ما هو المنهج الصحيح لفهم فقه الواقع ؟ وما وصيتكم للغالي فيه وللجافي عنه ولمن يقع في العلماء وأنهم لا يفقهون الواقع .؟
الشيخ محمد ناصر الالباني
السائل : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فضيلة الشيخ يعني يدور اليوم في الساحة الإسلامية عمومًا وجهات نظر يستطيع أن يقول القائل عنها : بأنها مختلفة في ظاهرها وقد يوفق بينها لو وجهت إلى التوجيه الصحيح، ووجهة النظر هذه بما يظهر لي فيما كثر من الحوادث الطارئة على الساحة الإسلامية التي أصبحت متتابعة وقد يصدق عليها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : يوشك أن تتابع عليكم الفتن .
فانتقل الناس يريدون أن يحللوا هذه الفتن ويضعوا لها علاجًا ونحسبهم إن شاء الله أنهم على نية صادقة ، فأصبحوا بهذا التحليل ما بين غالٍ وجاف حتى تميز شيء في الساحة يسمى بفقه الواقع .
والسؤال هو : ما هو المنهج الصحيح على ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لهذا الفقه بين الغلو فيه أو الجفاء عنه ؟ هذا أولًا .
وثانيًا : ما وصيتكم - حفظكم الله - لمن غلا فيه ولمن جفا عنه ؟ .
وثالثًا : الوصية لمن ينتقد العلماء الأجلاء بأنهم لا يفقهون الواقع ؟ وقد يحمله ذلك على أن يغلظ في العبارة فينزل من قدرهم عند من يسمعون منه مع تسليمنا - إن شاء الله - من باب حسن الظن به بسلامة نيته ولكن لم توفقه العبارة ؟ نعم شيخنا .
الشيخ : أحسنت وجزاك الله خير ، وأظنك أشرت في مطلع كلامك إلى الحديث المشهور وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي تجلى بأفضل مظاهره في فتنة الخليج ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أومن قلة يومئذ نحن يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله الرهبة من صدور عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت .
الواقع أن هذا الحديث كما قلت في مطلع كلمتي : تجلى في هذه الحرب الخليجية ، حيث اتفقت الكفار كلهم ضد دولة شعبها مسلم وإن كانت حكومتها تحكم بغير ما أنزل الله ، ولذلك صار كثير من الشباب المسلم الواعي لهذا التجمع والتحالف الكافر الذي تظاهر بالدفاع عن شعب مسلم ألا وهو شعب الكويت في طريق محاربته للشعب العراقي ، فإذا بالنتيجة تنعكس على الشعبين كليهما معًا فيصبح الشعبان محتلين من قبل الذي كان يحمل راية الدعوة إلى الانتصار للمظلوم ألا وهو الشعب الكويتي .
فعرف كثيرًا من الباحثين الناقدين اليقظين من المسلمين من شبابهم وكهولهم أن هذه الفتنة عمياء صماء بكماء فتنبهوا لشيء سموه بفقه الواقع ، أنا لا أخالف في ضرورة هذا العلم الذي ابتدعوا له هذا الاسم ألا وهو فقه الواقع ، كأن الحقيقة أن كثيرًا من العلماء قد نصوا أن العلماء الذين ينبغي أن يتولوا توجيه الأمة وأن يضعوا لهم الأجوبة لحل مشاكلهم لا بد أن يكونوا عالمين وعارفين بواقعهم ، فمعرفة الواقع هذا واجب بلا شك من الواجبات التي يجب أن يقوم بها طائفة من المسلمين كأي علم من العلوم الشرعية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية أي علم ينفع الأمة المسلمة وبخاصة إذا ما تطورت هذه العلوم بتطور الأزمنة والأمكنة فلا بد من أن يكون هناك علماء في كل هذه الفنون ، ولكننا سمعنا ولاحظنا أنه صار هناك غلو ويقابله تفريط كما جاء في السؤال .
الغلو الذي ينبع منه ما يظهر لأنهم يريدون من كل عالم بالشرع أن يكون عالمًا لما سموه بفقه الواقع ، كما أن العكس أيضًا أوهموا السامعين بأن كل من كان فقيهًا بواقع العالم الإسلامي فيجب عليه أيضًا أن يكون فقيهًا بالكتاب والسنة .
ومعنى هذا المنطق فيما أفهم من ظاهر ذاك الكلام الذي سمعناه أكثر من مرة وإنما قرأنا شيئًا منه أحيانًا ، ظاهر هذا الكلام أنه ينبغي أن يوجد هناك نبي مصطفى مرسل من الله - تبارك وتعالى - إلى هذه الأمة ، ذلك لأنه لا يمكن لأي عالم مهما سما وعلا وكان من بين الناس مصطفى ولكنه لم يبلغ أن يكون نبيًا كذلك بإجماع الأمة أنه لا نبي بعده - عليه الصلاة والسلام - .
ومعنى هذا : أنه لا يمكن أن نتصور وجود إنسان كامل بكل معنى هذه الكلمة ، ومن ذلك أنه يكون عالمًا بكل هذه العلوم التي أشرنا إليها ويقتضيها هذه الكلمة فقه الواقع ، كأن هذا الكلام يوجب على العالم بالشرع مثلًا أن يكون عارفًا بالاقتصاد والاجتماع والسياسة، والنظم العسكرية وطريقة استعمال الأسلحة السريعة وإلى آخر ما هنالك ، وما أظن إنسان عاقلًا إذا تصور استحالة اجتماع هذه العلوم في صدر إنسان كامل مهما كان كاملًا ، هذا أمر مستحيل ولذلك الوسط بين الإفراط والتفريط ، الإفراط الذي أيضًا سمعنا بعض الناس يقولون : ما يهمنا نحن أن نعرف هذا الواقع - هذا خطأ - فالعدل أن يقال : لابد لكل علمٍ أن يكون هناك عارفون به ثم هؤلاء المتخصصون في مختلف العلوم التي يجب على مجموع علماء المسلمين أن يجمعوا هذه العلوم وليس أن يجمعها فرد واحد ، هؤلاء هم الذين يجب أن يتعاونوا في تحقيق مصلحة الأمة المسلمة ، وتحقيق ما ينشده كل مسلم من إقامة الدولة المسلمة وتحقيق المجتمع الإسلامي .
فمثلًا : الطبيب لا يجوز له أن يحكم في كثير من العمليات مثلًا الجراحية التي يقوم بها بأنها تجوز شرعًا ، يجب أن يستعين برأي العالم الفقيه بكتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى منهج السلف الصالح كما ندين الله به ، فمن الصعب - إن لم نقل: من المستحيل - أن يكون الطبيب المتمكن في علمه أن يكون أيضًا فقيهًا في الكتاب والسنة متمكنًا فيه ، هذا يكاد يكون مستحيلًا .
ولذلك لا بد أن يتعاون كل ذي فن مع ذي فن آخر ، وبذلك تتحقق المصلحة الإسلامية ، وهذه المسألة من البداهة بمكان ، فإن المسلم لا يكاد يتصور عالمًا خبيرًا بالكتاب والسنة ثم هو مع ذلك طبيب ، ثم هو مع ذلك يعرف كما يقولون اليوم فقه الواقع ، هذا بقدر ما يشغله هذا العلم ينشغل عن ذاك العلم، وبقدر ما ينشغل بذاك العلم ينشغل عن هذا العلم ولا يكون الكمال إلا بتعاون هؤلاء العلماء كل في اختصاصه مع الآخرين ، وبذلك تتحقق مصلحة الأمة .
لكن الذي نلاحظه دائمًا وأبدًا هو أن للعواطف الجامحة التي لا حدود لها أنه يكون من آثارها الغلو في ما لا بد منه ، فالذي لا بد من إما أن يكون فرضًا عينيًا فهذا يجب على كل مسلم ، وإما أن يكون فرضًا كفائيًا، فلا يجوز أن نجعل الفرض الكفائي كالفرض العيني ، فنقول مثلا : أن طلاب العلم يجب أن يكونوا عارفين بفقه الواقع ، يا أخي هذا علماء المسلمين الكبار لا يمكن أن نطلق هذا الكلام فيهن فضلًا عن أن نقول : أن طلاب العلم يجب أن يعرفوا واقعهم وما يترتب من وراء هذه المعروفة من فقه يعطي لكل حالة حكمها ، ولكن أيضًا لا يجوز لأحد من طلاب العلم أن ينكر ضرورة هذا الفقه بالواقع لأنه الحقيقة لا يمكن الوصول إلى تحقيق الضالة المنشودة بإجماع المسلمين وهو التخلص مثلًا من الاستعمار الكافر للبلاد الإسلامية أو على الأقل بعضها إلا أن نعرف ما يأتمرون وما يجتمعون عليه لكي يستمر استعمارهم واستعبادهم للعالم الإسلامي .
لكني أقول : ليست العلة محصورة بعدم معرفة فقه الواقع ، وبعبارة أخرى : ليست علة بقاء المسلمين فيما هم عليه من الذل واستعباد الكفار حتى اليهود لبعض البلاد الإسلامية ليس السبب في ذلك هو جهل الكثير من أهل العلم بفقه الواقع ، ولذلك فأنا أرى أن الاهتمام بفقه الواقع بحيث يُفهم العالم الإسلامي أن علة هذا الواقع المزري الذي يعيشه المسلمون إنما هو جهلهم بالفقه الواقع بفقه الواقع، لأن هذا بلا شك نعتقد أنه أمر يختلف فيه اثنان أو كما يقال في قديم الزمان : ينتطح فيه عنزان أن العلة الأساسية هي أولًا : جهل المسلمين بالإسلام الذي أنزله الله على قلب نبينا - عليه الصلاة والسلام - .
وثانيًا : هو أن كثيرًا من المسلمين من الذين يعرفون أحكام الإسلام في بعض شؤونهم لا يعملون بها ويهملونها ويهدرون العمل بها ، فلذلك حينما ينبه المسلمون إلى هاتين القضيتين : القضية الأولى : أن يُعنى العلماء العارفون بأحكام الشريعة في الإسلام الصحيح ، أن يُعنى هؤلاء بدعوة المسلمين إلى هذا الإسلام الصحيح ، وتفهيمهم إياه ثم تربيتهم على هذا الإسلام الصحيح ، هذا هو الحل الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة ، فحينما يقرأ هؤلاء المسلمون جميعًا قول الله : إن تنصروا الله ينصركم فمن المتفق عليه بدون خلاف والحمد لله بين المسلمين أن معنى : إن تنصروا الله أي : إن عملتم بما أمركم الله نصركم الله على أعدائكم ، وكذلك نصوص أخرى وأخرى كثيرة معروفة في الكتاب وفي السنة ، لكن من أهمها ما جاء في الحديث الذي يناسب تمامًا واقعنا حيث أن هذا الحديث وصف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الداء والمرض الذي سيصيب المسلمين فيما يأتي من بعده - عليه السلام - من زمان وقرن مع هذا الوصف الداء وصف لهم العلاج في ذاك الحديث المعروف ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذُلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم فإذًا ليس مرض المسلمين اليوم هو جهلهم بعلم ما ، نقول هذا معترفين أن كل علم ينفع المسلمين فهو واجب ولكن ليس سبب هذا الذل الذي حل بالمسلمين هو أنهم جهلوا هذا الفقه المسمى اليوم بفقه الواقع ، وإنما العلة كما جاء في هذا الحديث الصحيح أن يُهملوا العمل بما علموا من الدين ، فيقول : إن هذا هو المرض إذا تبايعتم بالعينة وهذه العينة نوع من المعاملات الربوبية ، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع كناية عن الاهتمام بأمور الدنيا والركون إليها وعدم الاهتمام بالشريعة ومن ذلك قوله - عليه السلام - في تمام الحديث : وترتكم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم .
وفي قوله - عليه السلام - : حتى ترجعوا إلى دينكم إشارة صريحة إلى أن الدين الذي يجب الرجوع إليه هو الذي ذكره الله عز وجل في أكثر من آية كريمة إن الدين عند الله الإسلام ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا .
فهؤلاء الدعاة الذين يُدندون اليوم حول فقه الواقع ويرفعون من شأنه - وهذا حق - لكنهم يُغالون فيه حيث يُفهمونه ربما بدون قصد أنه يجب ليس فقط على كل عالم بل وعلى كل طالب علم أن يكون عارفًا بهذا الفقه ، هؤلاء يعرفون جيدًا أن هذا الدين الذي ارتضاه ربنا - عز وجل - لأمة الإسلام قد تغيرت مفاهمه منذ قديم الزمان حتى فيما يتعلق بالعقيدة ، فتجد ناسًا كثيرين وكثيرين جدًا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقوم بسائر الأركان بل وقد يتعبدون بنوافل من العبادات كقيام الليل والصدقات بالأموال الطائلة وإلى آخره ولكنهم انحرفوا عن فهم مثل قوله - تعالى -: فاعلم أنه لا إله إلا الله .
هؤلاء الدعاة فيما نعلم يشاركوننا في معرفتهم بسوء الواقع اليوم بين المسلمين جذريًا ألا وهو بعدهم عن الفهم الصحيح للإسلام فيما يجب على كل فردٍ وليس فيما يجب على بعض الأفراد ، تصحيح العقيدة ، تصحيح العقيدة ، العبادة ، تصحيح السلوك ، أين هذه الأمة التي قامت بهذا الواجب العيني ليس بالواجب الكفائي، الواجب الكفائي يأتي بعد الواجب العيني ، ولذلك فالانشغال والاهتمام بدعوة الخاصة من الأمة الإسلامية إلى العناية بالفرض الكفائي ألا وهو فقه الواقع وإهمال الاعتناء بالفقه الواجب عينيًا على كل مسلم بما أشرنا إليه ، أقول والحالة هذه : إن في هذه الدعوة إفراطًا وتضييعًا لما يجب وجوبًا عينيًا على كل فرد من أفراد الأمة المسلمة وغلوًا في رفع شأن هو من الواجبات الكفائية ، ولذلك فأنا أرى أن الأمر كما قال - تعالى - : وكذلك جعلناكم أمة وسطًا فقه الواقع يجب هذا بلا شك ولكن وجوبًا كفائيًا ، إذا قام به بعض العلماء سقط عن سائرهم من العلماء فضلًا عن طلاب العلم فضلًا عن عامة المسلمين .
فلذلك يجب الاعتدال في دعوة المسلمين إلى معرفة فقه الواقع ، ويجب الدندنة دائمًا وأبدًا أن كل العلماء وفي مختلف اختصاصاتهم يجب عليهم أن يكونوا كما جاء في الحديث الصحيح : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد فهذا الجسد الواحد لا يمكن أن يشكَّل منه من أفراد الأمة إلا بالنظر إلى اختلافات الأنواع هذه ، فمثلًا نحن بحاجة إلى ناس مفكرين ، وهم العلماء على مختلف اختصاصتهم وبحاجة إلى منفذين كأيدي وأرجل ونحو ذلك وهم أفراد المجتمع ، وبذلك يتحقق هذا المعنى الجميل الذي ضربه الرسول - عليه السلام - مثلًا كمثل الجسد الواحد .
فتعاون إذًا من عرفوا فقه الشرع ومن عرفوا فقه الواقع هؤلاء يمدون هؤلاء بما عندهم من علم ، وهؤلاء يمدون أولئك بما عندهم من علم ، ومن هذا تعاون بين أفراد العلماء على اختصاصهم وتفرقهم في ذلك يمكن تحقيق ما ينشده كل مسلم غيور .
أما بالنسبة لما جاء في السؤال الأخير وهو الطعن في بعض العلماء لخطأ فهذا لا يجوز لأنه من التباغض الذي جاءت الأحاديث الكثيرة لتنهى المسلمين عن ذلك ، وإنما على كل من علم أمرًا أخطأ فيه أحد العلماء أن يقوم بتذكيره وبنصحه إن كان الخطأ في مكان محصور كان التنبيه في ذلك المكان دون إعلان وإشهار ، وإن كان الخطأ معلنًا ومشهورًا فلا بأس من التنبيه والبيان لهذا الخطأ أيضًا على طريقة الإعلان ولكن كما قال - تعالى - : ادع إلى سبيلك ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ولا يجوز أن ينال العلماء بعضهم من بعض إذا كانوا على كلمة سواء على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، أما إذا كانوا من المبتدعين الضالين فحينئذ هؤلاء لهم معاملة خاصة وأسلوب خاص .
هذا ما يحضرني جوابًا عما جاء في السؤال ولعلي ما أضعت شيء ، وإن كان هناك فأرجو التذكير
فضيلة الشيخ يعني يدور اليوم في الساحة الإسلامية عمومًا وجهات نظر يستطيع أن يقول القائل عنها : بأنها مختلفة في ظاهرها وقد يوفق بينها لو وجهت إلى التوجيه الصحيح، ووجهة النظر هذه بما يظهر لي فيما كثر من الحوادث الطارئة على الساحة الإسلامية التي أصبحت متتابعة وقد يصدق عليها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : يوشك أن تتابع عليكم الفتن .
فانتقل الناس يريدون أن يحللوا هذه الفتن ويضعوا لها علاجًا ونحسبهم إن شاء الله أنهم على نية صادقة ، فأصبحوا بهذا التحليل ما بين غالٍ وجاف حتى تميز شيء في الساحة يسمى بفقه الواقع .
والسؤال هو : ما هو المنهج الصحيح على ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لهذا الفقه بين الغلو فيه أو الجفاء عنه ؟ هذا أولًا .
وثانيًا : ما وصيتكم - حفظكم الله - لمن غلا فيه ولمن جفا عنه ؟ .
وثالثًا : الوصية لمن ينتقد العلماء الأجلاء بأنهم لا يفقهون الواقع ؟ وقد يحمله ذلك على أن يغلظ في العبارة فينزل من قدرهم عند من يسمعون منه مع تسليمنا - إن شاء الله - من باب حسن الظن به بسلامة نيته ولكن لم توفقه العبارة ؟ نعم شيخنا .
الشيخ : أحسنت وجزاك الله خير ، وأظنك أشرت في مطلع كلامك إلى الحديث المشهور وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي تجلى بأفضل مظاهره في فتنة الخليج ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أومن قلة يومئذ نحن يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله الرهبة من صدور عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت .
الواقع أن هذا الحديث كما قلت في مطلع كلمتي : تجلى في هذه الحرب الخليجية ، حيث اتفقت الكفار كلهم ضد دولة شعبها مسلم وإن كانت حكومتها تحكم بغير ما أنزل الله ، ولذلك صار كثير من الشباب المسلم الواعي لهذا التجمع والتحالف الكافر الذي تظاهر بالدفاع عن شعب مسلم ألا وهو شعب الكويت في طريق محاربته للشعب العراقي ، فإذا بالنتيجة تنعكس على الشعبين كليهما معًا فيصبح الشعبان محتلين من قبل الذي كان يحمل راية الدعوة إلى الانتصار للمظلوم ألا وهو الشعب الكويتي .
فعرف كثيرًا من الباحثين الناقدين اليقظين من المسلمين من شبابهم وكهولهم أن هذه الفتنة عمياء صماء بكماء فتنبهوا لشيء سموه بفقه الواقع ، أنا لا أخالف في ضرورة هذا العلم الذي ابتدعوا له هذا الاسم ألا وهو فقه الواقع ، كأن الحقيقة أن كثيرًا من العلماء قد نصوا أن العلماء الذين ينبغي أن يتولوا توجيه الأمة وأن يضعوا لهم الأجوبة لحل مشاكلهم لا بد أن يكونوا عالمين وعارفين بواقعهم ، فمعرفة الواقع هذا واجب بلا شك من الواجبات التي يجب أن يقوم بها طائفة من المسلمين كأي علم من العلوم الشرعية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية أي علم ينفع الأمة المسلمة وبخاصة إذا ما تطورت هذه العلوم بتطور الأزمنة والأمكنة فلا بد من أن يكون هناك علماء في كل هذه الفنون ، ولكننا سمعنا ولاحظنا أنه صار هناك غلو ويقابله تفريط كما جاء في السؤال .
الغلو الذي ينبع منه ما يظهر لأنهم يريدون من كل عالم بالشرع أن يكون عالمًا لما سموه بفقه الواقع ، كما أن العكس أيضًا أوهموا السامعين بأن كل من كان فقيهًا بواقع العالم الإسلامي فيجب عليه أيضًا أن يكون فقيهًا بالكتاب والسنة .
ومعنى هذا المنطق فيما أفهم من ظاهر ذاك الكلام الذي سمعناه أكثر من مرة وإنما قرأنا شيئًا منه أحيانًا ، ظاهر هذا الكلام أنه ينبغي أن يوجد هناك نبي مصطفى مرسل من الله - تبارك وتعالى - إلى هذه الأمة ، ذلك لأنه لا يمكن لأي عالم مهما سما وعلا وكان من بين الناس مصطفى ولكنه لم يبلغ أن يكون نبيًا كذلك بإجماع الأمة أنه لا نبي بعده - عليه الصلاة والسلام - .
ومعنى هذا : أنه لا يمكن أن نتصور وجود إنسان كامل بكل معنى هذه الكلمة ، ومن ذلك أنه يكون عالمًا بكل هذه العلوم التي أشرنا إليها ويقتضيها هذه الكلمة فقه الواقع ، كأن هذا الكلام يوجب على العالم بالشرع مثلًا أن يكون عارفًا بالاقتصاد والاجتماع والسياسة، والنظم العسكرية وطريقة استعمال الأسلحة السريعة وإلى آخر ما هنالك ، وما أظن إنسان عاقلًا إذا تصور استحالة اجتماع هذه العلوم في صدر إنسان كامل مهما كان كاملًا ، هذا أمر مستحيل ولذلك الوسط بين الإفراط والتفريط ، الإفراط الذي أيضًا سمعنا بعض الناس يقولون : ما يهمنا نحن أن نعرف هذا الواقع - هذا خطأ - فالعدل أن يقال : لابد لكل علمٍ أن يكون هناك عارفون به ثم هؤلاء المتخصصون في مختلف العلوم التي يجب على مجموع علماء المسلمين أن يجمعوا هذه العلوم وليس أن يجمعها فرد واحد ، هؤلاء هم الذين يجب أن يتعاونوا في تحقيق مصلحة الأمة المسلمة ، وتحقيق ما ينشده كل مسلم من إقامة الدولة المسلمة وتحقيق المجتمع الإسلامي .
فمثلًا : الطبيب لا يجوز له أن يحكم في كثير من العمليات مثلًا الجراحية التي يقوم بها بأنها تجوز شرعًا ، يجب أن يستعين برأي العالم الفقيه بكتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى منهج السلف الصالح كما ندين الله به ، فمن الصعب - إن لم نقل: من المستحيل - أن يكون الطبيب المتمكن في علمه أن يكون أيضًا فقيهًا في الكتاب والسنة متمكنًا فيه ، هذا يكاد يكون مستحيلًا .
ولذلك لا بد أن يتعاون كل ذي فن مع ذي فن آخر ، وبذلك تتحقق المصلحة الإسلامية ، وهذه المسألة من البداهة بمكان ، فإن المسلم لا يكاد يتصور عالمًا خبيرًا بالكتاب والسنة ثم هو مع ذلك طبيب ، ثم هو مع ذلك يعرف كما يقولون اليوم فقه الواقع ، هذا بقدر ما يشغله هذا العلم ينشغل عن ذاك العلم، وبقدر ما ينشغل بذاك العلم ينشغل عن هذا العلم ولا يكون الكمال إلا بتعاون هؤلاء العلماء كل في اختصاصه مع الآخرين ، وبذلك تتحقق مصلحة الأمة .
لكن الذي نلاحظه دائمًا وأبدًا هو أن للعواطف الجامحة التي لا حدود لها أنه يكون من آثارها الغلو في ما لا بد منه ، فالذي لا بد من إما أن يكون فرضًا عينيًا فهذا يجب على كل مسلم ، وإما أن يكون فرضًا كفائيًا، فلا يجوز أن نجعل الفرض الكفائي كالفرض العيني ، فنقول مثلا : أن طلاب العلم يجب أن يكونوا عارفين بفقه الواقع ، يا أخي هذا علماء المسلمين الكبار لا يمكن أن نطلق هذا الكلام فيهن فضلًا عن أن نقول : أن طلاب العلم يجب أن يعرفوا واقعهم وما يترتب من وراء هذه المعروفة من فقه يعطي لكل حالة حكمها ، ولكن أيضًا لا يجوز لأحد من طلاب العلم أن ينكر ضرورة هذا الفقه بالواقع لأنه الحقيقة لا يمكن الوصول إلى تحقيق الضالة المنشودة بإجماع المسلمين وهو التخلص مثلًا من الاستعمار الكافر للبلاد الإسلامية أو على الأقل بعضها إلا أن نعرف ما يأتمرون وما يجتمعون عليه لكي يستمر استعمارهم واستعبادهم للعالم الإسلامي .
لكني أقول : ليست العلة محصورة بعدم معرفة فقه الواقع ، وبعبارة أخرى : ليست علة بقاء المسلمين فيما هم عليه من الذل واستعباد الكفار حتى اليهود لبعض البلاد الإسلامية ليس السبب في ذلك هو جهل الكثير من أهل العلم بفقه الواقع ، ولذلك فأنا أرى أن الاهتمام بفقه الواقع بحيث يُفهم العالم الإسلامي أن علة هذا الواقع المزري الذي يعيشه المسلمون إنما هو جهلهم بالفقه الواقع بفقه الواقع، لأن هذا بلا شك نعتقد أنه أمر يختلف فيه اثنان أو كما يقال في قديم الزمان : ينتطح فيه عنزان أن العلة الأساسية هي أولًا : جهل المسلمين بالإسلام الذي أنزله الله على قلب نبينا - عليه الصلاة والسلام - .
وثانيًا : هو أن كثيرًا من المسلمين من الذين يعرفون أحكام الإسلام في بعض شؤونهم لا يعملون بها ويهملونها ويهدرون العمل بها ، فلذلك حينما ينبه المسلمون إلى هاتين القضيتين : القضية الأولى : أن يُعنى العلماء العارفون بأحكام الشريعة في الإسلام الصحيح ، أن يُعنى هؤلاء بدعوة المسلمين إلى هذا الإسلام الصحيح ، وتفهيمهم إياه ثم تربيتهم على هذا الإسلام الصحيح ، هذا هو الحل الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة ، فحينما يقرأ هؤلاء المسلمون جميعًا قول الله : إن تنصروا الله ينصركم فمن المتفق عليه بدون خلاف والحمد لله بين المسلمين أن معنى : إن تنصروا الله أي : إن عملتم بما أمركم الله نصركم الله على أعدائكم ، وكذلك نصوص أخرى وأخرى كثيرة معروفة في الكتاب وفي السنة ، لكن من أهمها ما جاء في الحديث الذي يناسب تمامًا واقعنا حيث أن هذا الحديث وصف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الداء والمرض الذي سيصيب المسلمين فيما يأتي من بعده - عليه السلام - من زمان وقرن مع هذا الوصف الداء وصف لهم العلاج في ذاك الحديث المعروف ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذُلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم فإذًا ليس مرض المسلمين اليوم هو جهلهم بعلم ما ، نقول هذا معترفين أن كل علم ينفع المسلمين فهو واجب ولكن ليس سبب هذا الذل الذي حل بالمسلمين هو أنهم جهلوا هذا الفقه المسمى اليوم بفقه الواقع ، وإنما العلة كما جاء في هذا الحديث الصحيح أن يُهملوا العمل بما علموا من الدين ، فيقول : إن هذا هو المرض إذا تبايعتم بالعينة وهذه العينة نوع من المعاملات الربوبية ، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع كناية عن الاهتمام بأمور الدنيا والركون إليها وعدم الاهتمام بالشريعة ومن ذلك قوله - عليه السلام - في تمام الحديث : وترتكم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم .
وفي قوله - عليه السلام - : حتى ترجعوا إلى دينكم إشارة صريحة إلى أن الدين الذي يجب الرجوع إليه هو الذي ذكره الله عز وجل في أكثر من آية كريمة إن الدين عند الله الإسلام ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا .
فهؤلاء الدعاة الذين يُدندون اليوم حول فقه الواقع ويرفعون من شأنه - وهذا حق - لكنهم يُغالون فيه حيث يُفهمونه ربما بدون قصد أنه يجب ليس فقط على كل عالم بل وعلى كل طالب علم أن يكون عارفًا بهذا الفقه ، هؤلاء يعرفون جيدًا أن هذا الدين الذي ارتضاه ربنا - عز وجل - لأمة الإسلام قد تغيرت مفاهمه منذ قديم الزمان حتى فيما يتعلق بالعقيدة ، فتجد ناسًا كثيرين وكثيرين جدًا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقوم بسائر الأركان بل وقد يتعبدون بنوافل من العبادات كقيام الليل والصدقات بالأموال الطائلة وإلى آخره ولكنهم انحرفوا عن فهم مثل قوله - تعالى -: فاعلم أنه لا إله إلا الله .
هؤلاء الدعاة فيما نعلم يشاركوننا في معرفتهم بسوء الواقع اليوم بين المسلمين جذريًا ألا وهو بعدهم عن الفهم الصحيح للإسلام فيما يجب على كل فردٍ وليس فيما يجب على بعض الأفراد ، تصحيح العقيدة ، تصحيح العقيدة ، العبادة ، تصحيح السلوك ، أين هذه الأمة التي قامت بهذا الواجب العيني ليس بالواجب الكفائي، الواجب الكفائي يأتي بعد الواجب العيني ، ولذلك فالانشغال والاهتمام بدعوة الخاصة من الأمة الإسلامية إلى العناية بالفرض الكفائي ألا وهو فقه الواقع وإهمال الاعتناء بالفقه الواجب عينيًا على كل مسلم بما أشرنا إليه ، أقول والحالة هذه : إن في هذه الدعوة إفراطًا وتضييعًا لما يجب وجوبًا عينيًا على كل فرد من أفراد الأمة المسلمة وغلوًا في رفع شأن هو من الواجبات الكفائية ، ولذلك فأنا أرى أن الأمر كما قال - تعالى - : وكذلك جعلناكم أمة وسطًا فقه الواقع يجب هذا بلا شك ولكن وجوبًا كفائيًا ، إذا قام به بعض العلماء سقط عن سائرهم من العلماء فضلًا عن طلاب العلم فضلًا عن عامة المسلمين .
فلذلك يجب الاعتدال في دعوة المسلمين إلى معرفة فقه الواقع ، ويجب الدندنة دائمًا وأبدًا أن كل العلماء وفي مختلف اختصاصاتهم يجب عليهم أن يكونوا كما جاء في الحديث الصحيح : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد فهذا الجسد الواحد لا يمكن أن يشكَّل منه من أفراد الأمة إلا بالنظر إلى اختلافات الأنواع هذه ، فمثلًا نحن بحاجة إلى ناس مفكرين ، وهم العلماء على مختلف اختصاصتهم وبحاجة إلى منفذين كأيدي وأرجل ونحو ذلك وهم أفراد المجتمع ، وبذلك يتحقق هذا المعنى الجميل الذي ضربه الرسول - عليه السلام - مثلًا كمثل الجسد الواحد .
فتعاون إذًا من عرفوا فقه الشرع ومن عرفوا فقه الواقع هؤلاء يمدون هؤلاء بما عندهم من علم ، وهؤلاء يمدون أولئك بما عندهم من علم ، ومن هذا تعاون بين أفراد العلماء على اختصاصهم وتفرقهم في ذلك يمكن تحقيق ما ينشده كل مسلم غيور .
أما بالنسبة لما جاء في السؤال الأخير وهو الطعن في بعض العلماء لخطأ فهذا لا يجوز لأنه من التباغض الذي جاءت الأحاديث الكثيرة لتنهى المسلمين عن ذلك ، وإنما على كل من علم أمرًا أخطأ فيه أحد العلماء أن يقوم بتذكيره وبنصحه إن كان الخطأ في مكان محصور كان التنبيه في ذلك المكان دون إعلان وإشهار ، وإن كان الخطأ معلنًا ومشهورًا فلا بأس من التنبيه والبيان لهذا الخطأ أيضًا على طريقة الإعلان ولكن كما قال - تعالى - : ادع إلى سبيلك ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ولا يجوز أن ينال العلماء بعضهم من بعض إذا كانوا على كلمة سواء على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، أما إذا كانوا من المبتدعين الضالين فحينئذ هؤلاء لهم معاملة خاصة وأسلوب خاص .
هذا ما يحضرني جوابًا عما جاء في السؤال ولعلي ما أضعت شيء ، وإن كان هناك فأرجو التذكير
الفتاوى المشابهة
- ما هي أفضل الكتب الفقهية في نظركم والتي إن درس... - الالباني
- كلمة للشيخ عن فقه أثر " تفقهوا قبل أن تسودوا ". - الالباني
- الكلام على فقه الواقع وأنه من أسباب الخلاف في... - الالباني
- ذكر الشيخ لمناقشته لناصر العمر حول كتابه فقه ا... - الالباني
- بيان ما هو الفقه في الدين الذي أراده النبي صلى... - الالباني
- تعريف فقه الواقع والدليل على وجوده عند السلف... - ابن عثيمين
- لقاء مع ناصر العمر حول فقه الواقع ومناقشة الشي... - الالباني
- ما الضابط الشرعي فيما يسمى بفقه الواقع وما ا... - ابن عثيمين
- سؤال عن التوفيق بين فقه الواقع وطلب العلم .؟ - ابن عثيمين
- كلمة الشيخ على فقه الواقع . - الالباني
- ما هو المنهج الصحيح لفهم فقه الواقع ؟ وما وصيت... - الالباني