن الأمر كذلك ، ما استطعت أن أصنع شيئًا ، ولا يوجد حولي إطلاقًا شخص استطعتُ واستطاع هو معي أن تتركَّز هذه الطريقة الصحيحة في نفسه وفي منطلقه في دعوته ، هَبْ أن الأمر كذلك ؛ فماذا يعني ذلك ؟ إذا كانت الطريقة هي نفسها حق باعترافه ، ثم عجزتُ أنا عن تركيزها في أذهان الذين أدعوهم دائمًا وأبدًا إليه ، أنا أقول : إما أن يعي ما عندي ، وكما بودِّي هذا بطبيعة الحال ، وإما أن أكون لا أستطيع أن أتفاهم مع الناس كما يقول بعض الخصوم زورًا وبغيًا وعدوانًا أني لا أحسن أن أتكلم باللغة العربية ، طيب ، أنتم الآن تسمعوني أتكلَّم باللغة الألبانية ، فيمكن - أيضًا - يكون الأمر كذلك أنُّو أنا لا أستطيع أن أتكلم مع إخواننا العرب بلغتهم عربية ، لا بد أن يكون هناك شيء ، وقد يكون في عجز ، قد يكون في ضعف ؛ هذا لا نستطيع أن ننكره أبدًا ، ولكن يا تُرى أليس يُقابِل عجزي هذا هو ضعف في الطرف المقابل الإعراض أو صد أو كيد أو أو زاد إلى آخره ؟
طبعًا هذا لا أحد يستطيع أن ينكره ، ونحن هنا نذكِّر هذا الكاتب وأمثاله كُثُر ، وأنا في الواقع رأيتُ أنُّو هذا الإنسان لأول مرة يُفصِح عمَّا نقوله نحن دائمًا وأبدًا أن الدعاة الإسلاميين الآخرين وجدوا أن الدعوة السلفية هي دعوة حق ؛ ولذلك فَهُم آمنوا في أنفسهم بها حقَّ الإيمان ، ثم يطبِّقون منها في حدود معيَّنة بمقدار ما يُساعدهم منهجهم الحزبي ونظامهم في الدعوة ، فتتجلَّى لنا الحقيقة الآتية نقولها نحن دائمًا وأبدًا ، وإذا به هو يكتبها الآن ، يقول : " هؤلاء يتبنَّون الدعوة لأنفسهم لا ليدعوا المسلمين إليها " ؛ لماذا ؟ لأنها في الواقع هذه الدعوة هي تفرِّق بين الحق والباطل ، هذه حقيقة يجب أن يعرفها كل مسلم صادق في انتمائه للكتاب والسنة ، لكن هذه الحقيقة تحتها أو ضمنها حقيقة أخرى لا يتنبَّه لها الكثيرون ، حينما نقول أنُّو الدعوة السلفية تُفرِّق بين الحق والباطل يجب أن نستحضر في أذهاننا الربط بين الحقِّ وصاحبه وبين الباطل وصاحبه ؛ مفهوم هذا الكلام ؟
يجب أن نربط بين الحق وصاحبه وبين الباطل وصاحبه ؛ يعني الحقيقة أنُّو مثل ما بيقولوا العامة الحق أحيانًا يكون مغطَّى بقشَّة ، والمسألة هذه من هذا القبيل ؛ حينما نقول أنُّو الدعوة نحن نقول : الدعوة السلفية ، وغيرنا يقول : الدعوة الإسلامية ، ونحن لنا رأي في هذا القيد ، قد لا يفهمه كثيرون ، ولست الآن في صدده ؛ لأنُّو الدعوة الإسلامية تشمل كل المذاهب وكل الفرق وكل الطوائف ، أما الدعوة السلفية فتشمل طائفة واحدة هي التي قال فيها الرسول - عليه السلام - : ما أنا عليه وأصحابي ، كل أصحاب الدعوات مهما كانت الأسماء معنا تمامًا بأن الدعوة دعوة الإسلام دعوة السلفية هاللي هي أصل الإسلام تُفرِّق بين الحق والباطل ، هَيْ ما تقبل مناقشة ، لا توجد كلمة تفرِّق بين المحقِّ وبين المبطل كأننا نقول كلامًا جديدًا .
هنا الشاهد من كلمتي السابقة ؛ يعني إذا كان هناك أخوان شقيقان أحدهما محق والآخر مبطل ، الأول متمسِّك بالدعوة الحق ، والآخر متمسِّك بالدعوة الباطل ، لا بد أن يتفرَّقا ، والتاريخ الإسلامي أكبر شاهد على ذلك ، لأن الإسلام حينما جاء فرَّق بين الأب والابن ؛ لماذا ؟ لأن الابن آمن والوالد كفر ، أو العكس ؛ وقع هذا ووقع هذا .
لذلك كان مما جاء في السنة الصحيحة أن مِن أوصاف الرسول - عليه السلام - المُفرِّق ؛ يعني يُفرِّق بين الحق والباطل ، وبين المحقِّين والمبطلين ، الدعوة السلفية هذه من خصائصها ، فحينما يتبنَّاها شخص له منهج يفرض عليه أن يكون كلامه لا يدعو إلى فرقة ، لا يدعو إلى حق يعني ؛ يعني حينما يكون كلامه يُرضي الجميع ؛ فمعنى ذلك أنه لم يقل الحق ، وهذه الطريقة هي طريقة كل لا أستثني أحدًا ، واجبنا أن نصارح إخواننا المسلمين جميعًا نصارحهم بما نعتقد ، ثم إن ظَهَرَ لهم أنه الحق فعليهم اتباعه ، وإن ظهر لهم أنه الخطأ فعليهم تِبْيانُه ، فنحن نكون معهم في اجتنابه .
نحن نقول : كل دعوة إسلامية تقوم على التكتُّل المحض ، على التكاثر بالعدد ، وعلى اكتساب الأصوات الكثيرة في المجالس الانتخابية ؛ هذه ليست طريقة إسلامية ؛ لماذا ؟ لأشياء كثيرة أوضَحُها ما نحن فيه الآن ، أن هؤلاء الذين يريدون أن يكسبوا الأصوات الكثيرة لا بد من أن يُوفوا بدعوتهم الجماهير الغفيرة ، لا بد من ذلك ، وإلا خسروا المعركة ، إذا كانت المعركة ستقوم على كثرة الأصوات إذًا هم سيخسرونها ؛ فهم بين أحد أمرين ؛ إما أن يظلُّوا على هذا الطريق الذي نراه مباينًا للحق ؛ لأن الحق يكون بيِّنَ الحق ، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخره .
فإما أن يسلك هذا السبيل حينئذٍ هو لا يبالي هل استطاع أن يؤسِّس ؟ هل استطاع أن يكتِّل ؟ هل استطاع أن يُفهِّم الفكرة لجماعة كثيرين أو قليلين أو لم يستطع لا قليلًا ولا كثيرًا ؟ لا يهمه ؛ لأنه مُكلَّف أن يُبلِّغ دعوة الحق ، ثم هالناس الذين يدعوهم قد يكون فيهم خير ومحبِّين للحق وطالبون له سيستجيبون لدعوة الحق ، وإما أن لا يكون فيهم خير - لا سمح الله - فحينئذٍ اللوم ليس على الدَّاعي إلى الحق ، فضلًا أن يكون اللوم على دعوة الحق ، وإنما على الذين دُعُوا فلم يستجيبوا .
نحن نعلم من القرآن الكريم أن نوحًا - عليه الصلاة والسلام - لَبِثَ في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا ، ماذا فعل في الألف سنة ؟ أمر عجيب جدًّا ، يدعو إلى الله ، وإلى ماذا ؟ يدعو إلى أمر يجب أن يكون الناس كلهم جميعًا على كلمة واحدة ؛ ألا وهي : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ بعد إيه ؟ ألف سنة إلا خمسين عامًا ، وهو رُسُل ، أول رسول بُعِثَ إلى أهل الأرض ؛ معناه أنه كما يقول العلماء : من أولي العزم من الرسل ؛ يعني يُوحى إليه من السماء ، يعني هو مُسدَّد ومُصوَّب في خطاه ؛ سواء كانت ... .
الفتاوى المشابهة
- ما هي الدعوة السلفية ؟ وهل يجب على كلِّ مسلم أ... - الالباني
- فائدة : بيان السبب الذي لأجله يجب أن تكون الدع... - الالباني
- تتمة الكلام عن سؤال : هل الجهر بالدعوة السلفية... - الالباني
- بيان موقف الدعوة السلفية من المذاهب وأئمتها . - الالباني
- تعليق الشيخ على ما جاء في الكلمة من تمسك السلف... - الالباني
- بيان ضرورة التمسُّك بالكتاب والسنة على فهم الس... - الالباني
- تعليق الشيخ على ما جاء في الكلمة من تمسُّك الس... - الالباني
- بيان الشيخ لضرورة التمسك بالكتاب و السنة على ف... - الالباني
- ما هي الدعوة السلفية.؟ - الالباني
- تكلم على أن دعوتنا هي إتباع الكتاب والسنة على... - الالباني
- التعليق على كلمة وبيان أهمية التمسُّك بمنهج ال... - الالباني